< المحجة : لقد روَى الإمام أحمد في مسنده “115/3″ أن رسولنا محمداً قال عندما وقف عليك يا أبا الحكم بن هشام وأنت صريع ببدر : >هذا فِرْعون هذه الأمة< فهل توافق على مخاطبتك بهذا اللقب؟
> أبو الحكم بن هشام : كيف لا أوافق وأنا محشورٌ مع الفراعنة الأقدمين والمُحدثين أذوق ما يذوقون، وإن كان طغياني في الدنيا لم يصِلْ إلى عُشُر طغيانهم.
< المحجة : هل كنت تعرف أن محمداً رسول الله حقا؟؟
> فرعون الأمة : وهلْ مِثلي يجهل أن محمد بن عبد الله كان نبيا رسولا؟؟
< المحجة : ما البراهين التي دلتك على أن محمداً نبيٌّ رسول؟؟
> فرعون الأمة : الدلائل كثيرة جدّاً تكاد لا تحصى، وأنا أذكر لقراء جريدتكم بعضاً من الدلائل، التي رأيتها بعينيّ في دنياكم وعشت ممارستها وتجاربها بنفسي، على رأس الدلائل :
- القرآن الذي كان ينزل عليه، فقد حاولت أنا وأمثالي أن نأتي بشيء من مثله فلم نستطِعْ.
- ثم حاولت مراراً قتله فلم أستطع، فقد كان يمنعُني منه خناديق من نار تكاد تحرقني، أو فحولٌ من الإبل تكاد تلتهِمني أو تطوِّحُ بي في القفار المُهْلِكة.
- حاصرْناه في شِعب أبي طالب نحو ثلاث سنوات لإهلاكه واغتياله جوعا فلم نظفَرْ بشيء.
- حاصرناه في الليلة التي خرج فيها مهاجراً، فخرج في وسطنا ونحن نائمون بل ووضع التراب على رؤوس المحاصرين استهزاء بقدرهم وقوتهم واعتزازاً بقوة ربه.
- تابعنا البحث عنه حتى وصلنا الى الغار الذي كان مختبئا فيه، ومع ذلك لم نره.
- رصدنا مائة ناقةٍ لمن يأتي برأسه حيا أوميتا، فوصل إليه واحدٌ منا هو سُراقَة، ولكنه لم يقدر على الاقتراب منه..
هذا غيض من فيض..ألا يدُلُّ هذا كُله أو بعضه على أن محمد بن عبد الله كان نبيا رسولا؟؟
< المحجة : مادام عندك هذا الاقتناع فلماذا لم تكن من السابقين للإيمان به؟؟
> فرعون الأمة : لم أكن من السابقين ولامن اللاحقين -مع الأسف لو كان ينفع التأسف- ولقد سألني هذا السؤال قبلك -في زماننا- الأخنس بن شريق، حيث التقينا عند رجوعنا فجراً بعد الاستماع -خلسة- لمحمد وهو يقرأ القرآن.. فقال لي : ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقلت له -آنذاك- :ماذا سمعتُ؟ تنازَعْنا نحن وبنو عبد مناف الشرّف، أطعموا فأطْعمنا، وحَملوا فحملنا، وأعطوا فأعْطيْنا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسَيْ رهان، قالوا : >مِنّا نَبِيٌّ يأتيه الوحْيُ من السماء< فمتى نُدْرك مثل هذه؟ والله لا نومن به أبداً، ولا نُصدّقه.
< المحجة : إذن المسألة مجرد عصبية عمياء؟
> فرعون الأمة : ليس مجرد عصبية فقط، ولكنه الحسَدُ والحِقْد غذَّتهما نار العصبيّة، إذ كنت أنظر لنفسي باعتزاز، أعتبرها أحسن من محمدٍ اليتيم الفقير الأبْتَر، حيث لم يكن له أولادٌ ذكور، فأنا -على ما كنت أظن- أجدر بالنبوة منه، فعندي المال، والحسب والنسب وكثرة الأتباع.
