لقد انقضى القرن الرابع عشر الهجري ودخلنا في القرن الواحد والعشرين ونحن ما نزال في بلادنا العربية ننتظر إنجاز “المشروع” الذي تزعمته تيارات وقيادات سياسية حزبية عسكرية تحت رايات مختلفة، ولا فتات متنوعة وأنظمة متشابهة أو متخالفة…
وقد كنا صغارا نعرف “مشروع” وطننا : طرد الاستعمار وتطهر أرضنا من رجسه وقوانينه وأنظمته، وتطبيق شريعة الله، العودة إلى الدين كاملا غير منقوص. على أن إنجاز هذا المشروع كان ميثاق المجاهدين في الجبال، والوهاد، والصحراء وقد نشأت الحركة السياسية في أحضان الجوامع الكبرى، والمعاهد الدينية، وبين مفاهيم الحركة السلفية. وقد كانت الوطنية أول أمرها تعني الإسلام، ومما كا يروج في الأوساط الوطنية الأثر المشهور >حب الوطن من الإيمان< اعتقادا أنه حديث شريف وعندما حلت الكارثة بفلسطين هاجر من المغرب شباب للجهاد في سبيل الله، وما زال بعض المجاهدين هنالك أحياء، وعندما يسر الله الرحلة إلى الشام (سوريا ولبنان) ثم مصر لطلب العلم فوجئت أن مشروع إخواننا العرب هو فقط >سحق إسرائيل<. ومن أجل ذلك اتجه الشعب العربي (والحقيقة هم شعوب ونحل وقبائل) إلى مساندة الانقلابات وما من بلد عربي إلا وقد تعرض للانقلاب أو لتحريض شعبه على حكامه، وكانت القاهرة مركز القيادة والريادة، ومنذئذ بدأ التركيز على مشروع الاشتراكية بعدما كان >القومية< و>الوحدة العربية< من الخليج إلى المحيط
بلاد العـرب أوطاني من الشام لبغداد
ومن نجد إلى يمن إلى مصر فتطوان
هكذا أصبح المشروع دولة الكفاية والعدل، أو وحدة عربية اشتراكية، ومن أهم استراتيجية المشروع >تحرير فلسطين< وأصبح هذا التحرير يمر عبر تحرير الأقطار العربية من الأنظمة الرجعية مما جعل >الوطن العربي< يدخل في دوامات من الصراع والفتن والاضطرابات والنزاعات، واستهلك جل العرب أنفسهم، وأموالهم وطاقاتهم وأوقاتهم في خدمة هذا الصراع الأخوي الداخلي هجوما أو دفاعا، وما زالت مظاهر ذلك سارية إلى الآن بشكل أو بآخر لاستفحال أعراض الشقاق، والتنازع تلك الأعراض الدالة على المرض المزمن في النفس العربية !!!!!
ومرت عقود فلم نر ولم نشاهد من >المشروع< شيئا إذ سرعان ما سقطت الأقنعة كما يعبر عن ذلك الشاعر عبد العزيز خوجة
سقط القناع على المسارح عن وجوه لم تكن إلا قناع
وقد خرت قلاع لم تكن أبدا قلاع
كانوا بالأمس بقناع الثورية والاشتراكية، والتقدمية، وسرعان ما سقط القناع عن قناع آخر بلباس مدني وباسم العلمانية و”المجتمع المدني” والليبرالية، واقتصاد السوق والعولمة. طغى على بلادنا بالأمس >مدُّ< التأميم، وتوزيع الثروة والتعبئة لتحرير فلسطين، وبين عشية وضحاها طغى عليها >جَزْزُ< التخصيص “الخصخصة أو الخوصصة والتعبئة من أجل السلام الشامل والعادل.. لقد كانت أخطر تهمة توجه في الماضي العمالة للصهيونية إن صدقاً وإن كذباً فأصبحت أخطر تهمة اليوم هي الإرهاب لعرقلة السلام والاعتداء على الصهيونية… لقد شاهدنا بين المد والجزر مهازل ومآس وكوارث إلا أننا لم نشاهد قط أي مظهر من مظاهر >المشروع< المبشّر به منذ أكثر من نصف قرن… وهنا يحق لكل مواطن مسحوق في خضم المد وفي انحسار الجزر وفي المرحلة الثورية. والمرحلة >المدنية< أن يتساءل أين هو المشروع..؟؟
الجواب ما ترى لا ما تسمع!!
