خطب منبرية: ما هي مكانة العلم في القرآن وفي السنة النبوية؟


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

في القرآن الكريم

… القرآن الكريم أعظم كتاب أشاد بالعلم وأهله، ورفع قدر “أولى العلم” و”العالمين”، ونوّه بمكانة “الذين أوتوا العلم”، كما بين أنه أنزل كتابه وفصل آياته {لقوم يعلمون}، كما بث آياته في الآفاق وفي الأنفس لهؤلاءالذين يعلمون.

يقول تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائمًا بالقسط}، فانظر كيف بدأ الله تعالى بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بأولى العلم، واستشهد بهم على أعظم قضايا الوجود، وهي قضية الوحدانية.

وقال تعالى: {هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}، وهو استفهام إنكاري معناه نفي التسوية بين أهل العلم وأهل الجهل، كما في قوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات}.

فالجهل بمثابة العمى، والعلم بمثابة البصر، والجهل كالظلمة، والعلم كالنور، والجهل حرارة قاتلة، والعلم ظل ظليل، والجهل موت، والعلم حياة، ولا يمكن أن يستوي الضدان في هذا كله.

وقال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء}، أي لا يخشى الله إلا العلماء الذين يعرفون مقامه، ويقدرونه حق قدره، والعلم الحقيقي هو الذي يورث الخشية.

وقد جاءت هذه الآية ـ أو هذا الجزء من الآية ـ بعد أن ذكر الله سبحانه بعض آياته في خلقه: في السماء والماء والنبات والجبال، ومن الناس والدواب والأنعام، مما يوحي بأن العلماء المذكورين هم علماء الطبيعة والكون والأرض والنبات والإنسان والحيوان. اقرأ قوله تعالى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء}.

وقال تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين}.

والأوفق بـ “العالمين” هنا: أنهم العلماء بالظواهر الكونية في الفلك وفي الأرض، والعلماء باختلاف الألسنة والألوان،أي علماء الكون، وعلماء الإنسان.

وقال تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}. فالأقرب أن القوم الذين يعلمون هنا: هم علماء الفلك والطبيعة الجوية، فهم أقدر الناس على معرفة أسرار كون الله تعالى واكتشاف سننه في جعل النجوم للاهتداء.

ومن هنا نرى أن العلم الذي أشاد به القرآن ليس مقصورًا على علم الدين وحده، وإن كان علم الدين له الصدارة والأولوية، لأنه العلم الذي يتعلق بالمقاصد والغايات، وعلوم الدنيا تتعلق بالوسائل والآلات، ولكنها مهمة أيضا لنماء الحياة وبقائها كما يريد الله تعالى.

وقال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون}.

أما مكانة العلم في السنة

… فقد جاءت الأحاديث النبوية فأكدت ما جاء في القرآن من فضل العلم، ومنزلة العلماء، من ذلك ما رواه معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين”.

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة”.

وعنه مرفوعا: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.

فمن خصائص العلم: أن نفعه مستمر، وأن أجره دائم، وأنه باق للإنسان حتى بعد موته، قال الحافظ المنذري: “وناسخ العلم النافع له أجره وأجر من أقرأه، أو نسخه، أو عمل به من بعده، ما بقي خطه والعمل به، لهذا الحديث وأمثاله، وناسخ غير النافع ـ مما يوجب الإثم ـ عليه وزره، ووزر من قرأه، أو نسخه، أو عمل به من بعده، ما بقي خطه والعمل به”.

وعن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما صنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء! وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر”.

قال الإمام الغزالي: ومعلوم أنه لا رتبة فوق رتبة النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة! ويعلق على استغفار من في السموات ومن في الأرض للعالم فيقول: “وأي منصب يزيد على منصب من تشتغل ملائكة السموات والأرض بالاستغفار له؟ فهو مشغول بنفسه (أي بعلمه)، وهم مشغولون بالاستغفار له”!

وعنزر بن حبيش قال: أتيت صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه، قال: ما جاء بك؟ قلت: أنبط العلم (يعني أطلبه وأستخرجه)، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم، إلا وضعت له الملائكة أجنحتها، رضًا بما يصنع”.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله، وما والاه، وعالمًا، ومتعلمًا”.

والمراد بلعن الدنيا: ذمها، وهي ليست مذمومة لذاتها، فإنها مزرعة الآخرة، وهي دار الإيمان والعبادة والجهاد في سبيل الله، وإنما تذم من حيث أنها دار للكفر والشر وعبادة الطاغوت، ومن حيث أنها تشغل عن الله تعالى وعن الدار الآخرة. ولهذا استثنى الحديث من الذم كل ما يذكر الإنسان بربه، ويصله بحبله، من ذكر الله، وما يحبه ويرضاه، من العلم النافع والعمل الصالح، والمقصود بالعالم والمتعلم: من يجمع بين العلم والعمل، فيخرج الجهلاء الذين لا يعلمون، والذين يعلمون ولا يعملون.

وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع” والمراد بسبيل الله: هو الجهاد.

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من جاء إلى مسجدي هذا، لم يأته إلا لخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله”، لأن كلاً من المتعلم والمجاهد يعمل لتكون كلمة الله هي العليا، هذا بقلمه، وهذا بسيفه.

كما حثت الأحاديث النبوية على إكرام أهل العلم وإعطائهم حقهم من الإجلال والتوقير، وحذرت من إضاعتهم وعدم المبالاة بهم.

فعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ـ يعني: في القبر ـ ثم يقول: “أيهما أكثر أخذًا للقرآن”؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد.

وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه”.

< د. الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>