لاتكاد فئة من الفئات المراهنة على الانتخابات المُقْبلة لا تعرف تصدُّعاً وتشقُّقاً، ومن سَلم لحَدّ الآن من الاخْتلال فالتفاعلات الساخنة تحت السّطْح تكاد تنفجرُ عما قريب، والسبب واحِدٌ يتلخًّصُ في التّهارُش على المغَانِم المؤَمَّلة من المرحلة المُقبلة، مرحلةِ تقاسُم الأدوار والمناصب والكراسي، ومرحلة الحُظوة بالرِّضا من الذين يتحكَّمُون في الخزائن والجيوب، وبِيَدهم الخَفْضُ والرَّفع، والنّصْبُ والجر.
ولذلك أصبح الكثير من الطامعين يُكْثِرون من الهَرْولة بين الرّموز التي يظنّون أنّ بريقها مازال يجْتَذِب الأبصار، ويُكثرون من الانْسِلاخ من جلودهم القديمة، ومُحاولة إكْسائها بجُلودٍ مُستَنسخةٍ من الأصل، مع شيء من التعديل، والتحوْير، والتّقْعيد، للإيهام بأن هذه الجلود خلْقٌ آخر، بفكرٍ آخر، ومذْهبيّةٍ أخرى، مع أن البئر التي منها يَمْتاحون ويغترفون هِي من ثلوج الفلسفة البائدة التي نبذَها أصحابُها، وتبرّأوا منها تبرُّؤ الذّئب من دم يوسف عليه السلام.
ومِمّا يزيد الخرْقَ اتّساعا اخْتلاف رفاق الدّرب الواحد، حيثُ أصْبح التراشقُ بقنابل الكلام وفضائح الأعمال هو اللغة السائدة في التعامل بين أقران النضال، وأتراب الرُّفْقة داخل عُقوق الهوية، واغتيال أصالة الوطن والأمة ذات التاريخ المشرق، وتسابُق البعضِ في إطلاق رصاصات الرحمة لإدخال أصدقائه إلى مصحّات الموت السياسي العسير والمؤلم.
ومما يبعث على الإشفاق والرثاء أن يكون الردُّ على إطلاق الرصاص إخراسُ الألسنة بسيوفٍ من النصوص علاها الصّدأ من طول قِدَمها وكثرة تداولها أيام الصّولة المخزنية، فجاء الرّد أعْنف ممّا كان يُتصوّر، بل جاء الردّ زَلْقة تاريخيَّةً غير محسوبة من أناسٍ قضَوْا أعمارهم في محاربة النصوص القانونية التيكانت مُصْلتةً على رقابهم، فإذا بهم بتلك النصوص يُخرسون الألسنة ويسُدّون الأفواه، ولو وجدُوا النصوص التي تبيح حزّ الرّقاب لفعلوا ودافعوا عمّا فعلوا، كما يدافعون بجرأة يُحْسَدُون عليها- عن الخنق الغريب بمنطق غريب، أغرب ما فيه إضفاء القداسة -التي يحرّم النصّ القانونيّ المسَاسَ بها- على جهة لا يشملها النص، لأن المقدّس لا يُتّهم لأنه -لكماله وقدسيّته وجلاله- فوق النقص والقصور والعيب فما بالك بالاتهام.
وأغرب ما فيه أيضا : أن الدين ا لإسلامي الكامل، وربّ الإسلام الكامل، ونبي الإسلام المقتدى به، وشريعة الإسلام الكاملة، وأخلاق الإسلام الطاهرة.. تظل الأقلامُ الحاقدة تتناولُها بالتشويه والطّعْن والاستخفاف من الجهة التي تريد الآن إضفاء الهيبة والاحترام والقدسية على نفسها بواسطة نص قانونيّ لم تكن تعترف به منذ حين، فضْلاً عن أن نقول : إنها كانت مومنة ومقتنعة بمضمونه، لأن المقدّس المشمول بالنص ليس مقدّساً -حقيقة- عند قوم ينْهلون من مرجعية المعتقدين بأن >الله خرافة< >والحياة مادة< >والدين أفيون الشعوب< >والإنسان هو الذي خلق الله< فهؤلاء لا يقدّسون ما حقّه التقديس، ولكن يقدّسون ما ليس من حقّه التقديس.
إن الوطن مقبل على تحالفاتٍ مهزوزة، وتقلّبات محمومة، ومتاهات لافحة، إذا لم يتداركه الله تعالى بلطفه ورحمته فيهدي الذين انهارت مرجعياتهم الإلحادية، والذين لا مرجعية لهم أصلا، والذين لهم مرجعية متأصلة ولكنهم لا يحسنون التعامل معها بالحكمة المطلوبة.
ولا مخرج من الباب المسدود إلا بالرجوع إلى الأصالة التي بها كان المغرب بلداً ذا تاريخ وحضارة وهوية ومرجعية، إذ بالرجوع إلى الأصالة يتحقق :
1) النهوض الحضاري الخالي من العُقد الايديولوجية والنفسية والفكرية والعصبية.
2) التحرر من عقدة احتقار الذات بكل موروثها اللامع في ظل دين جعل أذرعها الحضارية طويلة جداً.
3) التحرر من عقدة الشعور بالنقص إزاء الغزو المادي بكل منظوماته الحداثية غير المعجزة أو المستحيلة على قوم انتكسوا وبإمكانهم أن ينهضوا.
4) الشعور بالاطمئنان داخل دين يقول للكُفّار به : {قُل للذِين كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَر لهُم ما قد سَلَف}(سورة الأنفال) ويقول للمذنبين الساقطين في حبائل الشيطان {قُلْ يا عِباديَ الذين أسْرَفُوا على أنفُسِهم لا تقْنطوا من رحْمة الله إنّ الله يغفِر الذّنوب جميعا إنّه هو الغَفُورُ الرّحيم}(سورة الزمر) ويقول للمخلصين من أهل هذاالدين {وقولوا للنّاسِ حُسْناً}(البقرة)، {يا أيّها الذِين آمَنُوا لا يَسْخَر قومٌ مِن قومٍ عَسَى أن يكُونُوا خَيْراً مِنْهُم ولا نِساءٌ مِن نِسَاءٍ عَسَى أن يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنّ ولا تَلمزوا أنفُسكم ولا تنابزُوا بالألقابِ بيسَ الإسمُ الفُسُوق بعد الإيمان ومن لمْ يَتُبْ فأُولئك هم الظّالِمُون يا أيُّها الذين آمنوا اجتَنِبُوا كِثيراً من الظّنِ إنّ بعضَ الظَّنِ إثْم}(سورة الحجرات}.
فهل يتعظ الكبار الذين أصبح مستقبلهم وراءهم فيقتحموا العقبة ويساعدوا تلامذتهم على اقتحامها ليضع الصغار والكبار، والمتصافون والمتراشقون والتائهون والمبصرون.. اليد في اليد للسّعْي إلى رِحاب الإيمان، ومرْحمة الرّحمان، هدفهم الأكبر التنعم في جنان الرضوان، فهل يتعقل المتعقلون ويرجعوا إلى رب العالمين؟؟!