إن الحقائق التي تجابهنا بصلابة ووقاحة وإصرار رسوخ دولة المسخ والرجس وتوسعها وتقدمها العلمي الهائل واستقرارها على أسس وديمقراطية تكفل لمواطنيها الحرية الكاملة في ظل دولة القانون… إنها دولة غربية في وسط العرب المتخلفين، هذه أولا والحقيقة الثانية : تهافت المشروع العربي وتساقطه كتساقط أوراق الخريف والجذوع النخرة والعروق الميتة المتلاشية
أما الحقيقة الثالثة فهي أن تحرير فلسطين انقلب رأسا على عقب فأصبحت الجهود، والطاقات بل والتخطيطات منصبة على تحريرها من رجالها الأفذاذ وأبطالها العظام من الشباب والأطفال. يقول الأستاذ باسم الجسر >وإن الأحلام الثورية الكبيرة لم تحرر فلسطين، ولم تنقذ العرب والمسلمين مما يعانون بل كانت منطلقات لمشاكل ونزاعات أخرى أضعفتهم وفرقتهم ومكنت أعداءهم منهم< (الشرق الأوسط 9/6/1999 العدد 7498)
تلك هي الحقيقة الرابعة : وهي تنشيط الفتن والتوترات بين الدول العربية وداخل الدولة الواحدة
والحقيقة الخامسة : ترسيخ التخلف بجل مظاهره للعرب ومن أهم تلك المظاهر والأعراض : ضعف الاقتصاد وتراجع النمو الاقتصادي والاعتماد على الخارج حتى في المواد الغذائية كالحبوب والزيوت، والتبذير والإسراف، واستيراد المحرمات وما لا لزوم له من العطورات والمساحيق والأصباغ (!!!!!) ومصادرة حريات الأفراد والجماعات، والإشادة بالأنظمة الطاغوتية، وتزيين مظاهرها وتحسين قبائحها بل والإشادة ببعض بلدائها والترويج لأفكارهم والغلو في الهتاف لهم وتصويب جميع أفعالهم وانتشار الفساد الإداري، وهجرة الأدمغة العلمية والقوى البشرية العاملة، وانتشار البطالة وارتفاع نسبة الطلاق والعزوبة والعنوسة وأزمات اجتماعية أخرى
إن “المشروع” لم ير النور إلى اليوم ولم ينجز منه أي شيء ومع ذلك مازال >الملأ< وأعوانهم وجنودهم وأزواجهم (أنصارهم) يملأون الدنيا بالكلام عن “المشروع” بل إن بعضهم زعم أنه حقق الكثير منه >إن لم تستح فاصنع ما شئت< إن الذي تحقق في الواقع الملموس والمشهود هو >اليأس< من التحرر والحرية والانعتاق. حتى أصبح مجال الاختيار أضيق من الضيق بين العيش الذليل المهين دون قهر مباشر أو بطش مفاجئ ومُيَاوِم وبين الاضطهاد المباشر والتفكير في الهجرة والحياة في بلاد الغربة والحرية.
ورغم ضيقه فالمتمتعون فيه محسودون عليه ومغبوطون. إن المشروع المحقق كما أعلن ذلك المخططون والآمرون والناهون >أن يعيش العرب حياة القرون الوسطى< وإن استعملوا منتجات القرن العشرين وما بعده وصدق الله العظيم إذ يقول {إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}.
