واقع اللغة العربية في التعليم العالي (2/2)


هل يحمل ” الميثاق الوطني للتربية والتكوين ” جديدا  في مجال الدرس اللغوي العربي؟

ينص الميثاق على أن التعليم العالي الذي يخطط له يرمي إلى تحقيق أربع وظائف إنما هي أهداف تقنية محضة، تتلخص في “التكوين المستمر، وإعداد الشباب للاندماج في الحياة العملية، والبحث العلمي والتكنولوجي .. ونشر المعرفة” [الميثاق39 ]، وهي أهداف على ما فيها من إشارة إلى التكوين المستمر، تهمل جانبا أساسيا في تكوين شخصية المتعلم في هذه المرحلة الخطيرة من حياته، هو الجانب العقدي الذي يربى فيه الخلق ويهذب فيه السلوك ويقوم فيه منهج التعامل السوي السليم النافع.

بينما ينص في الوثيقة 1: التنظيم العام] على أن الإصلاح البيداغوجي للتعليم العالي يستهدف الأمور الأربعة الآتية:

< تمكين الطلبة الراغبين في متابعة دراساتهم بالسلك الثاني من اكتساب التكوينات والكفاءات اللازمة

< تمكين الطلبة الراغبين في ولوج سوق العمل من اكتساب التكوينات ذات الطابع المهني والقدرات التي تمكنهم من ذلك.

< تطوير مردودية النظام البيداغوجي.

< تلبية حاجيات المحيط الاقتصادي والاجتماعي.”

ثم يعطف على ذلك أهدافا أخرى يقال إن الإصلاح المقترح يتوخاها، فيبسط القول فيها، وهي:[الوثيقة1ص7]

“1 – تنمية القدرات المنهجية واللغوية والتواصلية لدى الطالب

2 – وضع نظام توجيه متدرج

3 – الإعداد للاندماج في المحيط الاقتصادي والاجتماعي

4 – نقل القيم الثقافية الأساسية”، وفي هذا الهدف الأخير ينص على أن التكوين الجامعي “يساهم   ـ وفق الإصلاح المقترح ـ بشكل كبير في النهوض بالقيم الثقافية والأخلاقية التي تقوم عليها الهوية الوطنية، وما تتطلبه تقوية روح المواطنة”، لكن، ما هي هذه القيم ؟ وكيف يتم النهوض بها ؟ وما هي الأقطاب والمواد والشعب والمكونات والوحدات والمسالك الكفيلة بتوفير ذلك ؟

إننا إذنثمن سائر الجهود التي بذلت في سبيل استنهاض الهمم وإثارة النظر للاهتمام بإصلاح التعليم وتوجيه المربي والمادة التعليمية والموضوع التربوي لنتساءل عن مدى قدرة هذا “الإصلاح” المزعوم على ترسيخ تلك القيم الثقافية الأساسية؟ وعلى حفظ هوية أبنائنا وتحصينهم، وإصلاح الأمة وترقيتها؟

ذلكم أن قضية التربية والتعليم لها من الخطورة والحساسية والعظم ما يؤثر في المسار الفكري والحضاري والمستقبلي للأمة؛ فعلى ضوئها يتحدد مسار الأمة، وعلى ضوئها يتقرر مسار الناشئة، وعلى أديمها تنعكس هوية الأمة ومقوماتها ويتبين مدى اعتزازها ومدى رسوخ قدمها في الوجود، وبأثرها تتشكل شخصيات الذين يتولون قيادتها وتدبير أمرها.

إذن فلا بد من توافر عناصر النجاح لأي مخطط بهذا الحجم وبهذه الأهمية!ولا بد قبل التفكير في التطبيق والتنفيذ من التريث  والتأمل والاستنصاحوالإنصات من أجل بلوغ المصلحة العامة واحترام مقومات المستهدفين بالمخطط؛ ومن من المفكرين والمربين والغيورين لا يطمح إلى إصلاح جذري شامل ينقذ التعليم بهذا البلد الأمين من التجارب الفاشلة التي توالت عليه وهو يلهث خلف استقرار مطمئن، وتخطيطات دقيقة وهادفة، والأمر بلا مراء يفتقر إلى وضع الأمور في نصابها، وتمحيص الاختيارات قبل تقريرها، وإعطاء القوس لباريها، ومراعاة المقومات الأساسية ونحن نتطلع إلى ولوج حصون الشهود الحضاري بوعي وأصالة وحكمة.

