الرؤية أمِ الحساب؟!


الخلاف شـر

من المسائل المتفق عليها قديماً وحديثاً : إعذار المجتهد المخالف؛ فما زال العلماء يخالف بعضهم بعضاَ في مسائل الاجتهاد، ولا يمنعهم ذلك من التواد والتحاب؛ وأقوال الأئمة في ذلك كثيرة جداً، منها :

قال يحيى بن سعيد الأنصاري -وهو من أجلاّء التابعين- : >ما برح المستفتون يُستفتَوْن، فيُحل هذا، ويُحرِّم هذا، فلا يرى المحرِّم أنّ المحلِّل هلك لتحليله، ولا يرى المحِّلل أن المحرِّم هلك لتحريمه<(1). وقال سفيان الثوري : >إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى غيره فلا تَنْهَهُ<(2). وقال ابن قدامة المقدسي : >لا يَنْبغي لأحدٍ أن يُنْكِر على غيره العَمل بمذهبه؛ فإنه لا إنكار على المجتهدات<(3). وقال ابن تيمية : >التفرّقُ والاختلافُ المخالِفُ للاجتماع والائتلاف حتى يصير بعضُهم يُبْغِض بعضاً ويعاديه، ويحبُّ بعضاً ويواليه على غَيْر ذاتِ الله، وحتى يُفْضِيَ الأمرُ ببَعْضِهم إلى الطَّعْن واللَّعْن والهَمْزِ واللَّمْز، وببَعْضِهِم إلى الاقْتِتال بالأَيْدِي والسِّلاح، وببَعْضِهِم إلى المهاجرَةِ والمقاطعة حتى لا يُصَلِّيَ بعضُهُم خلفَ بَعْضٍ، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرمها الله ورسوله، والاجتماعُ والائتلافُ من أعظم الأمور التي أوْجَبَها اللَّهُ ورسوله<(4).

وهذه المسألة    على الرغم من وضوحها وجلائها واتفاق الناس عليه،ا إلا أن في تطبيقها عند بعض الناس خللاً ظاهراً؛ فخلاف يسير في مسألة فقهية اجتهادية يسُوغ فيها الخلاف يؤدِّي إلى ما ذكره شَيْخُ الإسلام ابن تيمية نسأل الله السلام.

ومن المسائل الفقهية التي يتجدد حولها الجدل في البلاد الغَربيَّة خاصة في مثل هذه الأيام. مسألة :(إثباتِ دُخُولِ شَهْرِ رمضان وخُرُوجِه)؛ فمنهم من يرى وجوب الاعتماد على الرؤية، ومنهم من يرى الاعتماد على الحساب، والقائلون بالقول الأول يختلفون فيما بينهم على أقوال : فمنهم من يرى اعْتِمَادَ رُؤْيَةِ مَكَّةَ، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أقْربِ بلَدٍ إسلامي، ومنهم من يرى اعتماد رؤية أيِّ بلدٍ إسلامي..

ومثل هذا الخلاف أدى في العام المنصرم في بعض المدن الأوروبية -مثلاً-  إلى جَدَلٍ عريض، ثم تطور إلى قيلٍ وقالٍ، ثم وصل الحال إلى تَرَاشُقٍ بالتُّهَم عند بعضهم، وراح بعض أتْباعِ كُلِّ فريقٍ  يَسْتَدْعِي خِلافاتٍ أُخْرَى، ويستثيرُ كوامِن من الاختلافات القديمة..!! ووقع بعضُهم فيما أشار إليه العلاّمة القاسمي بقوله : >غريبٌ أمر المُتَعَسِّفِين، والغُلاةِ الجَافِّين، تراهُمْ سِراعاً إلى التكْفير والتضليلِ، والتفْسيق التبْديع، وإن كان عند الحقيق لا أثرَ لِشَيْء، من ذلك إلا ما دعا إليه الحَسَدُ، أو  حَمْل عليه الجُمُود وضُعْف العلم<(5).