إن المشروع العظيم والوحيد الذي تحقق في تاريخ العرب وفي حياتهم هو “الإسلام” وهو مشروع نشأ وطبق فعلا منذ أنزل الله على رسوله محمد العربي القرشي {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق} ومنذ شرع رسول الله وصحابته من العرب الأقحاح رضي الله عنهم في تطبيقه والحياة العربية تتغير إلى الأحسن والأعلى والأرضى إلى أن أصبحوا سادة العالم بما بلغوه من حضارة إسلامية وثقافة عظيمة، وبناء مدني شامخ روحه الإسلام … ولغته العربية… فهل يكابر أحد في أن حضارة القرآن هي المشروع الحضاري الوحيد الذي ظهر وانتشر وانتصر وعم العالم إلى الآن؟؟ ألا يستحي أولئك التافهون الذين مازالوا يروجون لكتب وأفكار مفكرين لا يصلحون، ولا تصلح أفكارهم إلا أن تُرمى في المزابل بل إن المزابل أشرف من أن ترحب بتلك الأفكار؟؟
إن المشروع الحضاري الإسلامي ينطلق من عقيدة التوحيد وهي عقيدة الأنبياء والرسل منذ آدم إلى خاتم الأنبياء سيدنا محمد وله نظام كامل، وتام ومتكامل في مجال العبادات وله نظامه العظيم في ميدان المعاملات وفي الاقتصاد والعلاقات الدولية في السلم وفي الحرب ولهذه الحضارة المنظومة العظيمة الكاملة للآداب والأخلاق، إنه مشروع كامل وحيوي وفيه مبادئ عظيمة للنظر والتطور والتجديد مع قواعد هامة وفريدة لتحقيق المقاصد الشرعية التي تتوخى أساسا منفعة الإنسان، وتحقيق مصالحه ودرء المفاسد عنه، وذلك في دائرة ثوابت عاصمة من الاضطراب والانحراف، فما يمنع العرب اليوم إن كانوا حقا احفاد عرب الأمس أن يعيدوا بناء أنفسهم بحضارة أجدادهم الذين جاءوا للعالم بأعظم حضارة في التاريخ بعد أن غَيَّروا أنفسهم بالإيمان وتخلوا عن الجاهلية التي كانوا في ظلها يعيشون على هامش التاريخ بل تحت سيطرة الروم وفارس والحبشة. إن الإعراض العربي عن المشروع الحضاري الإسلامي أمر محير في الحقيقة، هل سبب ذلك هو الجهل به؟ أو هناك سبب أو أسباب أخرى؟؟
المستغرب في الأمر أن هناك فلولا من عهود الهزائم والويلات والكوارث والأوهام الأيديولوجية ما تزال تحلم بعودة التاريخ إلى الوراء وذلك بالاصرار على تغريب المسلمين عن طريق ما يسمونه ب>العلمانية< مع وضوح الإخفاق الذريع لها في تركيا التي ماتزال تحسب من العالم الثالث أي عالم التخلف والتبعية والفتن الداخلية، وتورم العملة والديمقراطية العسكرية، وغياب حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية وتسلط الفساد والانتهازية وسوء الإدارة ونفوذ المافيات وانهيار الاقتصاد وهي الآن مرفوضة من المجتمع الغربي وإن انتسبت إلى حلف الناتو فلا هي غربية ولا إسلامية ولا هي دولة حديثة ولا قديمة، ولا هي مجتمع مدني، إنها دولة مرقعة ليس فيها وجه واضح سوى محاربة الإسلام بجدية واستمرار وتحد في ظل قداسة العسكر وحصانتهم!!
إن محاولة تغريب العالم الإسلامي هي محاولة تتسم بالبلادة والبلاهة والفدامة (الحماقة والجفاء وقلة الفهم) فالحضارة لا تشترى ولا تباع إنها ليست سلعة وإنما هي روح وإيمان وعقل تنقدح شرارتها بالدين والعقيدة… ثم إن الحضارة الغربية نفسها قد أشرفت الآن على الانهيار كما توقع ذلك كبار عقلائها لإنها فقدت روحها المبدعة، وقواعدها الأخلاقية، ويكفي أنها تتواطؤ الآن على ما يحل بالشعوب الإسلامية من تقتيل وتشريد وانتهاك للأعراض، وتهديم للمساجد، وإحراق للكتب داخل أوروبا المتحضرة وخارج عالم الغرب على السواء. استمع رحمك الله إلى آخر الأصواتإدانة لهذه الحضارة.
