يقول الله عز وجل في محكم كتابه : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. الرعد في الآية : 12
وهي آية عظيمة تحتوي على قانون عظيم يكشف عن أسباب القوة والضعف والعزة والذلة في تاريخ البشرية كلها.
مفهوم التغيير
وقبل النظر في هذا الأصل لا بأس أن نورد كلاما في مفهوم التغيير.
1- التغيير في اللغة : جاء في لسان العرب : تغير الشيء عن حاله تحول، وغيره حوله وبدله وورد في حديث الاستسقاء >من يكفر بالله يلق الغير< أي يتغير حاله وينتقل من الصلاح إلى الفساد.
لسان العرب 5/40مادة “غير”
2- أما في الاصطلاح فان المفهوم لم ينأ عن المعنى اللغوي حيث بقيت مادة التحويل والتبديل بينة واضحة قال الجرجاني : التغيير هو انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى. التعريفات ص 63 و قال الراغب : التغيير يقال على وجهين أحدهما لتغيير صورة الشيء دون ذاته والثاني لتبديله بغيره. معجم مفردات ألفاظ القرآن ص 382 ومن المحدثين من رأى أن التغيير هو انتقال من حالة لا يرضى عنها إلى أخرى خير منها وهو انتقال يخضع لقانون يتخذ علاقة بين الهدف والوسيلة وطاقة الانسان وبين هذه الأركان توازن. حتى يغيروا ما بأنفسهم ص27.
فالتغيير -إذا- هو ذلك التحول الكمي والكيفي المعلن لانتهاء فترة وبداية أخرى أو لنقل : اللحظة الحاسمة بين عهدين متناقضين يتجاور فيهما الماضي والمستقبل تفصلهما الارادة بكل عناصرها الفاترة أو الحية.
وليس من شك أن المراد هنا استئناف حياة طيبة والبحث عن كل وسيلة موصلة إليها.
- فالتغيير المنشود هو ذلك الانتقال من عهد الفوضى والجمود إلى عهد التنظيم والحركة والتوجيه والبعث من جديد.
ومن هنا ندرك سر دعوة القرآن الكريم إلى التأمل في أيام الذين خلوا من قبل لاستخلاص العبر وادراك سنن الله في التغيير، ولو أن أهل القرىفعلوا ذلك فبدءوا في التنقيب عن أحوال الأمم البائدة وأسباب عزها وذلها، لكانوا أشد الناس اعتبارا وأعرفهم بسنن التغيير.
والمؤمن هو من يهتدي بهذا الكتاب ويتعظ بمواعظه التي منها هذه السنة التي يجب فقهها والقيام بحقها الوارد بنص صريح لا يحتمل التأويل {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
لقد أجمع المفسرون على أن المراد : لا يغير الله مابقوم من عزة وسلطان ورفاهة عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر واشراق البصيرة. تفسير المنار10/43
وفي خطبة للامام علي كرم الله وجهه كما نقله ابن كثير قال علي رضي الله عنه : كنت إذا أمسكت عن رسول الله ابتدأني وإذا سألته عن الخير أنبأني، وانه حدثني عن ربه عز وجل قال : قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاقي فوق عرشي ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعة إلا تحولت لهم إلى ما يحبون من رحمتي. تفسير القرآن العظيم2/504
هذه هي دعوة القرآن والسنة وهي دعوة تكمن فيها ضرورة فقه سنة التغيير خصوصا في المجالين التربوي والدعوي، فهما الأرضية الصلبة التي يشيد عليها البناء.
بعض مجالات التغيير
أ- أما في المجال التربوي فإن مفعول القرآن كله سيتعطل اذا ما أصبحت توجيهاته التربوية مجرد شعارات جوفاء وغدت آياته يتبرك بها وصار منتهى الدين هذه الممارسات العبادية الباردة التي لا تحدث في النفس أي انتباه أو حركة.
والآفة كل الآفة في هذه الظاهرة غير الصحيةالتي أقصت المسلمين عن ممارستهم العلمية لمفاهيم القرآن الكريم إذ إن الأسس التي وضعها القرآن للتكامل الاجتماعي والفردي غُيبت عن ذهنية الفرد المسلم وأضحى يتخبط في النطاق الضيق لذاتيته.