فالقائلون بالقول الأول : يرون إخوانهم قد رَدُّوا النص الشرعي، وساروا على مِنْهَاج أهْلِ الأهواء من العقلانيين الذين لا يعظِّمون النصوص ولا يرعَوْن حُرمتها، وربما عَظَّم بعضُهم هذا الخلاف، وزعم أنه لَيْس خِلافاً فقهياً، بل هو خِلاَفٌ مَنْهَجِيٌّ، وما الخلافُ في هذه المسألة إلا أثرٌ من آثاره!!

والقائلون بالقول الثاني : يرون إخوانهم قد جَمَدُوا في فَهْمِ دلالة النص، فمقصودُ الشارع أنْ يتَثَبَّت الناسُ من دخول الشهر، فإذا استطاعوا معرفة دخوله بأي طريقةٍ علميةٍ صحيحة فَثَم مقصودُ الشارع. والحسابُ الذي ردّه المتقدّمون من أهل العِلْمِ كابْنِ تيميةَ وغَيْرِه هو الحِسابُ الظّنِّيُّ الذي يكْثرُ فيه خطأ الحسابيين، واختلافُهُم فيما بينهم، أما الحسابُ في هذا العصر فقد تغيَّرَتْ آليَاتُه وتطورتْ أدواتُه، وأصبحتْ نِسبةُ الخطأ فيه قليلةً جداً، والشرعُ لا يأتي بما يُخالفُ العَقْلَ.

واحسب أن حسم الخلاف بين الفريقين متعسِّرٌ جداً إن لم يكن متعذِّرا؛ فمن جاء بفتوى من أحدِ العلماء رُدَّ عليه بفتوى أخرى مخالِفَةٍ لها من عالمٍ آخر، وكُلُّ عالِم لدى صاحبه أولى بالاتباع من الآخر.

إذن ما الحلُّ في ظل غياب الوِلاَيَة الإسلامية التي تجْمَعُ الناسَ على رأي واحد؟!

أرى أن أمامنا خيارين :

< الخيار الأول : أن يأخذ كلُّ مركزٍ بما يرى أنهالأرجَحُ، وعلى الأئِمَّة ومديري المراكز الإسلامية والمساجد أن يتَّقُوا الله تعالى في الترجيح، ويبذُلوا الجهد في الوصول إلى الحق الذي تَبْرَأُ به الذمّة، ويسْتَشْعِروا عِظم الأمانة المناطة في أعناقهم. ثم ينبغي لكل مركز ومسجد أن يقدِّرَ رأي الآخرين الذين خلفوه، ويَلْتَمِسَ لهم العُذْرَ، ويذبّ عنهم، ولا يسمح بالجدل والمراء.

وهذا الرأي وإن كانت نتيجتُه تفْرِيقَ الناس في المدينة الواحدة، إلا أن فيه قطْعاً لمادّة الخلاف والتنازُع، وسَدّا لأبواب الغيبَة والنميمة، قال ابن تيمية : >…وإن رَجَّحَ بعضُ الناسِ بَعْضَها (يعني : بعض الاجتهادات) ولو كان أحدُهما أفْضَل؛ لَمْ يَجُزْ أن يُظْلمّ من يخْتَارُ المفْضُول ولا يُذَمَّ ولا يعَاب بإجماعِ المسلمين، بل المجتهدُ المخطئُ لا يجُوزُ ذمُّهُ بإجماع المسلمين، ولا يجوزُ التّفرُّق بذَلك بين الأمة<(5).

