الحمد لله رب العالمين، حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين.
وبعد، فإن الله سبحانه وتعالى قد منَّ على العالمين بشريعة إسلامية سمحاء، ليخرج بها العباد من ظلمات الأهواء إلى أنوار العبودية والاهتداء، وقد ابتدأ عصر الرسالة الاسلامية بالوحي الذي أنزله الله على محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه، وبنزول الوحي ابتدأ التكليف وبه بدأت مرحلة التشريع وفي عصر الرسالة اكتملت الأسس الكلية والأصول العامة للشريعة، التي بنت عليها فيما بعد الحركة الفقهية اجتهاداتها التي تزعمها فقهاء أفذاذ استطاعوا أن يدفعوا الفقه دفعا قويا على أسس علمية وضوابط منهجية، كالإمام الجليل مالك بن أنس، الذي ينسب إليه المذهب المالكي، والذي اختاره المغاربة نهجا علميا وطريقا تعبديا ومنطلقا اجتهاديا في حياتهم الخاصة والعامة، إن من مقتضيات الفلسفة المغربية للتنمية التي تعتمد على بعث وإحياء تراثنا الفقهي في هذه الجهة من العالم الاسلامي (الغرب الاسلامي)، والتعريف بأعلامه كالإمام مالك بن أنس -ممن شيدوا ذخائر لا تبليها العصور- تصحيح صورة صورة الاسلام وبيان عظمة فقهه ومزايا مذاهبه.
ومن المعلوم أن المذهب المالكي قد استقر بالمغرب منذ عصر الأدارسة من هذا المنطلق اخترت موضوع : (من مزايا المذهب المالكي)، وجعلته على محاور هي :
1- المحور الأول : شخصية إمامه. 2- المحور الثاني : موطنه. 3- المحور الثالث : أصوله وقواعده.
وهذه المحاور من الأسباب الرئيسية في انتشار المذهب.
إمام المذهب المالكي
أسباب انتشار المذهب المالكي في أقطار عديدة، متنوعة(1) على رأسها : شخصية صاحب المذهب، لما عرف عنه من تمسكه بالسنة ومحاربة البدعة وتشبثه التّام بآثار الصحابة والتابعين واستجماعه أدوات الامامة، فمن هو الإمام مالك؟
أ- نسبه :
هو الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصْبَحي، نسبه إلى أصبح قبيلة من اليمن كبيرة، إمام دار الهجرة وأهل المدينة، المولود سنة 95هـ(ü) والمتوف سنة 179هـ. نشأ في بيت علم وصلاح، فأبوه أنس كان عالما فقيها، وعماه : ربيع ونافع، كانا عالمين محدثين، وجده مالك كان من كبار التابعين(2).
ب- صفاته وأخلاقه :
كان -رحمه الله- أبيض يميل إلى الشقرة طويل القامة، عظيم الهامة، أبيض الرأس واللحية، أصلح أشم يلبس الثياب البيض امتثالا للسنة، ويستعمل الطيب..
كان أعظم الخلق مروءة وأكثرهم سمتا، وكان إذا جلس جلسة لا ينحل منها حتى يقوم، كثير الصمت، قليل الكلام، متحفظا للسانه، كما نقل عن ابن مهدي أنه قال : ما رأت عيناي أحدا أهيب من هيبة مالك، ولا أتم عقلا ولا أشد تقوى، ولا أوقر دما من مالك(3).
وأجمع ما قيل فيه قول صاحب الفكر السامي، الثعالبي : >فهو مجمع على إمامته ودينه وورعه ووقوفه مع السنة<(4).