فالأمة تعوزها الحاجة الى حقيقة الترابط بين السلوك والعقيدة، ولن يتحقق ذلك إلا بعد البحث والتحصيل لإدراك هذه النتيجة التي يمكن تلخيصها في معرفة أركان الايمان والاسلام وشروطهما .
ومن ها هنا يمكن القول : إن فهم المسلم للفكرة الاسلامية مبدأ أساس وركيزة لإنشاء بنيان التغيير وأعني به البناء العملي، لأن المشكلة تكمن في التفاعل مع الاسلام، فالقضية آيلة إلى المسلم نفسه الذي هو في حاجة الى تفكير ثم إلى تدبير -بتقدير- لأنه محور الفعالية، وفعاليته رهينة بتفعيل مبدئه الذي من خلاله سينطلق.
فالانطلاقة الأولى لعملية التفعيل هي الاسلام مما يدل على أن مرحلة الروح مرحلة حساسة تؤسس في فكر الانسان أول ما تؤسس العبودية لله.
ب-وأما في المجال الدعوي :
فإن الداعية شأنه كشأن الطبيب العارف لا بد له -كي يحدث تغييرا من السقم الى البرء- أن يحيط بقوانين المرض، وكلما توغل علمه في كشف الظواهر المرضية، كلما كان حظه وفيرا لتحويل خلل الجسم الى توازن.
والمجتمعات الاسلامية تبدو عليها الأسقام التي لن تستعصي على كل ذي موهبة دعوية-رغم ضخامة الكم- الموازية للكفاءة العلمية إذ من شأنه قبل أن يباشر العمل أن يبحث عن مأتى الخلل بكل أسبابه ومقدماته اذا ما خابر السنن الاجتماعية التي يخضع لها هذا المجتمع أو ذاك، لأن الخبير يمكنه -بعد إدراكها- أن يتخذ إجراءات تغييرية ملائمة حسب الحاجة والضرورة.
وأول طريق الداعية العالم بالسنن هو التفاؤل بالتغيير، إذ إنه ينفخ في رُوعه الاقبال على العمل التغييري وكله ثقة واطمئنان وطمع في نجاح العملية التغييرية.
وحسبك بهذا زاد يضمن النفس الطويل رغم وعورة المسالك.
كما أن هذا النوع من الفقه يجعله محسوبا ضمن حملة هموم المجتمع ومشاكله لا باعتبارها مشاكل مزمنة يقف بين يديها مع الواقفين مشدوها يحوقل مع المحوقلين بل باعتبارها مشاكل في حاجة الى مصارعة فكرية لإيجاد الحلول ولو بعد حين.
وكلما عظم هذا في نفسه ووجدانه، هتف هاتف التجديد والتغيير في عمقه لينتهي به إلى أبعد مرحلة هي المتاركة والمفاصلة مع الجاهلية بكل ألوانها حتى لا يكاد يصبر على رؤية أحقر أثر من آثارها في أي جزء من بناء الاسلام كبر شأنه أو صغر.
والمجتمع الاسلامي أحوج ما يكون الى هذه العينة التي تكونت في جوهرها من الإرادة والذكاء والانتباه والمعاناة وهي عناصر رئيسة في منهج مشروع التغيير تحصر الضوابط والوسائل أولا ثم تربط العمل بالهدف ثانيا مع عدم إغفال سير العملية في ضوء كتاب الله وسنة رسوله وقواعدها الكلية.
وهي عملية أول ما يطالعنا من خلالها تصحيح العقيدة في النفوس وتعظيمها في القلوب لأنه أول مرض تشكو منه المجتمعات الاسلامية لأن مصيبة المجتمعات الاسلامية هي هذا النوع من الإيمان الذي لم تدرك فيه أغوار “لا إله إلا الله” وعمقها فقعد أفرادها بكل سراط يرددونها بألسنتهم دون أن تعيها آذانهم وهي في الواقع أول شرارة تمدهم بالحاجة الى التحول من أزمنة الذل والعار إلى مقامات العزة والكرامة في المعاش والمعاد.
