قد لا نجانب الصواب إن قلنا في بداية هذا المقال إن من أبرز المشاكل التي تعاني منها الأمة الإسلامية حاضراً مشكلة التربية، التي كلما توغلت في الأزمة، تسببت في بروز العديد من الكوارث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والفكرية، بل كانت سببا مباشراً وراء بروز عوامل الإعاقة الحضارية التي تكبح، بهذا الشكل أو ذاك، المقدمات الضرورية لبلوغ مرحلة الخيرية التي هي بدورها مقدمة أساسية لتحقيق خطوة الشهود الحضاري لهذه الأمة التي اختارها الله عز وجل أن تكون الأمة المعيار والنموذج لما مدها به الله عز وجل من منهاج وشرعة محكمة استطاع بها السابقون من هذه الأمة تحقيق المطلوب، بعدما تربوا بداخل المدرسة القرآنية والنبوية التي لا تخرج إلا الإنسان الصالح المصلح، الساعي بكل ما يملك باتجاه عمارة الأرض واستعمارها وتسخير ما فيها لتحقيق ذلك، وفق ما أمره به الله عز وجل، لا وفق ما تمليه عليه الشهوات المادية والأهواء الشيطانية.
التربية القرآنية أساس الاهتداء
إننا، إذن، في حاجة ماسة إلى التربية القرآنية التي من أبرز مقاصدها إخراج الإنسان عن دائرة هواه ليكون عبداً لله، مستوعبا لمقاصد خلقه ووجوده ومدركا لطبيعة الأمانة التي يحملها، والتي سيسأل عنها يوم لقاء خالقه؛ ومتبصراً لسبل تحقيق ذلك، واعيا بمقدار العلاقة الموجودة بين التشريف الالهي للانسان وبين تكليفه بأمور يقاس بها مقدار قرب الإنسان من الله عز وجل أو بعده من جهة، ومقدار فهمه لمدلول مقاصد عمارة الأرض من جهة أخرى. ولا يمكن لهذا الإنسان أن يستوعب أو يدرك أو يتبصر، أو يعي ما سبق ما لم يكن مهتديا بهدي القرآن الكريم الذي نظم كيانه وحياته بشكل تربوي فريد عجزت كل النظريات البشرية عن صياغة مثله، لأنه وحي رباني وشرعة إلهية اختارها الله عز وجل للإنسان أول مرة ليعيش وفقها، ويتخذها منطلقا أساسيا لحياته، تعصمه من كل السبل الأخرى التي أثبت التاريخ البشري أنها ما أدت إلاّ إلى ضياع الإنسانية وتيهها وفقدانها للبوصلة التي ترشدها الى الطريق الصواب.
وعليه، تكون من أهم أهداف التربية القرآنية الحث على الالتزام بالصراط المستقيم الذي به نجاة الدارين معا؛ ولنا في التجربة الحضارية الغربية المعاصرة خير دليل على الذين يمشون مكبين على وجوههم من فرط خروجهم عن المنهاج الالهي وأخذهم بمنهاج الأهواء، فعلى الرغم من التقدم المادي الذي وصلت إليه المجتمعات الغربية المعاصرة، فإنها تظل فاشلة على مستوى تحقيق آدمية الإنسان وكرامته وسعادته، لأنها عجزت عن تربية الجانب الروحي متكاملا مع الجانب المادي في الإنسان، فكانت النتيجة، كما هي ملموسة من خلال واقع الحضارة المعاصرة، التيه والقلق والانتهازية والفردية والاحتكار والاستغلال والظلم والبغي…؛ إلى غير ذلك من صور قهر الإنسان لأخيه الإنسان وظلمه له بما يفسد الأرض ويهدد الاستقرار وينزع روح التآخي والتواصي بالتكافل من قلوب الناس؛ ولعل مرد ذلك بالدرجة الأولى إلى افتقاد هذه المجتمعات إلى الأساس التربوي الصحيح والرزين الذي لا يكن أن يصيغه الإنسان، أو أن تشكل قواعده مدرسة تربوية بقدر ما هو منهاج رباني نزل بالحق ليقيم مجتمع الحق وانسان العدل والاحسان والتواصي بالرحمة والتعاون، مصداقا لقوله جل جلاله : {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم}(الحجرات : 13).
