إذا درسنا أحوال الأمة الإسلامية -كما ينبغي أن نصنع- فسنجد انحرافات كثيرة، وقعت في مسيرة الأمة خلال الأربعة عشر قرناً الماضية، ظلت تبعد الناس رويداً رويداً عن حقيقة الإسلام، حتى صار الإسلام إلى غربته الثانية التي أخبر عنها رسول الله : >بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ<(1).
وإذا تتبعنا هذه الانحرافات -وينبغي لنا أن نفعل، لأنه لابد لنا من تشخيص الداء، لتحديد نوع العلاج- فسنجد أن الانحراف لم يقتصر على السلوك وحده، إنما تطرق إلى المفاهيم، وأن كل مفاهيم الإسلام قد أصابها الانحراف، حتى مفهوم ” لا إله إلا الله “-بل بدءاً بمفهوم لا إله إلا الله- بالإضافة إلى مفهوم العبادة، ومفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الدنيا والآخرة، ومفهوم الحضارة، ومفهوم التربية، ومفهوم الجهاد…الخ(2).
فإذا كان الأمر كذلك، فبأي شيء نبدأ؟ هل لنا مناص من أن نبدأ بتصحيح مفهوم “لا إله إلا الله “؟ وهل يمكن تصحيح حياة الناس على قاعدة إسلامية، إذا لم نصحح مفهوم لا إله إلا الله في عقول الناس وقلوبهم؟ فأما العقول فمهمتها إدراك الحق، وأما القلوب فمهمتها تحويل الإدراك الذهني إلى شحنة وجدانية دافعة إلى السلوك العملي في عالم الواقع.. وهذا هو طريق الإصلاح.
ماذا أصاب مفهوم “لا إله إلا الله “في حس الناس؟
لقد أصابه انحسار شديد، حتى أصبحت لا إله إلا الله مجرد كلمة تُقال باللسان، لا تأثير لها في واقع الكثرة الكاثرة من الناس، إلا من رحم ربك، بل إنها لم تعد مانعة من الوقوع في الشرك عند كثير من الناس، سواء شرك الاعتقاد، أم شرك العبادة، أم شرك التشريع.
والفرق بين واقعنا المعاصر وواقع المجتمع الجاهلي وقت البعثة، أن القوم كانوا يمارسون الشرك الظاهر الصريح، ويرفضون في الوقت ذاته أن يقولوا : لا إله إلا الله..أما الناس في واقعنا المعاصر -إلا من رحم ربك- فإنهم يقولون بأفواههم : لا إله إلا الله، ثم يقعون في الشرك بنوع من أنواعه، أو بجميع أنواعه.
لذلك فإننا نحتاج إلى منهج شديد الشبه بمنهج الرسول في مكة، لبيان حقيقة لا إله إلا الله، ثم تحويلها إلى واقع معيش في حياة الذين يعتنقون هذا الدين.
وفي ظني أنها مهمة شاقة، لا تقلُّ مشقةً، ولا حاجة إلى بذل الجهد، عما بذل في الجولة الأولى، لإزالة الغربة عن الإسلام أول مرة، بل ربما كانت الغربة الثانية أعسر في إزالتها من الغربة الأولى، حيث كان رسول الله حاضراً بشخصه يمثل القدوة الحية ومنبع الإلهام.
لقد كان العسر في الجولة الأولى ناشئاً من لدد الخصومة، بالإضافة إلى شدة التمسك بعرف الآباء والأجداد : {فإنّما يسّرناه بلسانِك لتُبشِّر به المُتّقين وتُنذر به قوماً لدّاً}(مريم : 97)، {وإذا قيل لهمُ اتّبِعواما أنزَل الله قالُوا بلْ نَتَّبِع ما ألفَيْنا عليه آباءنا أو لوْ كان آباؤهم لا يعْقِلون شيئاً ولا يهتدون}(البقرة : 170).
أما في الجولة الثانية، فلن نجد مشقة في أن نجعل الناس ينطقون بأفواههم : لا إله إلا الله، فهم ينطقونها صباح مساء! ولكن المشقة أنهم يظنون أنهم بمجرد نطقهم لا إله إلا الله صاروا مسلمين، ولصقت بهم صفة الإسلام، أيّا كان سلوكهم الواقعي، وأيّا كان مدى نقضهم لمقتضيات لا إله إلا الله في عالم الواقع! وأنك إن قلت لهم : إن لاإله إلا الله مقتضيات لا يثبت للإنسان إسلامه إلا بالتزامها ، وإلا أخذ عليه إقراره اللساني واعتُبر مرتداً، كذبوك! وقالوا : ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين!
إنهم -معظمهم- واقعون في لوثة الفكر الإرجائي، الذي يقول : “من قال لا إله إلا الله فهو مؤمن، ولو لم يعمل عملاً واحداً من أعمال الإسلام<! والذي يقول : >الإيمان هو التصديق، أوهو التصديق والإقرار، وليس العمل داخلاً في مسمى الإيمان<! والذي يعتبر المخالفات كلها بجميع أشكالها، مجرد معاص، ثم يقول : >لا يضر مع الإيمان معصية<!.