إن ما يدعى ب”الميثاق الوطني للتربية والتكوين” يستهدف ناشئتنا ويخطط للتربية والتعليم في بلدنا، ومن ثمة يكتسب أهميته وخطورته! وبالنظر السابر في الميثاق تبدو جملة من الثغرات العميقة، نجمل الإشارة إلى بعضها في الملاحظات التالية، مع ملاحظة أنه أعد في تكتم مطبق وتعمية قاتمة :

1 – أنه قد نسج في غياب العناصر الفاعلة والمتخصصة في العمليةالتربوية من العلماء والجامعيين والمفتشين والمربين

2 – أنه خلو من كثير من المكونات الأساسية للعملية التربوية في بلد له خصوصياته البشرية والعقدية والبيئية والتكوينية والاجتماعية، مثل عنصر التربية الدينية والخلقية للناشئة التي يستهدفها الإصلاح.

3 – أنه يرسخ التبعية الفكرية والحضارية والمنهجية بشكل مخجل، ويتضح ذلك في كثير من الاختيارات، من مثل الإلحاح على اللغات الأجنبية وإعطائها من العناية أكثر مما أعطيته اللغة العربية وموادها وشعبها.

4 – أنه يهمل بشكل فظيع أنواعا من التعليم والتربية كان لها الفضل الأكبر على امتداد تاريخنا في حفظ كياننا، وهي ما تزال قادرة على أداء رسالتها لو فكر فيها وعمل على تطويرها كما تتطور سائر المناهج والمكونات الأخرى من اقتصادية واجتماعية وسياسية .. كالتعليم الأصلي، والمسألة اللغوية ..

5 – أن هم المشروع الأساسي هو “تكوين يد عاملة مؤهلة قادرة على التكيف مع المحيط المهني .. ومزاولة الشغل في مختلف قطاعات الإنتاج والخدمات” [الميثاق ص36 بند 72 فق أ]، وكأننا إنما نريد تحويل المجتمع المغربي إلى آلات عمل وإنتاج وخدمات (أوتوماتيكية)، وليس تربية أجيال نافعة إيجابية، وتكوين رجال لهم مشاعرتوجه حركاتهم ومقومات تحكم مخططاتهم وتضمن مستقبل بلادهم قبل أن يكونوا عوامل إنتاج واستهلاك!

= ففي التعليم الأولي والابتدائي إشارة خجولة إلى “التشبع بالقيم الدينية والخلقية والوطنية والإنسانية” . .  عن طريق ” تعلم القيم الدينية والخلقية والوطنية والسياسية”[ص 32 "ب"] هكذا في جفاف تام وخلو من أي محفز أو إرادة موجهة للتكوين والتربية الإسلامية الفعالة المستمدة من القرآن والسنة وعلوم الشريعة والثقافة الأصيلة.

< وفي التعليم الإعدادي [ المجال الثالث: التنظيم البيداغوجي: الدعامة الرابعة: إعادة الهيكلة وتنظيم أطوار التربية والتكوين: ص34 - 35 فق 68 ] : ينص مشروع الميثاق في هذه الفقرة على الأهداف التي ترمي إليها التربية والتكوين في مرحلة هي من أخطر مراحل تكوين الشخصية الإنسانية للكائن البشري ؛ لكنه لا يشير أدنى إشارة ، أي لا يعطي أي مكان، للأمرين الأساسيين المكونين للأمة :

أ – للتربية الإسلامية والخلقية التي هي أساس تكوين الشخصية المغربية السوية !

