على هامش ما أثير من إشاعات حول خلافات في صفوف “حماس” محمد نزال يوضح : حماس بين الداخل الفلسطيني والشتات


بدأ التباين في الرأي السياسي بين مجموعة من قيادات ورموز حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في الآونة الأخيرة مثيراً لاهتمام معظم المتابعين لشؤون الصراع الدائر في المنطقة مع العدو الصهيوني، وبات مدخلاً لكثير من التفسيرات والتحليلات والتوقعات -التي أخذت أحياناً طابعاً قريباً من التمني- بقرب انشقاق في الحركة على خلفية هذه التباينات، مما يستدعي منا قول رأينا فيه بعيداً عن اجتهادات المحللين والمحررين.

لفهم حقيقة ما يجري نقول إن الحركة تشهد حالياً -شأن كل الحركات الحية والمتفاعلة مع محيطها وواقعها- تبايناً في الرأي بين مجموعة من رموزها، انتقل إلى السطح، بحيث تحول إلى حوار في وسائل الإعلام، الأمر الذي كان مفاجأة للكثيرين، وتركز هذا التباين حول مجموعة من القضايا أبرزها وسائل المقاومة التي تنتهجها الحركة في مواجهة المشروع الصهيوني والعلاقة مع السلطة التي أفرزها الحكم الذاتي.

غير أن حقيقية التباين تكمن في الأولويات القائمة لا في الأهداف، إذ يرى مجموعة من رموز الحركة -معظمهم تعرض للقمع في سجون السلطة- أنه يتوجب على حركة “حماس” أن تضع مصلحة التنظيم والحفاظ على ممتلكات الحركة الجماهيرية على رأس أولوياتها، وأن تترك الحركة لبرنامج السلطة استنفاذ فرصه ثم السقوط من تلقاء نفسه بسبب عدم قابليته للاستمرار في ظل التعنت الصهيوني وتناقض البرنامج مع طبيعة الصراع القائم.

الملاحظة الأخرى في هذا السياق هي أن الخلاف بدأ فعلياً بعد حملات القمع المتتالية التي شنتها سلطة أوسلو على فصائل المقاومة الفلسطينية في مناطق الحكم الذاتي، والتي طالت آلاف النشطاء ومعظم -إن لم يكن جميع- مؤسسات المجتمع المدني، وأخيراً فقد حرصت أجهزة السلطة على تصوير التباين وكأنه بين داخل يعيش الواقع وخارج متشدد معزول عن الواقع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في الداخل. وهي مقولة جديدة استشرت في الإعلام الرسمي لسلطة أوسلو منذ انتقال ياسر عرفات للإقامة في قطاع غزة والاشراف على تطبيق الاتفاقات مع العدوالصهيوني.

أهل مكة والشعاب المتحركة

مقولات الداخل والخارج وأهل مكة وشعابهم كانت المدخل الأساسي لتشويه حقيقة التباين وحرفه عن إطاره الصحيح، مما يستدعي منا إعادة قراءة هذه المقولات من أجل رد التباين إلى إطاره الحقيقي.

بداية نقول إن الشعب الفلسطيني لا يعيش بين داخل وخارج، وإنما بين داخل محتل وشتات توزع في منافي الأرض، ولا تستوي مفردات “الخارج” و”الشتات”، فالأربعة ملايين فلسطيني الموزعين في كل أصقاع الدنيا لم يختاروا الهجرة من أرضهم وإنما هُجّروا منها بفعل قوة العدو، وهم لم يغادروا فلسطين بحثاً عن رغد العيش ونعيمه وإنما أرغموا -أوأرغم آباؤهم- على ترك الوطن والتشرد بين بلدان الدنيا.

ومن حق هؤلاء الذين يشكلون ثلثي الشعب الفلسطيني أن يمارسوا دورهم في العمل على تحرير أرضهم وتأمين عودتهم أو عودة أبنائهم وربما أحفادهم والابقاء على جذوة الصراع متقدة حتى يسلّموها لأبنائهم وأجيال الأمة القادمة.

ولا يلغي هذا الحق أن قيادات السلطة التي ظلّت تقيم في الشتات أكثر من ثلاثين سنة تمكنت أو مُكنت من العودة إلى قطاع غزة والضفة الغربية، فحق الفلسطينيين في الداخل والشتات في مقاومة العدو ليس تذكرة في جيب أحد ينقلها حيثما حط الرحال.

