ما أشبه اليوم بالبارحة؟
في مشاريع اصلاح التعليم الثانوي التي تمت مناقشتها في الموسم الدراسي 93- 1994 ببعض الأكاديميات، كان موضوع اكاديمية مراكش الذي تجرأ على إلغاء مادة التربية الإسلامية من الشعب العلمية والتقنية من الطلائع الأولى للتغريب والتخريب، وعلى الرغم من أن الفلسفة في ذلك الإصلاح حققت بعض المكاسب، إلا أن مشاريع التغريب انهزمت، وعادت من حيث أتت.
وكانت منهجية العمل في ذلك الإصلاح بسيطة وواضحة:
أعدت المشاريع في مؤسسات معينة، ثم عرضت على لجان جهوية في مؤسسات أخرى للمناقشة، وبعد الاتفاق على التعديل جاءت عملية التنفيذ، هذا بالأمس.
أما اليوم؛ فقد أعدت السلطة التربوية العليا منهجية عمل لمراجعة المناهج التربوية، وحددت المراحل والخطوات، بدأت بتعيين لجنةالاختيارات والتوجهات التربوية، ثم عينت اللجنة البيسلكية متعددة التخصصات، فصالت وجالت، ولكنها لم تحد عن الخط المرسوم، ثم عينت اللجن المتخصصة لمراجعة المناهج التربوية في كل مادة فوضعت المقررات حسب الصفة التي حددتها سلفا الوثيقة الإطار، وبعبارة مختصرة : مشروع الإصلاح جاهز تقريبا، ولم يبق إلا حذف كلمة “مشروع” على الرغم من تأكيد السلطة المركزية على أن هذا المشروع سينزل إلى القواعد للدراسة والتقويم.
وأتساءل على سبيل الافتراض : ماذا لو رفض هذا المشروع كله أو بعضه؟ هل ستقبل السلطة الوصية هذا الرفض؟ واذا قبلته هل ستعيد اللجنة البيسلكية النظر في المشروع، وتصوغه صياغة جديدة، ثم تجتمع اللجن المتخصصة للمواد لتبدأ عملها من جديد؟ وهكذا نضيع الكثير من الجهد والمال!
ولكن يبدو أن منهجية مراجعة المناهج التربوية غير منهجية فما أعد كمشروع سوف ينتهي إلى نفس الصيغة التي أعد بها سلفا، ولو دخله التعديل فسوف يكون شكليا فقط ورجال التعليم يعرفون كيف تمت عملية الاستشارة في مشروع مذكرة المراقبة المستمرة في السنة الأولى من التعليم الثانوي في بداية هذا الموسم.
هكذا يستيقظ مشروع مراكش بلباس عصري متفتح متشبع (بقيم المعاصرة والحداثة) يتحدى كل المواقع، ويجتاز كل الحدود ليصل الى المأمول الموعود : “إزاحة الدين، وإقحام الفلسفة”.
ولأننا قررنا في الميثاق أن نربط التعليم بالتنمية، فإن أية تنمية لا يتفلسف فيها المتخرجون حتى من الشعب الفنية والتقنية تظل تنمية عرجاء خرقاء، لا تروي الظمآن ولا تشبع الجوعان!!
والرائد لا يكذب أهله : فالفلسفة في الوثيقة الإطار، أعادت الانتشار في كل الأقطاب فباضت في الشعب، وفرخت في الجذوع والدورات، واعتلت عرش المكون الإجباري بلا نصب ولا تعب، فمنزلتها في الوثيقة لا تضاهى، وفرح المتفلسفين بها لا يتناهى!
ولكل دعوى حجج للإثبات؛ تنقض الوثيقة، وتكشف الحقيقة :
1- الفكر الإسلامي والفسلفة في المقررات الحالية : (الشعب والحصص)
فهذه المادة توجد في تمان شعب من أصل شعبة في التعليم الثانوي حاليا، منها 13شعبة في التعليم التقني.
2- الفلسفة في الوثيقة الإطار :
توزيع مجزوءات دورات السلك التأهيلي
فالفلسفة في الوثيقة الإطار تغطي 12 شعبة من أصل 14 شعبة، مع العلم أن هناك ثلاث شعب وردت في جداول الأقطاب بالوثيقة، ولم تحدد موادها الدراسية وغلافها الزمني بعد، وهناك مادة تسمى “علوم إنسانية” في شعبة علوم الأنشطة الحركية قد يجرفها تيار الفلسفة وتصبح من ممتلكاته، وبها خمس مجزوءات (150ساعة)، وفي المكون الإجباري الثاني.
وقبل أن نحلل الأرقام المذكورة أعلاه نسجل ملاحظة هامة هي أن المقررات الحالية تنص في لائحة المواد المدرَّسة على “الفكر الإسلامي والفلسفة” في جميع الشعب التي تدرس بها هذه المادة في السنتين الأولى والثانية الثانويتين.
أما في الوثيقة الإطار فقد تمحضت المادة للفلسفة، وأشركت معها السوسيولوجيا في شعبتين، وكفرت بالفكر الإسلامي في مختلف الشعب التي يتواجد بها اليوم.
ونعود إلى قراءة الأرقام في الجدولين أعلاه، وبدون كبير عناء يمكن استخلاص عدة أمور أهمها :
1- ارتفاع حصص الفلسفة في الوثيقة الإطار إلى 2430ساعة مقابل 1080ساعة في المقررات الحالية، وبعبارة رياضية : ارتفاع حصة الفلسفة في الإصلاح الجديد بنسبة 150% تقريبا، دون احتساب ما قد يمنح لهذه المادة في الدورة الأولى من الجذع المشترك في عشرة شعب.