جـ- علمه :
كان رحمه الله، عالما فاضلا، عرف بتحريه وإتقانه وعمق نظره، لم يكن يقف عند ظواهر النصوص بل كان يغوص في أعماقها لبيان عللها انطلاقا من روح الشريعة، >كان من أشد الناس تركا لشذوذ العلم وأشدهم انتقاد للرجال وأقلهم تكلفا وأتقنهم حفظا، عارفا بتفسير الغريب من الحديث..وكانت له مشاركة في علوم كثيرة غير الحديث والفقه، فقد ألف في علم الأوقات والنجوم، وفي التفسير وغيره<(5)، وقد شهد له بالأصالة والريادة العلمية جمع من العلماء، فهذا شيخ الاسلام ابن تيمية يقول : >فلا ريب عند أحد أن مالكا ] أقوم الناس بمذهب أهل المدينة رواية ورأيا، فإنه لم يكن في عصره ولا بعده أقوم بذلك منه، كان له من المكانة عند أهل الإسلام -الخاص منهم والعام- مالا يخفى على من له بالعلم أدنى إلمام<(6) ثم قال : >من تدبر أصول الاسلام وقواعد الشريعة وجد أصول مالك وأهل المدينة أصح الأصول والقواعد، وقد ذكر ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما<(7).
وقال الواقدي : “كان مجلس مالك مجلس وقار وحلم، وكان رجلا نبيها نبيلا ليس في مجلسه شىء من المراء واللغظ ولا رفع الصوت.. هذا في شأن تعليمه، وفي موضوع روايته، فقد روى عنه ما ينيف عن ألف وثلاثمائة من أعلام الأقطار الاسلامية من الحجاز واليمن والعراق وخراسان والشام ومصر وافريقية والأندلس، هؤلاء هم رواة حديثه وروى عنه غيرهم، أما رواة الفقه عنه كابن القاسم ونافع وابن موهب وغيرهم فهم أيضا كثير.
وروى عنه من مات قبله من العلماء كابن جريح، وشعبة والثوري، وروى عنه من أصحاب المذاهب المدونة، أبو يوسف والثوري والأوزاعي وابن عيينة والليث والشافعي، ومن الخلفاء أمير المؤمنين المنصور، والمهدي والهادي والرشيد، والأمين والمأمون.
وقد روي عنه أنه قال : ما جلست للفتيا حتى أذن لي في ذلك سبعون من أهل العلم. وقد زاد شهرة بكتابه الموطأ(8). قال فيه ابن الحسن الحجوي الثعالبي : >وهو من معجزات رسول الله المبشر به في حديث الترمذي وغيره : >يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة< قال الترمذي : حديث حسن، وصححه عياض في المدارك(9).
موطنه
المدينة المنورة هي موطن المذهب المالكي وإمامه، وهي قاعدة الانطلاق لهذا المذهب ثم الانتشار في الآفاق لذلك نجد العلامة ابن خلدون يجعل من أسباب اختصاص أهل المغرب والأندلس به رجلتهم إلى الحجاز، يقول : >وأما مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغب، والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلا أنهم لم يقلدوا غيره إلا في القليل، لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم والمدينة يومئذ دار العلم..<(10)، نعم كانت المدينة دار العلم وليس أي علم أو ملح العلم وإنما صلب العلم كما يقول الإمام الشاطبي في موافقاته، قال فيهاابن تيمية : >مذهب أهل المدينة. دار السنة ودار الهجرة، ودار النصرة إذ فيها سنّ الله ورسوله محمد ، سنن الإسلام وشرائعه، وإليها هاجر المهاجرون إلى الله ورسوله، وبها كان الانصار الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، مذهبهم في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أصح مذاهب أهل المدائن الاسلامية شرقا وغربا، في الأصول والفروع<(11)، وهكذا نجد من مزايا المذهب المالكي انتسابه إلى بلد مبارك، دار هجرة وسنة ونصرة، وردت الآثار الدالة على بركتها واختصاصها بمزايا جليلة،. ففي السيرة النبوية نجد قصة الهجرة وكيف اختار الرسول الكريم المدينة مقراً لدين الاسلام، وداراً جامعة للمهاجرين والأنصار لذلك اختارها الامام مالك مقرا لإقامته واقتداءا بنبينا المصطفى الذي دعا لها بالبركة، فقال : >اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلت بمكة من البركة<، كما ورد في صحيح البخاري كتاب فضائل المدينة، ومما ورد من الفضائل والمزايا في شأنها أنها صحل للإيمان، وإنها محصنة من دخول الأوباء والفتن ولا تقبل شرار الخلق.
