الصحابة رجال القاعدة : كما أجملنا الحديث عن المبادئ التي أنشأت القاعدة التي أقامها رسول الله ، وعن شخصية المربي الأعظم الذي ربّى تلك القاعدة، نقول كذلك كلمة مجملة عن نوعية الرجال الذين قامت القاعدة على أكتافهم : {الله أعلم حيث يجعل رسالته} (الأنعام : 124).
إن اختيار الله لنبيه ، وللأرض التي تنطلق منها الرسالة، وللقوم الذين يتلقون الرسالة لأول مرة، وراءه ولا شك حكمة بالغة، فقد اختار الله لرسالته الخاتمة أعظم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، واختار أرضا يعلم الله أنها أنسب أرض تنطلق منها الرسالة الخاتمة.. أرض لا مطمع فيها في ذلك الوقت، لدولة من الدول العظمى التي تحكم الأرض يومئذ، لأنها صحراء جرداء، فتنشأ الجماعة المؤمنة وتتمكن، دون أن تتدخل سلطة خارجية لكبتها أو إضعافها، أو تعويقها عن مهمتها، حتى إذا تنبهت الدول >العظمى< لخطرها، وأرادت أن تتصدى لها، كانت قد أنشأت دولتها، وأنشأت قوتها الضاربة التي ترهب بها الأعداء.
أما البشر في هذه الأرض، فقد علم الله كذلك أنهم أصلح من يحمل هذه الرسالة، وينطلق بها في الآفاق.. وثنيون.. نعم .مشركون.. نعم. لُدّ الخصومة.. نعم. شديدو الجدال.. نعم. ولكنهم من وراء ذلك كله، أسلم فطرة من شعوب الأرض الأخرى، التي أفسدتها الحضارة الجاهلية بترفها ورخاوتها وإخلادها إلى الأرض، وانتشار المباذل فيها، كما كانت الإمبراطوريتان >العظيمتان!< عن يمين الجزيرة وشمالها : فارس والروم، فضلا عن استخذاء شعوبها لسطوة الحاكم المقدس الذي تخنع له الرقاب، ويتعامل مع شعبه تعامل السيد مع العبيد، فيطغى السيد ويخضع العبيد.
لقد كانت الجاهلية العربية قد أفسدت ولا شك نفوس العرب المشركين.. ولكنه -كما ثبت في الواقع- فساد في القشرة، لم يتوغل إلى صميم الفطرة، فما إن أزالت العقيدة الجديدة هذه القشرة الفاسدة، حتى اتصلت رأسا بعناصر الخير المذخورة في الفطرة، فأحدثت الأعاجيب.
وفيما عدا الكفار الذين أصروا على كفرهم، وقاتلوا هذا الدين بضراوة حتى قتلوا، فإن النفوس التي استجابت، قد استجابت استجابة رائعة، لا مثيل لها في أتباع الرسل من قبل، لسلامة فطرتهم تحت القشرة الزائفة، ولإخلاصهم العميق لهذا الدين، ولشجاعتهم واستعدادهم للبذل والفداء.
وعنصر آخر لابد من الإشارة إليه، هو استعدادهم للانتقال السريع إلى أي مكان جديد يستوطنونه فيكون وطنا لهم.. لا تشدهم إلى أرضهم تلك الروابط المقعدة، التي تشد الفلاح إلى أرضه، فيحس بالغربة إذا انتقل منها بضع خطوات، وبهذه الخصلة انتشروا في الأرض كما لم ينتشر شعب من قبل، يحملون الهدى والنور لكل البشرية.
تحدثنا حتى الآن حديثا مجملا عن عوامل ثلاثة، أسهمت في صلابة القاعدة التي أنشأها الرسول : عظمة المبادئ التي قامت عليها القاعدة، وعظمة المربي ، وسلامة الفطرة لدى الذين تلقوا المبادئ العظيمة، وتأثروا بعظمة المربي. ولم نتحدث بعد عن دور التربية التي قام بها رسول الله لأتباعه..
فالمبادئ قد توجد -وهي اليوم موجودة كما كانت يوم أنزلت من عند الله- ولكنها لا تعمل من ذات نفسها، مالم يبذرها المربي في نفوس أتباعه، ويستنبتها، ويتابعها بالرعاية والعناية والتوجيه. والمربي قد يوجد ولكنه لا يعطي تأثيره الكامل حتى يعطي الجهد اللازم لعملية التربية، فالتأثر التلقائي وحده لا يكفي لتربية النفوس، ما لم يبذل المربي جهدا إيجابيا في تعميق القيم المطلوبة، وترسيخها في النفوس.