وإزالة آثار هذه اللوثة من حياة الناس، وردهم إلى المفهوم الصحيح للإىمان، الذي كان عليه السلف الصالح،والذي يقول : إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، هو الهمة الحقيقية “للغرباء”، الذين بشّرهم رسول الله بجزيل الأجر : >طوبى للغرباء<، وقال عليه الصلاة والسلام : >فطوبى للغرباء يصلحون ما أفسد الناس من سنتي<(رواه الترمذي وقال حديث حسن).
وسنتحدث عن التربية في فصل مستقبل، ولكنا هنا نقرر أن نقطة البدء في الدعوة يجب أن تكون هي التعريف بلا إله إلا الله، التي صارت حقيقتها مجهولة في غربة الإسلام الثانية، وصارت حين تعرض على حقيقتها تستوحش لها النفوس!.
ونقرر كذلك أن التعريف إله إلا الله -فضلاً عن التربية على مقتضياتها- ليس مجرد معلومات تلقى، وليس مجرد خطبة أو درس أو موعظة،إنما هو جهد حقيقي دائب، يحتاج إلى متابعة ومثابرة، ويحتاج إلى تتبع مسارب النفس ومداخلها، لتنقيتها من الغبش الذي أحدثه الفكر الإرجائي، فضلاً عن الغبش الذي أحدثه الفكر العلماني المستحدث، وكلاهما حمض أكّال يوهن بناء العقيدة، ويفرغها من محتواها الحيّ، ويفقدها قوتها الفاعلة التي كانت لها يوم أن كانت على حقيقتها كما أنزلها الله.
ثم نقرر أخيراً أن الاستعجال في هذا الأمر -على أساس أنه أمر بدهي واضح، لا يحتاج إلى بذل الجهد فيه، أو على أساس أن ما بذل من الجهد فيه، فيه الكفاية، أو على أساس أن لدينا مهام كثيرة، وليس لدينا وقت كثير ننفقه في التعريف إله إلا الله -فضلا عن التربية على مقتضياتها- هذا الاستعجال لا يأتي بخير، ولا يخدم الدعوة، ولا يجعل لها مردوداً مثمراً في نهاية المطاف.
وموضع الاقتداء هنا بالجيل الفريد، أن نتدبر مدى عناية القرآن الكريم بهذه القضية،وعناية الرسول ببيانها، فضلاً عن التربية على مقتضياتها، وأنها استغرقت الجزء الأكبر من مجموع سنوات الدعوة، ومن جهدها كذلك.
وإذا ظننا أن سبب تركيز القرآن الكريم على هذه القضية في السور المكية، أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا مشركين، فلنتذكر أننا نواجه اليوم بالدعوة قوماً واقعين فيها : شرك الاعتقاد، وشرك العبادة، وشرك الحاكمية.
ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن التركيز على هذه القضية ليس سببه دائماً أن المخاطبين مشركون، فالمؤمنون كذلك يحتاجون إلى مداومة التذكير بها وبمقتضياتها، والدليل على ذلك أن الحديث عن لا إله إلا الله لم ينقطع في القرآن الكريم، حتى بعد أن تكونت الجماعة المسلمة، وتمكنت في الأرض، ودخلت المعارك من أجل لا إله إلا الله، فقد أنزل الله في سورة النساء : {ياأيها الذين آمنوا آمِنوا باللهِ ورسُوله والكِتَاب الذي نزَّل على رسُولِه والكتاب الذي أنزل من قبلُ ومن يكْفُر بالله وملائكته وكُتُبِه ورُسُلِه واليَوْم الآخر فقد ضَلَّ ضلاَلاً بعِيداً}(النساء : 136).
وأنزل الله آيات كثيرة في السور المدنية تربط التوجيهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بلا إله إلا الله ومقتضياتها : {قُل اللهم مالك الملك تؤْتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاءُ وتُعِزُّ من تشاء وتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِك الخير إنّك على كل شَيْء قدير، تُولِج اللّيل في النّهار وتُولِجُ النَّهارَ في اللَّيْل وتُخْرِجُ الحَيَّ مِن المَيِّت وتُخْرِجُ المَيِّتَ من الحي وترزُقُ من تشاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، لا يتَّخِذِ المُوْمِنُون الكافِرين أولياء من دون المؤمنين}(آل عمران : -26 28).
{يا أيُّها الذين آمَنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرّسول وأُولي الأمر منْكُم فإن تنازعتُم في شيء فردُّوهُ إلى الله والرّسُول إن كُنْتُم تُؤْمِنون بالله واليَوْمِ الآخرِ ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}(النساء : 59).
والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومن ثم فليست لا إله إلا الله درساً يُتلى ثم ينتقل منه إلى غيره، إنما هي -كما قلت في كتاب سابق- درس يُتلى وينتقل معه إلى غيره، ويظل هو حديث الأمة المسلمة إلى قيام الساعة.
—-
(1) أخرجه مسلم.
(2) انظر إن شئت كتابنا “مفاهيم ينبغي أن تصحح”.