أصوله وقواعده
أصول المذهب وقواعده، هي مجموع الأدلة التي تشكل مصادر الأحكام الشرعية، وتتميز أصول المذهب المالكي بسعتها وثرائها فهي تبلغ سبعة عشر(12) دليلا :
1- نص الكتاب العزيز وهو مالا يقبل تأويلا نحو {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم..}(البقرة : 196).
2- ظاهره وهو ما يقبل التأويل.
3- دليله وهو مفهوم المخالفة، وهو دلالة الكلام على نفي الحكم الثابت للشيء المذكور عن المسكوت عنه، لعدم توافر قيد من قيود المنطوق. مثل قوله تعالى : {ومن لم يستطع منكم منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات}(النساء : 25) فإنه يدل على تحريم الزواج بالإماء في حال عدم الإيمان.
4- مفهومه وهو فحوى الكلام أو مفهوم الموافقة : وهو دلالة اللفظ على ثبوت حكم الشيء المذكور للمسكوت عنه، لاشتراكهما في علة الحكم المفهومة بطريق اللغة، كقوله تعالى : {فلا تقل لهما أف}(الإسراء : 23)، ففيه دلالة على تحريم الضرب من باب أولى.
5- وتنبيهه وهو التنبيه على علة الحكم، مثل قوله تعالى : {فإنه رجس أو فسق أهل لغير الله به}.
ومن السنة أيضا مثل هذه الخمسة، فهذه عشرة. ثم 11- الاجماع. 12- والقيـاس. 13- وعمل أهل المدينة. 14- والاستحسان. 15- الحكم بسد الذرائع. 16- قول الصحابي. 17- الاستصحاب. ومن أصوله أيضا مراعاة الخلاف والمصلحة المرسلة، ونشير إلى أن المالكية قد اختلفوا في عدد هذه الأصول، فجعلها القرافي تسعة عشر، وهي الكتاب والسنة وإجماع الأمة واجماع أهل المدينة، والقياس وقول الصحابي والمصلحة المرسلة والاستصحاب والبراءة الأصلية والعوائد والاستقراء وسد الذرائع والاستدلال والاستحسان، والأخذ بالأخف والعصمة وإجماع أهل الكوفة وإجماع العترة وإجماع الخلفاء الأربعة(13) هذه الأصول تشكل المرتكزات العامة التي استند إليها المالكية في الاستنباط والتخريج. وتتميز بكثرتها في هذا المذهب وبعضها يختص بها المذهب مثل عمل أهل المدينة وبعضها توسع النظر فيه وعلى أساسه كالمصالح المرسلة. وإن وردت في المذاهب الفقهية الأخرى >غير أن المذهب المالكي، كان أصرح وأوضح في مراعاته للمصالح، باعتبارها المقصد العام للشريعة، والمقصد الخاص لكل حكم من أحكامها، وخاصة في أبواب المعاملات والعادات<(14) ومن التطبيقات الفقهية لهذا الأصل، المسألة الآتية :
من المعلوم أن الشارع قد نهى عن كثير من البيوع لعلة الجهالة، لما تفضي إليه من غرر وغبن. مما يقتضي بيان الاثمان وايضاح الآجال، لكن هناك حالات يتعذر فيهاهذا الأمر، وتعسر معاملات الناس باعتباره ويحصل لهم الحرج، مما يقتضي مصلحيا استثناءات لكون الغرر يسيرا ولكون المصلحة تدعو إليه : >ومن هذا الباب أن مالكا يجوز بيع المغيب في الأرض كالجزر واللفت.. وما يظن أن هذا نوع غرر فمثله جائز في غيره من البيوع ولأنه يسير والحاجة داعية إليه<(15).