< المحجة : فلماذا لم تحرص على شرف الاتباع لمحمد بعد أن فاتك شرف النبوة؟
> فرعون الأمة : كُنت أرى أن شرفي لا يسمح لي باتباعه بعد أن اتبعه الكثير من العبيد والمستضعفين، إذ كيف أتساوى مع بلال العبد الحبشي، ومع خباب بن الأرث أو مع رُوَيْعِي الغنم عبد الله بن مسعود، فقد كنتُ أنا ورفاقي في الحسد والكِبر ننشد ديناً على قدْر أهوائنا، يحفظ أقدارنا المالية والنّسبية والجاهية، ويجعلنا لذلك وحده طبقةً عليا في المجتمع، فدين يقول فيه قرآنه {إن أكرَمَكُم عند الله أتْقاكم} ويسوّي بين العبيد والأحرار، والفقراء والأغنياء، لا يليق بمقامنا -نحن الأكابر- وأمثالنا لا يخلو منهم زمان ولا مكان، وإن اختلفنا في الأسماء والألقاب وأنواع العناد، فالكفر ملة واحدة، ونحن هنا في دار البقاء والجزاء أشكال وأصناف، ويفِدُ علينا باستمرار أحفادُنا وتلامذتُنا الذين لايتحملون -مع الأسف- مسؤوليتهم، ولكنهم يُلقُون اللوم علينا، فنضطرّ للرّد عليهم، فحوارنا دائما : تبادل اللّوم والتهم، فعندما تأتي ملائكة العذاب بكوكبة من المجرمين أمثالنا تقول لنا : {هَذاَ فَوْجٌ مُقْتحِم معَكُم} تكون تحيّتُنا لهُم {لاَ مرْحباً بِهم} فيكون ردّهم {بل أنْتُم لا مرْحَبا بكم} أنتم الذين سبقتمونا وجررتمونا إلى هذا المصير المشؤوم.
< المحجة : يقول ربنا في قرآننا : {وكذلك جعلنا في كل قريةٍ أكابر مجرميها ليمكروا فيها..}(سورة الأنعام) فهل تعترف الآن بأنك كنت من المجرمين؟
> فرعون الأمة : اعترف بإجرامي، ولكن لولا إجرامي ما ارتفعت درجات المومنين برسالة محمد بن عبد الله، فأمثالي هم المِحَك الذي يختبرُ صلابة إيمان المومنين، وقوة صبر الصابرين، فإذا ابتلاكم الله بأمثالي فتيقنوا أن وجودهُم ضروريٌّ لكم لتفوزوا بالجزاء الخالد في دار النعيم التي كنا ننكرها -نحن- كما يُنكرها الملحدون في زمانكم، فلا تقنطوا من مكرهم وكيدهم، فبمقدار ما تجابهون مكرهم بالصبر وسعة الصدر وقوة الثبات، بمقدار ما ترتفع درجاتِ فلاَحِكم وفوزكم.
< المحجة : ماذا كان يزعجك في محمد بن عبد الله؟
> فرعون الأمة : كل شيء فيه مزعج، نبوته ورسالته، صدقه وإخلاصه، عدْله وأمانته، عِفّتُه ومروءته، مكارم أخلاقه التي كانت تجعله محبوبا، بينما أنا مذموم مدحور يخاف بعض الضعاف من سطوتي، ولكنهم لا يحبونني، كيف لا يزعجني هذا، وأكثر ما كان يزعجني فيه هو قيامه للصلاة أمامي وأمام ملئنا بفناء الكعبة، فلقد كانت نار الحسد تتقد في قلبي عندما أراه معفِّرا وجهه في التراب ساجداً لله خاشعا متواضعا، وأنا يمنعني الكِبْرُ من ذلك، ولهذا كنت أنهاه، بل عملت على رضح رأسه بالحجارة وهو ساجد لولا تيبُّس يدي على الحجارة، ومنعي من ذلك بقوة أُحِسُّها ولا أراها، وأحيانا أراها على شكل زُبْية نارية تكاد تتميّز غَيْظاً وغضبا علَيَّ.