العمل الصالح المقترن بالإيمان أساس الحياة الطيبة
لقد جربت الإنسانية مجموعة من النظريات التربوية، وعاشت مجموعة من النماذج المستوحاة من هذه العقيدة أو تلك الفلسفة، لكنها لم تعرف حقيقة وجودها ومعاني كيانها إلا مع النموذج النبوي المسدد بالوحي الإلهي، الذي خرّج الإنسان الصالح المصلح، الفاهم والمدرك لدلالات ومقاصد الخلق وعمارة الأرض؛ وما كان له أن يصل إلى ما وصل إليه لو لم يتعلم داخل المدرسة القرآنية أن التربية على العمل الصالح هي أساس إخراج الإنسان الصالح المصلح الذي استطاع أن يستوعب قوله جل جلاله : {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا}(الملك : 2)؛ وأن يدرك قوله جل جلاله : {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}(النحل : 97). وعلى هذا الأساس أدرك هذا الفرد المتميز دلالات العمل الصالح ومقاصده ومناهجه من داخل القرآن الكريم ذاته، الذي بيّن بكل وضوح، أن العمل الصالح هو الترجمة العملية للفهم الصحيح لطبيعة علاقة الإنسان بخالقه (علاقة عبادة وطاعة) وعلاقته بالكون (علاقة تسخير وعمارة واستعمار) وعلاقته بالإنسان (علاقة أخوة وعدل ورحمة) وعلاقته بالحياة (علاقة ابتلاء) وعلاقته بالآخرة (علاقة ثواب أو عقاب)؛ فهي علاقة متعددة الأطراف، متكاملة الأهداف، تصب كلها في نهاية المطاف في قوله تعالى : {ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون}(يونس : 14). إن التربية على العمل الصالح لا تقتصر على ميدان العبادة والأخلاق، بقدرما تفسح المجال أمام المسلم لكي يتعرف على كل المجالات والميادين الضرورية؛ الشيء الذي يبين بوضوح أن من أهم ما تعمل التربية القرآنية على انجازه : تحقيق نوع من التكامل بين مجالات التفكير والتعبير والتدبير في حياة الإنسان؛ وهي الخطوة الأساسية لاستكمال صورة المثل الأعلى في كيان هذا الأخير؛ والمقصدو بذلك النموذج الذي ينبغي أن نقتدي به ونهتدي به لتكون حياتنا موافقة لما يحبه الله ويرضاه؛ وما إرسال الرسل والأنبياء إلا لتحقيق هذه الغاية، قال تعالى : {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}(الأحزاب : 21).
وبالجملة يمكن القول أن التربية على العمل الصالح تستهدف، على وجه الخصوص، إخراج الإنسان الصالح لذاته المصلح لغيره؛ الذي يعيش وفق الشرعة الإلهية لا وفق الأهواء؛ ويسعى إلى عمارة الأرض، بما يحقق صلاح الإنسانية جمعاء وسعادتها في الدارين معا، لا وفق ما تمليه عليه نزواته ورغباته الذاتية ولو على حساب الغير. ولعمري تلك هي أقصى ما يرجو الإنسان العارف بحدود علاقته بخالقه وذاته وغيره والكون المحيط به، الوصول إليها؛ ولن يصل ما دام مكبا على وجهه، بعيداً عن ربه، غير ملتزم بالشرعة التي ارتضاها له أول مرة، قال تعالى : {أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم}(الملك : 22) وقال : {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكى}(طه : 121، 122).
Ennmirate a Caramail.Com