يقول الأمين العام لليونيسكو فيدريكو مايور في كتابه >نظرة في مستقبل البشرية..< >وحينما نتعرض لتحليل ما يسمى بالحضارة الغربية والأوروبية بصفة خاصة، فإننا نلاحظ فيها تزايد الأمارات التي تنذر بالانحلال من آفات ووجوه نقص (ص31) ويتحدث عن المجتمع المنحل وهو ينظر إلى المجتمعات الغربية أما مجتمعاتنا في ظل الطاغوت (كل ما عبد من دون الله) والقيادات تحارب الإسلام وتستغله فلا وزن لها في مثل هذه الدراسات الحضارية الجادة والجديدة يقول البروفسور مايُور >المجتمع المنْحَل هو الذي لا يدرك أن الانجاز العظيم حقا هو المحافظة على الطهارة والعطاء والأصالة وتأصيل هذه القيم في صفوف جماهير الشعب. المجتمع المنحل هو الذي تصل فيه زمرة من المتسلقين إلى الحكم فلا يكون همهم إلا تكميم مواطنيهم والحيلولة بينهم وبين حرية التفكير محيلين إياهم إلى مجرد عبيد. الحضارة المنحلة أو التي هي في طريقها إلى الانحلال هي التي تسمح لممثليها بالتلاعب وبإخفاء الحقائق أو تزييغها عند عرض الأحداث أو عند الحديث عن منجزاتها أو مشروعاتها(ص31)
ثم يقول >نحن نرى أنفسنا اليوم إزاء عصر موشك على الأفول بحضارته وبالايديولوجيتين اللتين كانتا أساسا لهذه الحضارة< وقد علق بهذا القول على تساؤل طرحته إحدى الكاتبات عن أي قيم يمكن أن تبقى محترمة مَرعية في عالم نرى فيه جهود العلماء والمخترعين موجهة إلى تدمير حياة الإنسان بدلا من تمكينه من البقاء.. (ص75)
إن الأيام لا تكف عن تعرية أنفسنا أمام أنفسنا وأمام العالم ونحن مازلنا مُصرِّين على المكابرة والغرور وخداع النفس، وهناك إجماع عند الذين ظلموا أزواجهم (أنصارهم) وعبيدهم على وجوب الاستمرار في التدهور والسقوط مادامت >الملايين< مصونة والموارد مضمونة ولأم الحر الغيور المخلص الكفء الهبل (أي الشكل) وهل يرجى الخير والعقل والإنصاف والتوبة من أحفاد تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض جبلة وطبيعة {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون}.
إن الجهود التي بذلت وتبذل لتحقيق >المشروع< المستحيل والعديم التصور السليم والفارغ المحتوى والمرقع بسبعين رقعة واهية لم تنته بنا إلا إلى سلسلة من الانتكاسات ومتواليات من الاختناقات ولم تكن الحصيلة سوى ما نرى وما نعيش، فلو أن تلك الجهود، والأحوال ، والحركات والطاقات البشرية والطبيعية والعلمية وُجهت لخدمة المشروع الإسلامي الجاهز لتحقق ذلك دون إبطاء أو التواء أو خيبة ولشهد عالمنا انطلاقته الحضارية العظمى من جديد لأن الشعوب الاسلامية ومنها الشعب العربي لا تفتح مغاليق روحها وحماسها وطاقتها ووفائها وولائها إلا بالإسلام، وعندئذ يقع التجاوب التام وتتكتل الإرادات وتتركز الجهود فتختصر الأزمنة وتتزوى الأرض والمسافات أكثر مما وقع في الصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية، وعندئذ يعلن بحق عن الإقلاع الحضاري المنشود، لكن الأوضاع السائدة ما تزال بعيدة عن هذه المبشرات إذ عمى البصائر والقلوب وطغيان الشهوات واستحواذ النزوات يدل على دوام الاستمرار في صنع المراحل المستقبلية المشؤومة المنطلقة من مبادئ منحرفة وانطلاقات خائبة لأن القيادات المتلفة حسب تعبير مايور لا يصدر عنها إلا ما يقود إلى الكوارث وينجز الهزائم ويجر إلى إذلال الأمة وتمزيقها من الأوحال والرِّداغ (جمع ردغة :الوحل الكثير والشديد) وفي أسباب عوائق الملك واقامة الدولة وترسيخ المذلة للقبيل بالانقياد إلى سواهم كما يقول ابن خلدون وذلك هو المشروع الذي تحقق فعلا مما استتبع الاستسلام والتبعية المطلقة وإلى الملتقى بعد خمسين سنة من التيه.
- د. عبد السلام الهراس