تعتبر الاسرة عند الغزالي خلية اجتماعية صغرى تمثل منطلق الطفل الاول نحو لعب الأدوار الطلائعية في المجتمع الكبير، لهذا يرى أن الصبي >أمانةعند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية من كل نقش وصورة وهو قابل لكل نقش ومائل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُوِّدَ الخير وعلمه، نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه….. وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له<(1) ونفهم من هذا أمورا مهمة:
1- كون الطفل أمانة ، والأمانة تستوجب الحفاظ عليها ضد أي مكروه وذلك انطلاقا من قول الله عز وجل : {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}(2)
2- كون قلب الطفل خال من كل نقش أو صورة، وهو بهذا الاستنباط الدقيق (اي الغزالي) قد سبق >علماء النفس التجريبيين الانجليز أمثال “جون لوك” و”دافيد هيوم” في القرن السابع عشر، تلك النظرة التي تقول إن الطفل يولد، وعقله صفحة بيضاء لا أثر فيها لأي شيء فالعقل لا أثر فيه للمعرفة، مالم يتلقاها عن طريق التجربة، عن طريق البيئة(اي الأسرة)(3)، أما الدراسات والأبحاث في المجال الاجتماعي والنفسي فقد أكدت >ما للتنشئة الاجتماعية الأسرية من عميق الأثر في تكوين شخصية الطفل وتشكيلها، وخاصة خلال مرحلة الطفولة الأولى حيث يكون الطفل سهل الانقياد والتأثر ، سهل التشكل ، شديد القابلية للتعلم<(4)
3- كون الطفل طاهراً، والطهارة دليل الفطرة، أما الانحراف الذي يصيب هذا الكائن البريء فإنما مرده إلى الأبوين وذلك لحديث النبي : >كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه<(5)
وحتى تقوم المؤسسة الأسرية بالدور المنوط بها اتجاه الطفل فإن الغزالي يدعو الوالدين إلى العمل على ما يلي :
- حضانته وإرضاعه من طرف امرأة معروفة بالصلاح لأن >اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه<(6)ومما لا شك فيه أن >الخدم والحاضنات والمربيات … وما إلى ذلك ممن يخالطهم الطفل في الأسرة كأعضاء ملحقين بها، يؤثرون في تكوين عواطف الطفل عن طريق ما يثيرونه في نفسه من انفعالات نحوهم في إطار الوضعية الاجتماعية للأسرة ، والوضعية التي تحددها لهم الاسرة داخلها<(7)
- تعليمهُ آداب الطعام لأن : >أول ما يغلب عليه (أي الصبي) من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول بسم الله عند أخذه…<(8) وكذلك آداب اللباس كأن يحبب الأب إليه >من الثياب البيض دون الملون والابريسم<(9) وكذلك آداب المعاملة عند بلوغه مخايل التمييز
-منعه >من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح فإذا تُرِكَ تعود فعل القبيح<(10)
-تخويفه من >السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبيان<(11)
-تعليمه >القرآن وآحاديث الأخيار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين<(12)
ويبدو من خلال ما أورده الامام الغزالي أن دور الأب مواز لدور الأم، إلا أن الملاحظ هو أن من بين أفراد الأسرة جميعها فإن الأم تستأثر بأهم دور إيجابي في مجال التوجيه التربوي للطفل، وذلك لكونها أول موضوع يرتبط به الطفل، فهي >في تحمل المسؤولية كالأب سواء بسواء، بل مسؤوليتها أهم وأخطر، باعتبار أنها ملازمة لولدها منذ الولادة إلى أن يشب ويترعرع..<(13)
إذن لابد من تكامل دور الأب ودور الأم لتحقيق الهدف المنشود المتمثل في صيانة الصبي من النار على حد تعبير الغزالي ، وقد بينت دراسات وأبحاث اجتماعية أن >هناك حالات أساسية للعلاقات الأبوية، قد توجه سلوك الطفل نحو الانحراف مستقبلا هي :
أولا : انفصال الأبوين : الطلاق، الهجر أو سوء المعاملة.
ثانيا:غياب الأب : الوفاة، الهجرة أو السفر الطويل المتكرر
ثالثا : ضعف الدور الأبوي : موقف الأب المتسلط، الأب غير المبالي
رابعا : توتر العلاقات بين الأبوين الذي يؤدي إلى الانحراف وفقدان المحبة والتفاهم بين أفراد الأسرة<(14)
وبهذا يمكن اعتبار الامام أبي حامد الغزالي أحد جهابذة التربية الذين أغنوا الساحة التعليمية بالأفكار النيرة والنصائح الجليلة التي تساهم في بلورة مجتمع سليم ومسلم داخل خير أمة أخرجت للناس.
————–
1- إحياء علوم الدين -أبو حامد الغزالي-ج3-ص64-طبعة 1995-دار الفكر-بيروت
2- سورة المؤمنون -الآية 8
3- الفلسفة التربوية التعليمية عند أبي حامد الغزالي -عبد الله نزوال- مجلة الدراسات النفسية والتربوية العدد 9-أبريل 1989-ص85.
4- الاسرة وتنشئة الطفل الاجتماعية-د.تماضر حسون-مجلة الفيصل العدد198-ص95-1993م
5- متفق عليه
6- إحياء علوم الدين-ج3-ص64
7- عواطف الطفل -مبارك ربيع- ص168- طبعة 1984م- الدار العربية للكتاب.
8- إحياء علوم الدين-مرجع سابق-ج3-ص64
9- 10- 11- 12- نفسه ص64
13- تربية الأولاد في الاسلام -عبد الله علوان- ج1- ص 143 -ط8 -دار السلام
14- العلاقات الأبوية وتوجيه سلوك الطفل – د.تماضر حسون- مجلة الفيصل العدد 197 -ص95 سنة 1993م .
- عبد الحليم أقاسي