< المحجة : ما حمَلك على الخروج للقاء محمد ابن عبد الله وقد سلمتْ قافِلَتُكُم التجارية من الوُقُوع بيد محمد؟؟
> فرعون الأمة : ماذا تنتظر من رجُلٍ حَسُود حقود عنُود كفور واتتْه الفرصة لاستئصال عدوه والقضاء عليه قضاء مُبرما، كما كنتُ أتوهَّمُ وأتخيَّلُ، فلقد كنتُ أؤمِّلُ أن تكون لي الكلمة العليا في العرب كلهم، عندما وقف محمد في طريقي أردتُ أن أسحقه وأمحو دعوته من الوجود عندما سنحت لي الفرصة بذلك.
< المحجة : ألم تكن تعرف أن قوة الله تعالى لا يغلبها غالب؟
> فرعون الأمة : بلى، إنني لا أدّعي أنني أحارب الله، ولكنني كنت أعتقد أنني أُحارب محمداً، وأن الله الذي معه هو معي أيضا.
< المحجة : كيف يكون الله معك وأنت تحارب دينه؟
> فرعون الأمة: أنا كنت أعتقد أني ورفاقي على دين، وما أتى به محمدٌ هو بدعة -في نظرنا- لم نعرفها نحن، ولم يعرفها آباؤنا وأجدادنا، فما معنى أن يأتي محمد بدين يطعن في الأصنام ونحن بها نتقرب إلى الله، ويحرم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ويلزمنا بأن ننفذ ما يدّعيه أنه تشريع من الله بدون أن يكون لنا رأي فيه، أو تعديل لبعض مبادئه التي لا تناسب شخصيتنا لصفتنا أناسا متميزين عن غيرنا من المستضعفين؟ هذا لم يقبله عقلي ولا عقل رفقائي أصحاب الرئاسة والشرف والجاه.
< المحجة : كيف كانت نهايتك ببدر؟
> فرعون ألأمة : كانت نهايتي كنهاية كل الذين تفرعنوا قبلي وبعدي، كنهاية كل رجل كفور دافع عن كفره إلى النهاية.
< المحجة : قد بلغنا أن رسولنا محمداً بعد انتهاء معركة بدر خاطبك أنت وأصحابك في القليب قائلا : >يا أبا جهل، يا أمّيّة، يا عُتْبة.. هل وجدتُم ما وعدكم ربكم حقا، فأنا وجدتُ ما وعدني ربّى حقّا< فهل سمعتم هذا الخطاب؟؟
> فرعون الأمة : نعم، سمعته وسمعه أصحابي، وندمت ولكنلا ينفع الندم بعد الخاتمة السيئة.
< المحجة : ما وصيتك لملحدي عصرنا؟
> فرعون الأمة : نصيحتي لهم ووصيتي لهم ألا يركبوارؤوسهم، ويغتروا بقوتهم وفكرهم ومركزهم الدنيوي، فإن ذلك لا يُجدي هنا شيئا، فالعذاب لا يفتر عنا، وطعامنا وشرابنا الحميم والغِسلين والغساق والضريع والأكل من شجرة الزّقّوم، وكل هذا قد عرفناه في آخرتنا بعد أن كنا نستهزئ به في دنيانا، فالمقام صعْبٌ ونتمنى لو نرجع إلى الدنيا لكان لنا موقف آخر من الدين، ورسوله وأهل ِالإسلام بصفة عامة.
< المحجة : هيهات هيهات، فقد قال الله تعالى لنا: {كذلك يُريهمُ الله أعمالهم حسراتٍ عليهم وما هُم بخارجين من النار}(سورة البقرة).
< إعداد و انجاز : أبو بدر