بل إننا نعتقد أن تقسيم الفلسطينيين بين داخل من حقه اتخاذ القرار -إذا كان هناك من يتخذ القرار خارج إطار البعض- وخارج لا يحق له الحديث عن المواجهة لأنه لم يُعان مرارة المحتل وقسوة الأوضاع الاقتصادية، أمر بالغ الخطورة والضرر إذ إن من شأنه تفتيت القضية الواحدة إلى مجموعة من القضاياالمحلية المرتبطة ببعضها تاريخياً فقط، ومن ثم يسهل عزلها عن إطارها الأشمل تمهيداً لإنهائها بالقمع أو رشوات التعويض والتوطين.

إننا نؤمن أن الصراع مع الصهاينة هو قضية كل العرب والمسلمين، فالكيان الصهيوني القائم هو قاعدة مشروع حرب شاملة على مشروع الأمة، كما أن المشروع الصهيوني الثقافي والاقتصادي عامل تهديد أساسي لمشروع الأمة وفرص نهوضها، وعليه فإنه لا يجوز لأحد احتكار حق التعبير عن القضية الفلسطينية أو حصرها في محيطها السياسي أو الجغرافي.

إن الحديث عن داخل يعاني وخارج يتنعم لم يكن موجودا يوم كانت قيادة المنظمة تتباهى أمام العالم بجنرالات الحجارة، وتهدد باشعال النار تحت أقدام الصهاينة من مقرها في حمام الشط في تونس، فمقولة الفتنة بين أبناء الشعب الواحد لم تظهر إلا من اتفاقات أوسلو التي همشت حقوق أربع ملايين لاجئ ونازح فلسطيني ووضعت مستقبلهم وحقهم في العودة في مهبالريح.

من ناحية أخرى، فإن نظرة سريعة إلى مسار الصراع مع الصهاينة تكشف أن الشعاب التي يتحدث عنها البعض ويروج لها إعلام السلطة هي شعاب متحركة، فقد كان الأردن في يوم من الأيام ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني، ثم انتقلت قاعدة المواجهة إلى لبنان وظلّت الساحة اللبنانية واحدة من أكثر ساحات العمل الفلسطيني فعلاً حتى تسلّم حزب الله ومنظمات المقاومة اللبنانية الأخرى لواء المواجهة، وإذا كانت الانتفاضة المباركة قد نجحت في جر المواجهة مع العدو إلى الداخل فإن هذه الحلقة ليست نهاية التاريخ ولا الفصل الأخير في صراع يستعر وإن كان الرماد قد طفا على سطحه بفعل اتفاقات أوسلو ومؤتمر مدريد.

إن القضية الفلسطينية هي المظهر الأعنف والأبرز والأكثر مباشرة في الصراع مع المشروع الصهيوني، وهي مهددة اليوم بالشطب والإلغاء مما يستوجب رص صفوف الشعب والتأكيد على وحدته ووحدة قضيته والتصاق هذه القضية بالمصالح الحيوية للأمة العربية وعمقها الإسلامي، وإذا كان تبدل حكومة العدو مبررا يستخدمه البعض لدعوة القوى الفلسطينية المختلفة سياسياً وايديولوجياً إلى التوحد، فإن محاولات شطب القضية والوقوف أمام تطلعات الشعب الفلسطيني أخطر من تبدل حكومة صهيونية، وهي مبرر أقوى لرص صفوف أبناء الشعب بدلاً من تصوير الفلسطينيين في الشتات على أنهم عبء على المسيرة الفلسطينية وضيف ثقيل الظل لا يحق له التدخل في شؤون البيت الفلسطيني.

إن من حق الشتات الفلسطيني التعبير عن رأيه ومن واجبه المشاركة في الصراع، واختيار التعابير والوسائل التي تعكس تطلعاته، ولا يلغي البعد الجغرافي أو الوضع السياسي القائم حقه في المشاركة والتأثير على الصراع ومجرياته.

الاطار الحقيقي للتباين

بناء على ما سبق وهو رأي يشاركنا فيه حتى أولئك الأخوة الذين عبّروا عن آراء مغايرة لرأي الحركة تجاه العلاقة مع السلطة وطبيعة العمل الذي ينبغي أن تمارسه الحركة في ظل الظرف الراهن، فإننا نرى في التباينات مجرد اختلاف في وجهات النظر حول ترتيب أولويات المرحلة.