ب – للغة العربية التي هي لغة الوحي ورابطة الإنسان المغربي بجذوره، ولغة بلادنا الرسمية، ولغة ثقافتنا  العريقة وحضارتنا الزاهية؛ حيث يخلو المشروع من أية إشارة إلى دعم تكوين التلميذ المغربي  في لغته الوطنية الأولى. ولا يشفع لهذا الخلل ما ورد فيما يشبه الادعاء الأجوف في آخر الدعامة (4) بند 88، ولا ما ورد في الدعامة (9) البنود 113-110.

ج- لمعرفة التلميذ بواجباته الدينية والوطنية والاجتماعية . . حيث لا يهتم المشروع أدنى اهتمام بتربية الطفل في هذهالمرحلة على معرفة واجباته ومسؤولياته في الحياة التي ينبغي أن يتعلم فيها كيف يتحمل المسؤولية، وتشعره بأن الحياة ليست حقوقا ومكتسبات ومتطلبات فقط، بل إن الحياة الإنسانية تقتضي في مقابل هذه الأشياء أن يكون لدى الإنسان -وخاصة إنسان اليوم- قناعة بضرورة العطاء، وقدرة على البذل كما تكون لديه الرغبة في الأخذ والاكتساب.

< ومثل حال الإعدادي حال الثانوي ! والأمر في هذه المرحلة أخطر!

- إهمال للغة العربية

- وإغفال للتعليم الديني والتربية الإسلامية

- واستبعاد للجانب الروحي والخلقي

- وغياب لشعب التخصص في الدراسات العربية والشرعية [ ص36 بند73 ]

< أما في التعليم العالي فقد عني الميثاق بمختلف الشعب والتخصصات إلا شعب الدراسات اللغوية والإسلامية ! وتحدث عن المواد الإلزامية  وعن وحدات التكوين والمجزوءات، وركز على علاقة التعليم والمواد والدروس والتطبيقات والتداريب بالبيئة وبالوسط الاجتماعي والاقتصادي.

لكنه لم يعط أي نصيب للتكوين في مجال الدراسات اللغوية والإسلامية، إلا كلاما لا غناء فيه خلال ما سمي بالدعامة التاسعة المعنونة ب”تحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها” مقرونا ذلك ب”إتقان اللغات الأجنبية والتفتح على الأمازيغية”[ص51 بند 110]، فقراءة مركزة في هذه الدعامة تكشف الفتور البالغ في الشعور بالعربية وأهميتها، تفضح التهميش المبيت للمواد الإسلامية! سوى بضعة أسطر فارغة من أي اقتراح جاد أو رغبة عميقة !

- ولم يشر الميثاق من قريب أو بعيد إلى تكوين الشخصية الإيمانية التي تقوي في المكوّن جوانب الإخلاص والإتقان التي يفتقر إليها الميثاق نفسه، ويفتقدها المواطن المغربي حيثما اتجه، بسبب البعد عن الله والجهل بأحكام الدين والإهمال للعبادة التي تربي في الإنسان الفضائل وتجعله فعلا ذلك المواطن الصالح الذي تدعي المشاريع والمواثيق أنها تهدف إلى تكوينه!

إن هذا البرنامج المزمع تطبيقه بحمولاته الحالية يحمل بين طياته عناصر سلبية لا يمكن أن تحقق أي مطمح من تلك المطامح!

فمتى يتعلم الطفل واجباته الدينية؟

ومتى يدرب على ممارسة الاتصال بخالقه؟

ومن أين يكتسب ما يجب عليه معرفته من دينه بالضرورة؟

وأي برنامج هذا الذي يهمل في الطفل المغربي المسلم جانبا أساسيا من مكوناته الذاتية والشخصية والضرورية؟

ولما ذا لا تدرج المادة اللغوية والإسلامية في جميع أسلاك التربية والتكوين ؟ وفي جميع المستويات والشعب والسنوات والفصول ؟

ولما ذا يهمل الدرس اللغوي، والمادة الأسلامية، هذان المقومان الأساسيان بهذا الشكل الفظيع؟

