مع كتاب الله عز وجل تفسير سورة التغابن(7) {والله بما تعملون بصير }


معنى البصر في حق الله تعالى

لازلنا مع هذه الإفادات القرآنية والحقائق التوحيدية التي يبثها كتاب الله عز وجل من أجل أن تكوّن القاعدة الفكرية للمؤمن التي على ضوئها يتصرف وبموجبها يهتدي في سلوكاته كلها. فقد مر بنا قول الله تعالى : {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مومن}، ثم عقب الله تعالى على ذلك كله {والله بما تعملون بصير} فهذه إضافة قرآنية أخرى وإفادة توحيدية لابد أن يكون الإنسان على بينة منها، لأن كتاب الله تعالى ليس فيه فضول قول وليس فيه لغو وليس فيه كلام تنمق به العبارة، وإنما كله فائدة وكله معنى، يجب على الإنسان أن يكون مستيقنا منه.

ففي هذا الجزء يقرر الله تعالى عن ذاته سبحانه وتعالى بأنه بصير {والله بما تعملون بصير} فوجب على المؤمن أن يعتقد ذلك في ربه؛ وهذه الصفة استوقفت علماء العقيدة قديما وقالوا عنها كلاما طويلاً انطلاقا من مواقعهم ومذاهبهم وما كانوا عليه. وكلمة بصير يمكن أن تفيد في اللغة العربية معنى الخبرة بالشيء والعلم به، فيقال فلان بصير بالطب أي له إلمام به وفلان خبير بالرجال وبتصرفاتهم، بمعنى : له حنكة ويستطيع أن يتعامل مع الرجال ويعرف كيف يتصرف، وفلان له بصر بالشعر أي له خبرة في الشعر يعرف جيده من رديئه. فهذا ورد في كلام العرب كثيراً، ويكون البصير هنا بمعنى الخبير والعليم، فيكون معنى ذلك أن الله بما تعملون  بصير، أي خبيروعليم. وهنا يتساءل بعض العلماء : إذا نحن فهمنا من قول الله تعالى بصير إنه عليم فمعنى ذلك أن الصفة تتكرر، أي صفة العلم معبر عنها مرة بعليم ومرة بخبير، ومرة معَبَّرٌ عنها ببصير؛ فتكون الألفاظ كثيرة وهي في نفس الوقت متواردة على معنى واحد، فيكون بصير بمعنى خبير أو بمعنى عليم، فليس فيها إفادة أكثر من إفادة معنى العلم، وكوْنُ الله عالما هذا أمْرٌ ثابتٌ بنصوص أخرى. قال الذين دافعوا عن هذا الأمر : إنه وإن كان “بصيرا” بمعنى “خبيرا” فيه من معنى شِدَّةِ الخبرة وزيادة الخِبْرة ما ليس في خبير، فبَصِيرٌ بالشيء بمعنى : أنه خبير به بالغ النهاية في الخبرة، فلا شك أن هنالك معنى زائداً. وكلامهم، وإن كان في بعضه الترادف فالتَّرَادُفُ ليس حقيقياً في كلام العرب، لأنّ التمحيص في هذ الأمر يفيد أن كل كلمة تفضل الأخرى أو تزيد عليها بجزء من المعنى، لكننا إذا نظرنانظرة عابرةٍ قلنا هذه كلمات مترادفة، فالسيف والإسليط والذّبال والمهند قالوا إنها أسماء للسيف، والحقيقة أنها أسماء للسيف من حيث الظاهر لكن كل اسم يفيد شيئا لا يفيده الآخر. فقد يكون السيف سيفا وليس إسليطاً أي ليس بتاراً، وقد يكون ولا يكون مهنداً لأنه لم يُصْنع في الهند، ولكن الذين ينظرون نظراً عابراً يسوُّون الأشياء ويقولون إن لغة العرب فيها مترادفات كثيرة، إن المترادفات إنما هي بحسب الظاهر وبحسب من لم يدقق القول. فإذن، فهم يجرون معنى بصير على هذا السياق، ويقولون إن بصيراً فيه معنى العليم، ولكن بإضافة معنى جديد وهو إفادة العلم الكثير والمبالغة في ذلك العلم. فيكون المعنى إن الله تعالى بصير بمعنى عليم.

وقد نذهب المذهب الآخر الذي يقول : إن البصير هو الذي له صفة البصر أي الذي يبصر الشيء كما أن السميع هو الذي يسمع؛ فعبارة فيها معنى البصر تُحيلنا على علم خاص وهو الإبصار، وهذا هو المذهب الثاني في فهم كلمة بصير.

