إنه كما حدده الله تعالى :الحكمة والموعظة الحسنة : {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمُهتدين}(النحل : 125).
ويجب أن ندرك أن الحكمة والموعظة الحسنة ليست هي التربيت على أخطاء الناس وانحرافاتهم، ودغدغة مشاعرهم، لكي يرضوا عنا ويتقبلوا منا!
فأدرى الناس بمراد ربه هو الرسول ، الذي تلقى هذا الأمر مباشرة من ربه، فكيف قام به ؟ هل دارى على الناس شركهم؟ هل تجنب أن يواجههم بحقيقة أمرهم؟ وهو الذي تلقى من ربه أمراً أن يصدع بالحق : {فاصدع بما تؤمر}(الحجر : 94).
لقد شكا المشركون رسول الله إلى عمه أبي طالب، فقالوا : سفّه أحلامنا وسب آلهتنا وكفّر آباءنا! وقد كانت مواجهة العرب بكل ذلك، هي مقتضى الحكمة كما نفذها رسول الله !
إنما كانت الحكمة كفّ الأيدي، وعدم الدخول مع المشركين في معركة في ذلك الأوان، مع عدم استفزازهم بما يعطيهم مبرراً للعدوان، مع التصريح بالحقائق كلها بلا نقصان.
وهنا نصل إلى قضية هامة من قضايا الحاضر، لننظر موضع القدوة فيها من الجيل الفريد : هل كان يحسن بنا -أو يجدر- أن ندخل في صراع مسلح في الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
أما العدوان من جانب أي سلطة لا تحكم بما أنزل الله، فأمر لابد أن نتوقعه دائماً؛ لأنه سنة من سنن الله، ولم يحدث قط أن سلطة جاهلية رضيت عن دعوة “لا إله إلا الله”، أو حتى هادنتها حين تطلب المهادنة!
حينما قال شعيب عليه السلام لقومه : {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أُرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصْبِروا حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}(الأعراف : 87)، لم يقبل الملأ هذه المهادنة، وأصروا على إخراج المؤمنين أو إكراههم على ترك دينهم : {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنُخْرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودُنّ في ملّتنا قال أو لو كُنا كارهين}(الأعراف : 88).
وفي الجاهلية الحديثة التي تسمّي نفسها “ديمقراطية”، تُتاح الحرية لجميع الفئات وجميع الدعوات، إلا الفئة التي تدعو لـ”لا إله إلا الله”! ويكفي ما حدث في الجزائر نموذجاً لما نقول، حيث التزم الإسلاميون -بصرف النظر عن خطأ ذلك أو صوابه- التزموا قواعد الجاهلية ومنهجها، فوصلوا إلى الأغلبية عن طريق صندوق الانتخاب كما تشترط الجاهلية، فإذا تلك الجاهلية تتنكر لكل مبادئها، التي تتيحها للفئات كلها والدعوات كلها، وتقف للإسلاميين بالعنف تقول لهم : لنخرجنكم.. أو لتعودن!
لا مجال لأن يسأل سائل : هل هناك وسيلة يمكن أن تستخدمها الدعوة، لا تستثير غضب السلطة الجاهلية؟ فالأمر مفروغ منه! إنما السؤال الذي سألناه : هل كان يحسن بنا -أو يدجر بنا- أن ندخل في صراع مسلح في الوقت الحاضر مع أصحاب السلطان؟
وللإجابة على هذا السؤال يراجع الدرس المستفاد من تاريخ النشأة الأولى(ü)، فنسأل بادئ ذي بدئ : متى أذن الله للمسلمين في رد العدوان بقوله تعالى : {أُذن للذين يُقاتلون بأنهم ظُلموا وإنّ الله على نصرهم لقدير}(الحج : 39)؟
جاء الإذن بعد أن تحقق ما يأتي : تحرير قضية “لا إله إلا الله..” تحرير قضية الشرعية.. بناء القاعدة على أسس متينة.. اتساع القاعدة بمجيء الأنصار.. تربية القاعدة على التجرد لله.
والآن فلننظر، ماذا تحقق من هذه الأمور في المسيرة الحالية، وبأي قدر تحقق؟
هل تم تحرير قضية لا إله إلا الله، لا نقول عند الجماهير، بل عند الدعاة أنفسهم؟
هل وضح عند الدعاة أن التشريع بغير ما أنزل الله شرك مخرج من الإيمان، وأن الرضى بهذا التشريع هو كذلك شرك مخرج من الإيمان؟ أم لا يزال الجدل يدور بينهم حول هذه القضية، ما بين شاكّ وبين مقتنع؟
ودع عنك قضية الحكم على الناس، فتلك قضية لا نتعرض لها هنا، وندعو دائماً ألا تشغلنا عن مهمة الدعوة لبيان حقيقة لا إله إلا الله.
إنهما قضيتان منفصلتان -أو يجب أن تكونا منفصلتين- إحداهما عن الأخرى. إحداهما قضية تعليمية، قضية بيان الحقائق للناس، تلك الحقائق التي صارت مجهولة عند كثير من الناس بسبب الغربة الثانية للإسلام، وهي أمانة لله لابد من أدائها وعدم كتمانها، مهما استوحش الناس منها عند عرضها على حقيقتها.. والثانية قضية تطبيقية، والتطبيق لابد أن يسبقه إقامة الحجة على الناس أولاً، بالبيان المستفيض المتمحص للبيان، بلا اشتباك بأي قضية أخرى تغشى عليها، وتلقى عليها ظلالاً تصرف الناس عن حقيقتها.