ولحسم الخلاف يتوجب الموازنة بين احتياجات الحركة ومتطلبات المرحلة، فحركة “حماس” حركة تحرر وطني قامت لتعمل على وقف تمدد المشروع الصهيوني في المنطقة، وتعطيله ومنعه من تثبيت نفسه في قلب الأمة العربية والإسلامية، لذا فإن الجهاد هو الوسيلة الأنجع في هذه المواجهة لاعتبارات سياسية وموضوعية، ذات صلة بطبيعة العدو ومشروعه، وطبيعة الأمة وتراثها الفكري النفسي.

كما أن الجهاد هو الوسيلة الاستراتيجية للابقاء على جذوة المقاومة متقدة بانتظار تبدل الظروف العربية والاقليمية والدولية، وهي عندما قررت الدخول في مواجهة عدو شرس متخم بالأسلحة وخبرات القمع كانت تدرك حجم المسؤولية التي حملتها وحجم التضحيات التي يستلزمها الصراع، ولايعقل أن يصبح الخوف من التضحية أو ثمن المقاومة مدخلاً للتخلي عن الهدف وإلقاء المسؤولية في فترة بالغة الحساسية من عمر هذه الأمة.

من ناحية أخرى فقد أثبتت تجارب الماضي أن تخلي الحركات عن أهدافها الكبيرة العامة حفاظاً على مصالحها الضيقة أو طلباً للسلامة هو انتحار سياسي وشعبي، وتظل كلمات قالها لي قيادي فلسطيني نقلاً عن جنرال صيني قابله بينما كان في مطلع شبابه يدرس في كلية حربية هناك ترن في أذني، يقول القيادي الفلسطيني : “إن الجنرال الصيني يرى أن “الحفاظ على الهدف” هو أصعب قضايا الثورة”، ويؤكد القيادي أنه قد تعجب لهذا الرأي عندما كان في مطلع شبابه والثورة الفلسطينية الناشئة تشق طريقها، غير أن الصيني قال له إنك ستُضْرب ثم تحاصر وعندها تخيّر بين الموت أو التنازل عن جزء من الهدف، فتختار التنازل عن جزء من الهدف، ثم تضرب من جديد وتحاصر وتعرض عليك نفس الخيارات وهكذا في مسيرتك الثورية حتى تصل إلى وضع ترى فيه أنك ضيّعت هدفك.

أما في العلاقة مع السلطة، فالمعروف أن “حماس” ترى في اتفاق أوسلو باباً مشرعاً لتذويب القضية وشطبها بسبب جملة من المفاهيم التي قام عليها -لا مجال لسردها هنا- لذا فإنها قررت منذ البداية التعرض سياساً وشعبياً للاتفاق، وجعلت من الصدام المسلح مع سلطته خطا أحمر، غير أنها شددت على أن الاتفاق لا يلزمها ولا يلغي برنامجها المقاوم للمشروع الصهيوني.

وقد ظلّت حماس طوال السنوات الثلاث التي عاشها أوسلو حتى اليوم تحصر عملها ونشاطها ضد الاحتلال وإرادته النفسية، ولم تستهدف سلطة أوسلو، وقد أكدت “حماس” أن خلافاتها السياسية مع سلطة أوسلو لن تجر الشعب إلى حرب أهلية تحقق غايات العدو الصهيوني وأحلامه، حتى عندما تحولت سلطة أوسلو إلى جهاز قمع بحجة الحفاظ على مكتسبات لم يردها الشعب ولم يحس بها ولتنفيذ التزامات قطعتها في أوسلو، وما كان ينبغي لها أن تقطعها أصلاً بسبب تعارضها مع الثوابت الوطنية ظلّت حركة “حماس” على موقعها الثابت بعدم الانجرار لصراعات جانبية تحرف مسيرة الشعب عن هدفه.

إننا نرى في الدعوات القائلة بأنه يتوجب على حركة “حماس” إلغاء برنامجها لصالح مشروع السلطة، دعوات غير عادلة ولا منطقية، خاصة وأن برنامج “حماس” يلقى تأييداً جماهيرياً متصاعدًا في وقت يتهاوى فيه برنامج أوسلو شعبياً وسياسياً، وإن كان يتغول أمنياً وقمعياً، كما أنه غير منطقي بعد أن أثبت برنامج “حماس” المقاوم أنه البرنامج الأنجع والأقدر على إيذاء العدو وضرب إرادته النفسية في مواصلة الصراع والتمدد، فيما عجز برنامج أوسلو عن التأثير في العقلية الصهيونية ونتائج الانتخابات الأخيرة وبرنامج الاستيطان دليل على ذلك.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>