وقد قالوا : إن هنالك مذهبا ثالثا ومعْنى آخر لبصير، وهو أن الله تعالى جَعلَ الأشياء تبصر، فالله بصير بالإشياء بمعنى أنه جعلها تبصر، فهذه الأشياء لم يَكن لها بَصَرٌ من ذاتها، لكن الله تعالى هو الذي أغْدَقَ عليها صفة الإبصار، فهو بصير لها بمعنى : مُبْصِر أي جاعِلها تبصر، وهذه المعاني كلها ليست ممتنعة بل كلها صحيحة في حق الله تعالى. فالله خبير، ومبصر، وجاعل الاشياء تبصر، وكل ذلك صحيح.

لكن الذي نتوقف عنده هنا هو التسليم بأن الله عزوجل مبصر. فأمّا إن قلنا بأنه عليم فإن الله حقا عليم، ولكن كلمة عليم لا تفيد ما تفيده كلمة بصير، لأن بصيراً فيها تغلغل في نوع من العلم، ومثل العلماء لهذا العلم بالنسبة للاعمى، فإن قيل إن هنالك أعمى يعلم أن السماء فوقه، فهذا علم يعلمه لكنه لم ير السماء فهو يعلم أن السماء فوقه، تحقق ذلك من كثرة ما سمع الناس يقولون ذلك، فهو عليم ولا يشك في أن السماء فوقه وليس هناك واحد من العميان يقول ربما تكون السماء تحت رجله؛ لا، كل العُميان ولو لم يبصروا السماء فهم علماء وموقنون بأن السماء فوق، ولكن هل رأوها؟ لا، إذن فالذي يعلم أن السماء فوقه عَلم، ولكن الذي يرى أن السماء فوقه يكون بتلك الرؤيا قد تحقق ذلك الأمر. فالرؤية أكبر من العلم، وهي العلم اليقيني؛ أي إذا صرتَ ترى الأشياء فهذا في درجة من التحقق أكثر من درجة العلم؛ فيمكن أن يقال لأعمى مثلا : إن السماء فيها  كذا وكذا، ويمكن أن يُدَلَّس عليه شيء، ويمكن أن تُلبَّس عليه الحقائق، لكن الذي يرى السماء قريبة أو أن السماء مُحْدَوْدَبة أو أن السماء حمراء مثلا، يقول : إن هذا ليس صحيحا لأنني أراها. فالإبصار يعطي علما أيْقن وأبْلغ فلذلك كانت كلمة بصير لا يكفي فيها أن يقال إن الله عليم، لأن الله يُثْبِت أنه فعلا بصير.

قصور عقول المعطلين لصفة البصر عند الله تعالى

لماذا يقف بعض الناس هذا الموقف ويقولون إننا نصرف كلمة بصير إلى عليم لأنهم يريدون التأويل بلا دليل وبلا ضرورة، ولأنهم يريدون تحكيم عقولهم في الأشياء التي لا قدرة للعقول أن تتصرف فيها.

فالمعتزلة قالوا : إن البصر والسمع إنما هي أشياء تتم بملامسة الهوى؛ مثلا بالنسبة للسمع، إنه يتمبملامسة الهوى لمراكز الإحساس أى الذبذبات في الأذن وتدخل الى الطبلة فيقع السمع. والبصر كذلك هو عبارة عن استقبال الاضواء وتعاملها مع شبكة العين وانقلاب تلك الصورة رأسا على عقب وتحليل تلك الصورة الى غير ذلك. وإذا كان السمع هكذا والبصر هكذا فإن ذلك لا يجوز على الله لأن الله ليس ذاتا مجسمة، إذن فمن هذا الباب قالوا من الأفضل أن نصرف السميع والبصير الى معنى العليم، لأن كلمة العليم أرحب وهذا فيه تعطيل للصفات، فالواجب أن نُثْبت لله صفة السّمع وصفة الإبصار فما الذي دفع بعض المعتزلة أو غيرهم إلى أن يقولوا هذا القول، لقد نظروا إلى الأشياء بمنظارهم وقاسوا الأشياء بعقولهم وكانت عقولهم محصورة كليلة، فما فهموا إلا أن السمع يتم على هذه الصورة، وإلاّ أن البصر يتم على هذه الصورة، فلذلك أشكل عليهم. ولكن حينما انفتح العالم علينا نحن رأينا أنواعاً من البصر فوق بصر الإنسان بأشكالكثيرة وليست في حاجة إلى بصر كما نرى. هناك الآن أجهزة للإبصار متطورة  تبصر  آلاف بل ملايين المرات أكثر من بصر الإنسان، ما كان المعتزلة يتصورون هذا. وهناك أجهزة ترصد بها حركات دول أخرى، وهناك ردارات الآن هي التي تبصر في الفضاء فترى الأمواج والطائرات وأشياء كثيرة، هناك أشياء لم تكن أبداً يتصور أنها تبصر، هناك أشعة ما فوق البنفسجية لم تكن تعرفها لكن العلم اكتشفها، اكتشف العلم بأن هنالك حيوانات أقل من الإنسان ولكنها تبصر مالا يبصر الإنسان، فالنحل مثلا يبصر الأشعة ما فوق البنفسجية. إذاً فهذا تمثيل قريب لبيان أن المثال ليس دائما صحيحاً لأن الإنسان ينظر بعقله الصغير ويقيس الأشياء الكبيرة على عقله الصغير، فمن ثم لا يستطيع أن يهتدي إلى شيء.