خاتمة
انطلق المذهب المالكي من الحجاز فانتشر في الآفاق بواسطة تلاميذ الإمام مالك رحمهم الله، الذين بثوه في مختلف بقاع العالم الاسلامي شرقا وغربا، في مصر واليمن والعراق و تونس والمغرب والأندلس، وغيرها ولقي قبولا كبيرا خصوصا في الجهة الغربية من العالم الاسلامي وذلك لأسباب نذكر منها واقعية المذهب ومراعاته لأعراف وعادات الناس واعتباره لمصالحهم، وكذلك لثراء وغنى أصوله وأدلته التشريعية، ثم لإمامه مالك بن أنس الذي يعد شخصية كبيرة في تاريخ الاسلام وفي تاريخ التشريع الاسلامي، لذلك فإن من بين أسس ومرتكزات الفلسفة المغربية للتنمية كشف وبعث مساهمات وتراث رجال العلم في عالم الاسلام اليوم كالامام مالك بن أنس، والسلطانالمجدد المولى محمد بن عبد الله. الذين أبلوا البلاء الحسن في خدمة دينهم وتنمية أوطانهم، لأن في ذلك إحياء لمقومات وخصوصيات الأمة مما يجعلها محصنة ذات مناعة عالية في وجه التحديات الداخلية والخارجية.
—————-
(1) انظر : محاضرات في تايخ المذهب المالككي في الغرب الاسلامي للدكتور عمر الجيدي (29-38) وقد حصر اتجاهات الباحثين في تحديد أسباب انتشاره في المغرب. في :
-1 شخصية صاحب المذهب. 2- ملاءمة مذهبه لطبيعة المغاربة. 3- مناهضة فقهاء المالكية لفقهاء الاحناف. -4 موقف بعض السلاطين. 5- رحلة المغاربة إلى الحجاز. 6- مناهضة المذهب المالكي لمذهب الخوارج.
(ü) وذكر تاريخ آخر هو 93هـ.
(2) ينظر : الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي : 446/2.
(3) المدارك للقاضي عياض : 120/1-127. نقلا عن محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الاسلامي د. عمر الجيدي : 10-11.
(4) الفكر السامي : 447/2.
(5) نفسه : 448/1-449.
(6) مجموعة الفتاوى لابن تيمية : 176/20.
(7) نفسه : 181/20.
(8) ينظر كتاب الفكر السامي للثعالبي : 448/1-449.
(9) نفسه : 450/1.
(10) مقدمة ابن خلدون : 449.
(11) مجموعة الفتاوى لابن تيمية : 163/20.
(12) نُقل اختلاف في عددها بين بعض علماء المالكية.
(13) تنقيح الفصول ص : 445.
(14) نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي للدكتور أحمد الريسوني : 64.
(15) مجموعة الفتاوى لابن تيمية : 190/20.
المصادر والمراجع
1- الفكر السامي في تاريخ الفقه الاسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، تحقيق أيمن صالح شعبان، طبع دار الكتب العليمة، بيروت، لبنان، طبعة أولى : 1416هـ- 1995م.
2- مجموعة الفتاوى، لشيخ الاسلام تقي الدين احمد بن تيمية الحراني (ت 728هـ)، تحقيق عامر الجزار وأنور الباز، طبع دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، مصر طبعة أولى : 1418هـ- 1997م.
3- محاضرات في تاريخ المذهب المالكي في الغرب الاسلامي، للدكتور عمر الجيدي، منشورات عكاظ.
4- مقدمة ابن خلدون، دار القلم، بيروت، لبنان.
5- نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي لأحمد الريسوني المعهد العالمي للفكر الاسلامي، واشنطن، طبعة أولى : 1411هـ- 1991م.