وسينتج عن هذا الارتفاع المهول الذي لم يبرر علميا ولا تربويا أمور أهمها :
< أننا سنحتاج عند تطبيق هذا النظام الجديد الى توظيف ضِعْفَيْ ما لدينا حاليا من أساتذة الفلسفة تقريبا، دون الأخذ بعين الاعتبار مغادرة شيوخ الفلسفة للحياة المهنية بعد بلوغهم سن التقاعد في هذه الفترة
< أننا نضع الحواجزامام تلاميذ الشعب العلمية والتقنية بإقحام هاته المادة ضمن مواد التخصص أو شبه التخصص يجعلها في المكون الإجباري الأول أو الثاني دون أي مبرر
< أننا نغذي الشعب الأدبية بمزيد من لبن الفلسفة ليشبوا متفلسفين أقوياء في السفسطة والجدل، ضعفاء في مواجهة الحقائق والمشاكل والأهوال.
2- توجه سافر في المناهج التربوية نحو التغريب والتخريب، وذلك بتركيز مادة الفلسفة في السنوات الثلاث بالتعليم الثانوي، وفي أغلب الشعب، في مقابل هذا الإقحام الغريب في جسم كثير من الشعب يلغى الفكر الإسلامي كليا، وتحذف مادة التربية الإسلامية من أغلب الشعب.
3- جعل مادة الفلسفة في المكون الإجباري الأول أو الثاني يطرح أكثر من سؤال : لماذا تختص مادة الفلسفة بهذه الميزة دون بقية المواد المسطرة في المكون الاختياري ؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال أطرح سؤالا آخر للتمثيل فقط :
لماذا وضعت الوثيقة الإطار مادة “التوقيت” في الشعبة الشرعية بقطب التعليم الأصيل، ووضعت الفلسفة في نفس الشعبة في المكون الإجباري الثاني؟
هناك احتمالان لا ثالث لهما :
- الاحتمال الأول : الجهل التام بمادة التوقيت، ومضامينها العلمية، وموقعها في لائحة العلوم الشرعية، إذا كان هذا الاحتمال واردا فمعناه أن اللجنة البيسلكية كان يمثلها من أصحاب التخصص الشرعي من لا يحسن الدفاع عن مواقعه .
- الاحتمال الثاني : تطبيق قول الشاعر : “لنا الصدر دون العالمين أو القبر” فأما أن تكون الفلسفة في المكون الإجباري أو لا تكون أصلا، وأعتقد أن هذا الاحتمال أقوى وأرجح، ومعناه أن اللجنة البيسلكية رغم تنوع تخصصاتها قد تم انتقاؤها بعناية فائقة، وقد كان مبدأ إجبارية الفلسفة معروفا ومتداولا بين غالبية أعضائها.
ولذلك تجد في مجزوءات المكون الاختياري بكل شعبة مواد لها صلة قوية بالمجزوءات الاجبارية، ولكن الإصرارعلى تطبيق المبدأالمذكور أخرها وجعلها في أسفل القائمة. (راجع توزيع المجزوءات في السلك التأهيلي من الوثيقة) أعتقد أن الإجابة عن السؤال الأول أصبح واضحا جدا فلو زحزحت الفلسفة إلى المكون الاختياري لظل أساتذة هذه المادة في بطالة دائمة بالمؤسسات الثانوية، واذا كان هذا الاستنتاج غير صحيح فعليهم ان يثبتوا عكس ذلك، ويجربوا مادتهم في المكون الاختياري.
ثم إذا كان موقع الفلسفة في الشعب الأدبية موضوعيا، وفي بعض الشعب العلمية مقبولا، فلماذا هذا الإصرار على إقحام هذه المادة في كل ثقب وفي كل مجرى بنظامنا التعليمي؟ ألا يستطيع تعليمنا أن يخطو الى الأمام بدون مادة الفلسفة؟
ألا يستطيع التقنيون من أبنائنا أن يشتغلوا بنجاح في مهنتهم بدون رصيد فلسفي؟
ألا يستطيع الفنانون أن يبدعوا في مختلف أنشطتهم بدون دراسة الفلسفة؟ هل تحولت وزارة التربية الوطنية ببلادنا الى وزارة الفلسفة؟
أليس من حق المواد الأخرى في مناهج التعليم أن تطالب بنفس الامتياز الذي أغدق على الفلسفة في عهد الديمقراطية وسيادة القانون؟! نحن نطالب بان تعرض أعمال لجن مراجعة المناهج التربوية بمختلف مستوياتها على اللجنة التعليمية بالبرلمان، ثم على المجلس التعليمي الأعلى للبث في هذا الانحراف السافر في مِنْهَاجنا التربوي قبل اتخاذ أي إجراءات تنفيذ هذا المشروع الخطير الذي لا يقل صفاقة وتخريبا عن خطة إدماج المرأة في التنمية
فعلى الغيورين على تماسك هذا البلد وأمنه وسلامة دينه أن يسهموا في نقض هذه الوثيقة كل حسب موقعه، وأن يعملوا على نصرة الحق والحق أحق أن يتبع، ولله العزة ولرسوله وللمومنين.
< ذ. محمد المرنيسي