ونعود للسؤال : هل وضحت قضية التشريع بغير ما أنزل الله عند الدعاة أنفسهم -ودع عنك الآن جماهير الناس- أم لا يزال يختلط عليهم قول ابن عباس رضي الله عنهما : كفر دون كفر، كفر لا يخرج من الملة؟!
إن الذي قال عنه ابن عباس رضي الله عنهما إنه كفر دون كفر، ليس هو التشريع بغير ما أنزل الله، إنما هو الحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، جهلاً أو تأولاً أو شهوة أولقاء رشوة أو هوى، دون جعل هذا الحكم تشريعاً مغايراً لحكم الله.
إن القاضي الذي يُؤتى له بإنسان ثبت شربه للخمر، وتفوح من فمه رائحته، فلا يقيم عليه الحد، لأنه تلقى رشوة من أهل الرجل، فالتوى عن حكم الله بحجة من الحجج، هو قاض فاسق، ولكنه لا يكفر بفسقه.. أما يوم يقول : إن شرب الخمر ليس جريمة، أو إنها جريمة لا يقام عليها حد، إنما توقع عليها عقوبة أخرى، فإنه يكون كافراً كفراً مخرجاً من الملة، لأنه أنشأ حكماً في القضية مخالفاً لحكم الله، وذلك باتفاق الفقهاء جميعاً.
حين حكم التتار بالياسق وهو -كما قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : مجموعة أحكام بعضها مأخوذ من القرآن، وبعضها من الإنجيل، وبعضها من التوراة، وبعضها من وضع جنكيز خان- قال ابن كثير رحمه الله، في مناسبة تفسير الآية الكريمة : {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حُكْما لقومٍ يوقِنون}(المائدة : 50) : >ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بأهوائهم وآرائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها بمجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدّمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير<(تفسر ابن كثير ج 2 ص 68).
ولقد كان ابن كثير رحمه الله، يعلم جيداً ولاشك مقالة ابن عباس رضي الله عنهما، ولكنها لم تختلط عليه؛ لأنه بعلمه وفقهه يفرق بين مجرد الحكم بغير ما أنزل الله في قضية من القضايا، وبين التشريع بغير ما أنزل الله.
الحقائق المجهولة في غربة الإسلام الثانية
وقد علق على هذه القضية سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ(1) في رسالة “تحكيم القوانين الوضعية” -وهو المشهود له بغزارة العلم والقوة في الحق- بعد أن أورد قول ابن كثير رحمه الله : >فانظر كيف سجل سبحانه وتعالى عن الحاكمين بغير ما أنزل الله الكفر والظلم والفسوق، ومن الممتنع أن سمى الله سبحانه وتعالى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد، وما جاء عن ابن عباس ] في تفسير هذه الآية من رواية طاووس وغيره يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن ملة الإسلام، وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة.
القسم الأول هو كفر الاعتقاد :
وهو أنواع :
أحدها : أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روى عن ابن عباس ]، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم، فإن الأصول المقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول ، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني : ألا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كونه حكم الله ورسوله حقا، ولكن اعتقد أن حكم غير الرسول أحسن من حكمه، وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة لما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال، وهذا أيضا لا ريب أنه كفر لتفضيله أحكام المخلوقين التي هي محض زبالة الأذهان وصرف حثالة الأفكار على حكم الحكيم الحميد. وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال وتجدد الحوادث. فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، نصا ظاهرا، أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه وجهله من جهله…
الثالث : ألا يعتقد أنه أحسن من حكم الله ورسوله، ولكنه اعتقد أنه مثله، فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقول الله عز وجل : {ليس كمثله شيء} ونحوها من الآيات الكريمات الدالة على تفرد الرب بالكمال وتنزيهه عن مماثلة المخلوقين، في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع : أن لا يعتقد كون الحكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله، ورسوله، فضلا عن أنيعتقد كونه أحسن منه، لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله. فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة بتحريمه.
الخامس : وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعدادا، وإمدادا، وإرصادا، وتفريعا، وتشكيلا، وتنويعا، وحكما، وإلزاما، ومراجع ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.
السادس : ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم وأجدادهم وعاداتهم التي يسمونها “سوالف”.
القسم الثاني الذي لا يخرج من الملة :
فقد تقدم أن تفسير ابن عباس ] لقول الله عز وجل : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله ] في الآية >كفر دون كفر< وقوله أيضا ليس بالكفر الذي تذهبون إليه أ.هـ، وذلك كأن تحمله شهوته على الحكم في قضية بغير ما أنزل الله مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو حق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
وهذا إن لم يخرجه كفره عن الملة، فإن معصيته عظمى من أكبر الكبائر، كالزنى وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس وغيرها، فإنها معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا،
نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاءً، إنه ولى ذلك والقادر عليه.
————————
(ü) انظر “تأملات في نشأة الجيل الأول” المحجة عدد 137- 138.
(1) المفتي الأسبق للمملكة العربية السعودية ومن أكابر علمائها.