وهل تم التركيز في كل الخيارات على الفاعلين التربويين الحقيقيين، والغيورين على الدين والوطن؛ وعلى الخصوص في إحداث ما أسماه الميثاق ب”اللجنة الدائمة للتجديد والملاءمة المستمرين للبرامج والمناهج”[ص48 بند 107]

اللغة العربية في أفق التطبيق الفعلي للميثاق

أ – من أخطر آثار التطبيق الفعلي لبنود الميثاق على وصفه الحالي :

- تكوين أجيال ناقصة في الملكة اللغوية، وفي القدرة التعبيرية شفهيا وكتابيا باللغة العربية، بسبب انحسار اللغة العربية في ظلال هذا الميثاق.

- تدهور المستوى العام لتدريس اللغة العربية.

- لقد أولى المشروع اللغات الأجنبية اهتماما كبيرا على حساب اللغة العربية!

ذلكم أنه في الوقت الذي يقزم فيه دور اللغة العربية ويكاد يهمشها، نجده يوصي في بنود واضحة في إطار التحكم في اللغات الأجنبية، بأن:

“يدرج تعليم اللغة الأجنبية الأولى في السنة الثانية من السلك الأول للمدرسة الابتدائية،

“يدرج تعليم اللغة الأجنبية الثانية ابتداء من السنة الخامسة من المدرسة الابتدائية ..

“يدعم تعليم كل لغة أجنبية باستعمالها في تلقين وحدات أو مجزوءات ثقافية، تكنولوجية، أو علمية تسمح بالاستعمال الوظيفي للغة، والتمرن على التواصل بها ..

“تحدث الجامعات ومؤسسات التعليم العالي بصفة ممنهجة دروسا لاستدراك تعلم اللغات، بما فيها العربية، مقرونة بوحدات أو مجزوءات علمية وتكنولوجية وثقافية تستهدف إعطاء تعليم اللغات طابعه الوظيفي ..

“تسهر سلطات التربية والتكوين على تأسيس شبكات جهوية مختصة في تعليم اللغات الأجنبية خارج المناهج النظامية.

_ انعكاسات سلبية كثيرة للتنويع اللغوي على ذهنية الطفل وتحصيله، وعلى مسار مبدأ التعريب الذي هو محل إجماع، ويعد مطمحا غير قابل لأي نقاش أو مساومة .

ب – من أوجه الترشيد المقترحة :

إن أي تخطيط للسياسة التعليمية لهذه الأمة يستهدف التغيير أو الإصلاح أو الترشيد، الأمر الذي ليس محل خلاف أو جدال ألبتة، يفترض فيه:

1- أن يحترم بنود الدستور ومقومات الأمة بالفعل، واللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية، وهي من أهم مقومات الأمة، ذلك ما ينص عليه دستور المملكة بكل وضوح وصراحة.

2- أن لا يكتفى في ذلك بالادعاءات المموهة أو الفقر المعماة أوالتغطيات الجوفاء

3- أن تعطى اللغة العربية حيزها الطبيعي المتعين لها من حيث المواد والحصص والبرامج والأطر

4- أن يهدف كل تخطيط أو برنامج إلى تطوير اللغة العربية بحثا وأداة ومعجما ومنهجا ونشرا

5- أن يشفع التخطيط بميكانزمات العمل التطبيقي الفعلي لتحقيق تلك الأهداف

6- أن تكون نسبة مواد الدراسة الموحدة على المستوى الوطني 90% من مجموع مواد الدراسة، وأن توزع بشكل واضح منظم مدروس، وفي جميع المراحل والمستويات والشعب على الشكل التالي :

- 35 %  للمواد الإسلامية

- 35 %  للغة العربية

- 20 %  للمواد الأخرى

- 10 %  للشأن المحلي

- أن توضع المقاييس الموضوعية لعملية مراجعة البرامج والمناهج[بند107]، وكذا لاختيار مؤلفي الكتب المدرسية ومنهجيتها؛

ذ. رضوان بنشقرون

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>