ولقد تحدثت في كتاب آخر عن منهج التربية الإسلامية. ولكنا نريد هنا أن نحدد دور التربية في إنشاء القاعدة، لأنه الموضوع الذي يواجهنا اليوم في حركتنا اليوم المعاصرة، ونفتقده افتقادا حادا في كثير من المواضع.
قلنا فيما سبق إن الإيمان بلا إله إلا الله له تأثيره العميق في النفس البشرية، لأنه يعيد ترتيب الذرات في داخل النفس، كما يفعل التيار الكهربي في قطعة الحديد.. نعم، ولكن النفس الحية -برغباتها وهواتفها وأشواقها وانفعالاتها وجواذبها- لا تشبه قطعة الحديد الساكنة، التي يمكن أن تحتفظ بصورتها التي تكون عليها فترة غير قصيرة من الزمان.. بل إن قطعة الحديد ذاتها -وهي لا تنفعل ولا تتحرك في داخلها الأحاسيس- لا تحتفظ بوضعها الذي يحدثه التيار الكهربي إلى الأبد، مالم توضع لها حوافظ تحفظها من أن تتبعثر ذراتها مرة أخرى، كما كانت من قبل!
والنفس البشرية أولى -بانفعالاتها وأشواقها وجواذبها -أن تتبعثر مرة أخرى، إذا لم تقم حولها الحوافظ التي تحفظها من التبعثر والتي تعمل على إعادة ترتيب ذراتها، كلما همت أن ينفرط نظامها من جديد..
وكما أن قطعة الحديد لا تفقد كل مغنطيسيتها إذا تركت مدة بلا حوافظ ولكن تضعف فيها المغناطيسية بالتدريج، فكذلك النفس التي آمنت لا يضيع إيمانها كله إذا تركت طويلا بلا حوافظ، ولكن يضعف إيمانها بالتدريج حتى يصبح إيمانا غير فاعل، وغير قادر على التماسك، حتى كأنه غير موجود في عالم الواقع.. وهنا تبدو الحاجة الملحة إلى التربية على الإيمان، وليس مجدر الإيمان.
إن النفس البشرية تعاني في حياتها الدنيوية حركة موارة دائبة في كيانها، هي التي تحدثها الشهوات التي ورد ذكرها في كتاب الله المنزل : {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الدنيا والله عنده حسن المآب} (آل عمران : 14)
وقد أجملت الآية الكريمة ذكر الشهوات التي تتحرك داخل النفس وتحركها إلى أعمال معينة وسلوك معين. ولكن انفعالات الإنسان وأشواقه وهواتفه وجواذبه لا تكاد تحصى، ولا تكاد تنتهي، ولا تكاد تكف عن الإلحاح، كما قال الشاعر : >وحاجة من عاش لا تنقضي<.. ولذلك فالابتلاء قائم في كل لحظة، والحاجة إلى التربية قائمة في كل لحظة كذلك، حتى تستقيم النفس على الوضع المطلوب، وتتحرر من العبودية للشهوات، وتتعود على الاستقامة حتى تصبح بالنسبة لها هي الأصل، وينطبق عليها قوله تعالى : {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} (فصلت: 30).. ومع ذلك فلا عصمة للانسان من الخطأ، ولا أمان لأحد من هواتف النفس التي توقعها في الأخطاء، وإن كان باب التوبة مفتوحا أمام البشر على الدوام : >كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون< وهنا يظهر دور التربية وحاجة البشرية إليها، وضرورة الاهتمام بها إلى أبعد الحدود.
وليست التربية مطلوبة لضبط شهوات النفس وهواجسها وانفعالاتها فحسب، وإن كان هذا من الأسس التي لا غنى عنها، ولا تستقيم بغيرها حياة، ولكنها مطلوبة لمستويات أخرى من السلوك، ومستويات أخرى من القيم اللازمة للحياة..
لقد قدر الله للإنسان في حياته الدنيا ألوانا مختلفة من الابتلاء، بعضها ضغوط تقع عليه من داخل نفسه، وهي دوافعه ونوازعه وشهواته، وبعضها الآخر ضغوط تقع عليه من خارج كيانه، وإن كانت تؤثر على ما في داخل نفسه، سواء كانت ضغوطا سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ويدخل في هذه الأخيرة أعراف الناس وتقاليدهم، وكلها تنزع إلى إخضاع الناس لمقتضياتها، وإن كان الكثير منها في الجاهلية خاصة أهواء أكثر مما هي ضرورات حقيقية، أهواء يفرضها الذين استكبروا على الذين استضعفوا : {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن}(المؤمنون:71)
ولابد لكي تستقيم الحياة على المستوى اللائق بالإنسان، الذي كرمه الله وفضله على كثير ممن خلق، لابد أن يقاوم الإنسان هذه الضغوط، ولو تعرض بسبب تلك المقاومة إلى ألوان من الحرمان..