< الخيار الثاني وهو الأولى والأرجح : أن يجتمع أهل الرأي من الأئمة ومديري المساجد والمراكز ويتدارسوا المسألة، ثم يخرجوا باتفاق موحّد؛ ويتطلب هذا حرصاً من الجميع على ضرورة التآلف والاتفاق، والالتزام يقول النبي  : >تطاوعا ولا تختلفا<(6). فليس المقصودُ أن ينتصر المرء لرأْيِه، بل المقصوودُ هو تحقيقُ المصلحة الشّرْعِيّة؛ فمَفْسَدةُ التدابُر والتنابذِ والتقاطع أعْظَمُ أثراً وأشَدُّ خَطَرا من الأخْذِ بأحَد القَوْلَيْن؛ لأن غاية ما في أحَدِهِما أنه اجتهادٌ مرجُوحُ يُثابعليه صاحبُه بأجْرٍ واحد، وأما الاختلافُ فكما أنَّهُ يزيد من الشَّرْخ المُسْتَشْرِي في جَسَدِ العَمَلِ الإسلامِيّ، ومدعاةٌ لسُخريَّة غَيْر المسلمين من المسلمين؛ فهو مخالِفٌ لمقصودِ الشارع الذي أمَرَ بالتعاون على البِرِّ والتقوى؛ قال الله تعالى : {ولا تَكُونُوا كالذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْد ما جَاءَهُم البَيِّناتُ}(آل عمران : 105).

أنا لا   أدعو إلى المثالية في إنهاء الخلاف برمته؛ فهذا أمر غيرُ واقعِي على الإطلاق، ولو سَلِم منه أحدٌ لسَلِمَ منه أصحاب النبي ، ولكن الذي نهى عنه علماء السلف والخلف : هو أن يتحوّلَ الخلافُ إلى صراعٍ وتصادمٍ وشِقاقٍ. قال الإمام الشاطبي نقلاً عن بعض المفسرين : >فكلُّ مَسْألَةٍ حدثتْ في الإسلام فاختلفُ الناس فيها ولم يُورِثْ ذلك الاختلافُ بينهم عدَاوةً ولا بغضاء ولا فُرْقة علِمْنا أنّها ن مسائل الإسلام، وكلُّ مسألة طرأتْ فأوجبتْ العداوة والتنافُر والتنابُز والقطيعة عَلِمْنا أنها ليست من أمْر الدين في شيء، وأنها التي عَنَى رسول الله  بتفْسِير الآية، وهي قوله تعالى : {إنّ الذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً}(الأنعام : 159)… فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى : {واذْكُرُوا نِعْمَة الله علَيْكُم إذْ كُنْتُم أعْداءَ فألَّف بين قُلُوبِكُمْ فأصْبَحْتُمْ بنعْمتِهِ إخْواناً}(آل عمران : 103)، فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدثٍ أحدثوه من اتباع الهوى، هذا ما قالوه، وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين<(7).