من مقومات التغيير
أخلص بعد حديثي المقتضب هذا الى أن للتغيير مقومات وأركانا ينبني عليها:
< العقيدة الراسخة : قال عز وجل : {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} (الاعراف : 95)
والآية الكريمة تقرر أن الايمان الصحيح سبب للسعادة الدنيوية وانتفاء الضلال والشقاء وفتح لأبواب السماوات والارض. وما يهمنا أساسا في هذه الآية هو أن هذه العقيدة الايمانية وهذه التقوى ليست بمعزل عن واقع الحياة…… فمتى تفاعل هذان العنصران، عنصر الايمان الحق وعنصر التقوى المسيج لهذا الايمان، متى تفاعلا أُفيضت البركات من السماء والأرض وأُثمرت القوة المنطوق بها في قوله عز وجل : {ويا قومي استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة الى قوتكم} ولا ريب أن الاستغفار والتوبة لا يثمرهما الا الايمان الحق .
ثم إن هذه البركات وهذه القوة ما هي الا مظاهر حضارة وذلك متى سادت شريعة الله التي تطلق الناس أحرارا لا يدينون الا لله الواحد الأحد وتطلق طاقاتهم نحو العمل والانتاج وتأدية تكاليف الخلافة كان منتهى ذلك الفراغ من إنشاء الامة التي اخرجت للناس. فالايمان الذي عنته الآية هو هذا النوع الذي يشكل القوة الدافعة لتحقيق مشيئة الله في عمارة الارض بإحلال الخير فيها ومدافعة الفساد والشر وقطع دابريهما لترقية الحياة نحو الربانية المرجوة.
فمن غمط الحق -اذا- وقصور النظر أن نحسب هذا الايمان الذي تعيشه المجتمعات الاسلامية من ايمان متخيل في صورة تعبدية بحتة مقطوع الصلة بواقع الناس- أن نحسب هذا الايمان من النوع المحرك وننظمه في سلك الايمان المنتج والجالب للبركات الموعود بها.
وما حال الأمة عنا ببعيد، والخلل لا ينجم عنه الا الخلل. ولقد أحسن سيد قطب رحمه اللهحين تحدث في صميم هذا الموضوع فقال : >وحين تسير الحياة متناسقة بين الدوافع والكوابح عاملة في الأرض منطلقة الى السماء متحررة من الهوى والطغيان البشري عابدة خاشعة لله تسير سيرة صالحة منتجة لله تستحق مدد الله بعد رضاه فلا جرم تحفها البركة ويعمها الخير ويظلها الفلاح<(في ظلال القرآن 3/1339)
فقه الانسان لدوره في الحياة
لقد سبقت الاشارة الى أن وجود الانسان مغيا بالعبدية لله ولن يثمرها الا الايمان الحق والعقيدة النقية التي تثمر الاخلاص الى حد اشراب قلب العبد وفكره بوجهة الاسلام، فيغدو في طريق تفكيره ومقصد حياته ومنهج عمله وميزانه في تقويم الأشياء، كل ذلك يغدو فيه متطبعا بطابع الاسلام وهذه هي الوجهة والسبيل المؤدية الى الكمال الانساني الذي يريده الله تعالى
وتشرف هذه السبيل وتعظم وجهتها الربانية في النفوس كلما عظم سواد الميممين شطرها لأن الأمر يحتاج الى تآزر وتعاون حيث يتكون المجتمع المحكم مجتمع البنيان المرصوص ذو الرابطة القلبية التي ستظل وحدها الرابطة الوثيقة الموحدة بين الأفراد والمؤهلة لتأدية واجب تصدير الرسالة.
وانما يقع هذا حين يتم الاقبال على الله تعالى بقلوب واعية وآذان صاغية وأبصار نافذة قال تعالى : {ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}ق آية 37
فصاحب القلب الحي بين قلبه ومعاني الوحي أتم اتصال، فأول الطريقخضوعه لمنهج الله الذي يعتبر محطة تعبئة يستمد منها القوة والمنهاج وفقه دوره المناط به في التغيير.