فوائد الاعتقاد بصفة الإبصار

إذاً فالواجب أن نسلم لله تعالى بالابصار وهو سبحانه مبصر كما يعلم هو ذاته، إذاً فهذه الصفة صفة الإبصار تزيد المؤمن من جهة استيقاناً بأنه يلجأ إلى ركن متين، راجع إلى إله قادر، لأن انحيازنا إلى الله تعالى ولجوءنا إليه وتفويض أمورنا إليه كل ذلك ناتج عن ثقتِنا به، وإذا انعدمت للإنسان ثقته بربه أيمكنه أن يعتمد عليه؟؟، أيمكنه أن يحيل الأمور عليه؟؟ أبداً لأنه يرى أن إلاهه غير قادر. فمن هنا كانت صفة الإبصار في الذات الإلهية مشجعة للإنسان المؤمن على أن ينحاز إلى الله تعالى وأن يقترب لأن الذي يلجأ إليه فعلا يراه ويستطيع أن يستجيب له ويستطيع أن يسمع دعاءه، فمن مقتضيات الرّبوبية الحقة أن يكون الرب مبصراً. فما معنى أن يكون الرب متحكّما في ملايين العباد وهو لا يرى واحداً منهم، هم من حوله، وهو لا يرى واحداً منهم؟ إذاً هذه الصورة فقط تكفي للتشكيك حينما كان الإنسان المشرك يضع تِمْثالاً يصور الذات الإلهية تصويراً سيئا، ويضع تمثالا من حجر هو ينحته ويضع له عينين كبيرتين ويوقفهأمامه و يسجد له صباح مساء. فهذا التجسيد في ذاته يدل على أنه ليس صالحاً لأن هذا الإله الذي يُصْنع تمثّل له عيون، والكافر هو أول من يعلم بأن هذه العيون لا تعْمل، عيون لا تتحرك، عيون لا توصل المعلومات، هي مجرد صورة تشبه العيون الحقيقية، ثم التجسيد في ذاته يدل على العجز أنت تصنع هذا الإله أمامك فيستقبل أمامه حيزاً من الكون ولكن ما وراءه بالنسبة إليه لا يراه، هذا لو فرضنا أنه يرى بعينيه فكل ما كان عند المشركين كان تخبطاً وكأن الشّيء يُشْعِر بأنّهم يريدون الحقيقة ولكنهم لا يصلون إليها، فلذلك أفاد القرآن الكريم أن هذا الرب الذي خلق الكون، والذي يلجأ إليه المؤمنون هو رب جدير بهذه الربوبية بدليل أنه يبصرهم، ويعلم جميع أحوالهم، بل هو يعلم في ليلة من ليالي الخريف، سقوط ورقة في عمق الغابات والادغال ومتى سقطت، ومتى وقعت على الأرض. {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطْبِ ولا يابسِ إلا في كتاب مُبين}(سورة الأنعام). فأنت إذاً أكثر من الورقة ومن الحبة، فإذا كان علم الله وبصره محيط بهذه الأشياء فكيف يغفل عنك وأنت في حجمك، وفي مكانك، وفي مقامك عند الله أكبر؟؟، لكن الذي ينقصك هو أن تكون فعلا معتمداً على الله ومتوجها إليه، وأن تصرف النظر عن جميع البشر حينئذ. هذه هي الحقيقة التي يطلبها الإسلام في الناس.

< د. مصطفى بنحمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>