وها هنا مسألة جديرة بالاهتمام : فإذا آمنا بأن مسألة (إثبات دخول الشهر وخروجه) مسألة   خلافيَةٌ يسَعُ فيها الاجتهادُ، فهل يصِحُّ للإنسان أن يتْرُك الرأيَ الراجحً الذي يراه، ويأخذ بالرأي المرْجُوح، من أجل توحيد الكلمة وتأليف القلوبِ وتَجْميع الصفوف ودرء النزاع والتدابر؟! أم أن ذلك من التفريط والتمييع والتساهل والاجتماع على أرض هشة؟!. والحق الذي لا ريب فيه أن مصلحة الاجتماع والائتلاف أولى، وترْك الرأي الراجح تحقيقاً لهذه المصلحة ممّا دلَّ عليه الشرعُ المطهّر، وإذا تعارضت المصالح، فتحصيل المصلحة الأعْلى مُقدَّم على المصلحَةِ الأدْنَى، كما هو مقرر في علم الأصول، قال ابن تيمية : >..ولا يجوز أن تجعَل المستحبات بمنزلة الواجبات يمْتنعُ الرَّجُل من تركِها ويَرَى أنه قَدْ خرجَ من دينِه أو عصَى الله ورسولَهُ، بل قد يكون ترْكُ المستحبات لمعارِضٍ راجِحٍ أفْضَلَ من فِعْلِها، بل الواجباتُ كذلك. ومعلوم أن ائتلاف قلوب الأمة أعظَمُ في الدِّين من بَعْض هذه المُستحبّاتِ، فلو ترَكها المرءُ لائتِلاف القلوب كان ذلك حسَنًا، وذلك أفضَلَ إذا كان مصْلحَةُ ائتلافِ القلوب دُون مصلحة ذلك المُستحَبّ، وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما : عن عائشة أن النبي  قال لها : >لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لنََقَضت الكعبة ولألْصَقْتُها بالأرض، ولجعلتُ لها باباً يدخلُ الناس منه وباباً يخرجون منه<(8). وقد احتج بهذا الحديث البخاري وغيره على أن الإمام قد يرك بعض الأمور المختارة لأجل تأليف القلوب ودفعاً لنفرتها، ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يُجهَر بالبسملة عند المعارض الراجح، فقال : يَجْهَرُ بها إذا كان بالمدينة، قال القاضي : >لأن أهلها إذ ذاك كانوا يجْهَرون، فيَجْهر بها للتأليف وليُعْلِمَهم أنه يقرأ بها، وأن قراءتها سنة، كما جَهَر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة<(9). إذن فالمسألة تحتاج إلى فقه رشيد يتسع فيه الصدر، ويسمو فيه المرء عن أهوائه؛ فليس الفقيه هو الذي يتعصب لرأيه، أو يشدّد على الناس، وقديماً قال الثوري : >إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد<(10). وكأني بقائل قد يقول : إننا -معاشر أهل الحق- إذا تنازلنا عن رأينا في مسألة فقهية اجتهادية من أجل اجتماع الصف؛ قادنا ذلك إلى التنازل في مسائل منهجية وعقيدية أخرى فيكثر الخلط، وتتَميَّعُ الصفوف..!

وهذا تحفُّظ مردود؛ لأن التنازل في مسائل منهجية وعقيدية انْحرافٌ غير سائغ، وهو مخالف للسبيل الشرعي الذي سلكه سلفنا الصالح، ولكن الذي ندعو إليه هو التّحَاور والتّطاوُع في مسائل اجتهادية يَسَعُ فيها الخلاف تحقيقاً لمصلحة أعظم نفعاً بإذن الله، ومراعاة لقاعدة تُعَدُّ من أعظم قواعد الإسلام وأصوله، وهي : الاعْتِصام بحبل الله تعالى، وترْكُ التفرّق والاختلاف المذموم، وها هو ذا عبد الله ابن مسعود ] يتْرك رأْيَه بِقَصْر الصّلاةِ في الحَجِّ ويأخذ بفِعْل عثمان بن عفان ] لما رأى الإتمام؛ فلمّا سئل عن ذلك قال : >الخِلاَفُ شَرٌّ<( أخرجه أبو داودو)، وفي رواية : >إني أكْرَهُ الخِلاَفَ<(11).

-1 جامع بيان العلم وفضله (903/2).

-2 الفقيه والمتفقه (69/2).

-3 الآداب الشرعية، لابن مفلح الحنبلي (186/1).

-4 خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة، لابن تيمية، ضمن مجموعة الرسائل المنبرية (116/3).  // -5 الجرح والتعديل، للقاسمي، ص 38.

-6 خلاف الأمة  (124/3).

-7 أخرجه بهذا اللفظ مسلم في كتاب الجهاد والسير رقم 1733.

-8 أخرجه البخاري، رقم (26، 1583، 1584.. وغيرها)، ومسلم (-968/2 973).

-9خلاف الأمة  (–124/3 125).

-10 جامع بيان العلم وفضله (784/10).

-12 أخرجه البيهقي (144/3). والحديث أصله في صحيح البخاري، رقم (1084، 1657).

البيان ع 156 نونبر 00

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>