ولو تركت النفس بغير رعاية وتعهد، فإنها تصبح لينة القوام، ضعيفة لا تقوى على مقاومة الضغوط ، سهلة الانثناء والالتواء، فيطمع الذين استكبروا في استخدام مزيد من الضغط، ليحصلوا من الناس على مزيد من الاستسلام، وعندئذ يظهر الفساد في الأرض، أي يتمكن ويستشري :{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} (الروم : 41)… يستوى في هذا >الكسب< طغيان من يطغى واستسلام من يستسلم، فكله فساد يبعد الحياة عن صورتها السوية التي ينبغي أن تكون عليها..
وهنا يبرز دور التربية مرة أخرى لإكساب النفس الصلابة اللازمة لها في مواجهة الضغوط. والقيم والمبادئ هي الأحجار الصلبة التي تقي البناء النفسي من الانهيار عند أول صدمة أو الانثناء تحت الضغط، وعلى قدر التمسك الحقيقي بتلك القيم والمبادئ تكون الصلابة الحقيقية للنفس، وذلك التمسك هو الذي تحدثه التربية الصحيحة بجهدها الدؤوب، ولكنه لا يحدث في النفس حتى تكون قد تعودت من قبل على ضبط شهواتها وأهوائها، لأنه بغير ذلك لا تقوى على الصلابة ولا تطيق تكاليفها : {فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم} (الزخرف:43) {والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين}(الأعراف: 170)
ولا تنتهي الحاجة إلى التربية عند هذا الحد، ولا عند هذا المستوى من الأمور، وخاصة بالنسبة للمؤمنين، فقد اقتضت مشيئة الله ألا يكون الناس كلهم أمة واحدة:{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}(هود : 118-119){هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن)
ثم كان من سنته سبحانه وتعالى أن يقع التدافع في الأرض بين المؤمنين والكفار بين أهل الحق وأهل الباطل، لكي لا تفسد الأرض باستعلاء أهل الباطل فيها بغير رادع يردعهم {ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}(البقرة : 251)… ولا يعجز الله سبحانه وتعالى أن يدمر اهل الباطل ويبطل طغيانهم، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون : {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (النحل : 40) ولكن سنته اقتضت أن يجعل تدميرهم على يد أهل الحق، بعون الله وتأييده، وأن يكون هذا بالنسبة لأهل الحق جزءا من الابتلاء المقدر لهم في سنة الله، وتشريفا لهم ورفعة في ذات الوقت : {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} (محمد : 4). {فلم تقتلوهم ولكن الله فتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم} (الأنفال:17)…
مجاهدة الباطل ودفعه من أجل إصلاح الأرض وحفظها من الفساد هي القمة التي يصل الانسان إليها في الحياة الدنيا، وهي في الوقت ذاته ذروة سنام الاسلام: >ألا أخبرك برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه ؟قلت (والكلام لمعاذ بن جبل رضي الله عنه)، بلى يا رسول الله. قال : رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد<.
وهو أمر يحتاج إلى تربية طويلة وإعداد. إعداد نفسي وروحي قبل الإعداد الجسمي والمادي، وهو مستوى من مستويات التربية لا يتم حتى يكون الإنسان قد مر بالمستويين السابقين، فهو في حاجة إلى الصلابة النفسية التي ترتكز بدورها على ضبط الشهوات وهكذا تتدرج التربية في مستوياتها الثلاثة بدءا بالتدريب على ضبط الشهوات وتعويد النفس على الانضباط، مرورا باكتساب الصلابة بترسيخ القيم العليا في بنية النفس، وصولا إلى الاستعداد للجهاد والصبر على تكاليفه في النفس والمال..
ثم هنالك مستوى أخير، لا بد أن نشير إليه في حديثنا عن خير القرون، وخاصة جيل الصحابة رضوان الله عليهم، هو مستوى التطوع النبيل، الذي يتجاوز الواجبات والمفروضات، ويرتقي إلى المندوبات والمستحبات فيجعلها كالواجبات والمفروضات، بغير إلزام من الله ورسوله، ولكن حبا لله ورسوله، وعبادة خالصة لله ابتغاء مرضاته، وهو مستوى بلغ الذروة فيه ذلك الجيل الفريد الذي رباه رسول الله ، وإن لم يخل جيل من أجيال الأمة الإسلامية من أفراد يرتفعون إلى ذلك المستوى السامق الرفيع.
< ذ محمد قطب <