نماذج علمانية في
عالمنا الاسلامي
كانت تركيا في عهد الخلافة تمتد حدودها إلى فيينا، وكانت تملك البحر الابيض المتوسط، كانت خلافة قوية، تدخل في حروب مع القوى العظمى آنذاك، لكن بعد 1924 وعلى عهد مصطفى كمال الذي فرض العلمانية وألغى الخلافة، وفرض معركة سماها معركة القبعة، وفرض على الناس إزالة الحجاب الاسلامي، وأزال عيد الأضحى وعيد الفطر، ومنع الناس أن يحتفلوا بهما ومنعهم أيضا من أداء فريضة الحج، ومن الأذان باللغة العربية، فرض على الناس أن يصلوا بالترجمة التركية، أيضا تدخل في علاقة الناس بربهم. وفي بلدان إسلامية أخرى، لم يخرج منها الاستعمار، حتى كان قد اطمئن الاطمئنان كله إلى أن الفكر العلماني قد ترسخ وإلى أنه أصبح له دعاة، وأصبح له أنصار وحماة، فلم يعد الوجود الاستعماري مفيدا ولا مجديا ما دام أن جل المسلمين أصبحوا يحملون الفكر الذي كان الاستعمار يبشر به. وقد كان الاستعمار يعمد إلى تلميع بعض الشخصيات وإلى إظهارها بمظهر خارق، ثم أعطاها بعد ذلك سلطة الكلام، وكان سعد زغلول في مصر واحدا من هؤلاء، وهو الذي فعل كل شيء في سبيل توطين العلمانية، ومع ذلك فالناس كانوا يثقون به، حتى أنه كان يفطر في رمضان، وكان أصحابه يقولون بأنه صاحب عذر، وإنه لا يتحمل الصيام . هكذا بدأنا مع مثل هذه الأفكار، ثم إنها تغلغلت الآن فينا، وأصبحت شاسعة وممتدة في كياننا وثقافتنا. وفي بلدنا المغرب كتب أحد المفكرين كتابا عن الاسلام والدولة وقال : إن محمد ، لم يكن رئيس دولة وإنما كان رئيس جماعة، ثم إن بعض الصحف العلمانية كتبت في السنة الماضية، وفي هذه السنة، مقالات تنتقد فيها شهر رمضان فكتبت تقول :إن المسلمين حين يصومون يتوقف الانتاج وإذا كانوا قد صاموا خمسة عرش قرنا فهم قد تركوا ألف وخمسة مائة شهر دون عمل، وهذه المدة هي المسافة التي تفصلنا تقدما وحضاريا عن أوربا، وفي هذه السنة أجرت جريدة حوارا مع شابين وجدا يفطران في رمضان ودعتهما إلى أن يجاهرا بهذا بدعوى الحرية… هذا بالإضافة إلى كثير من المظاهر السائدة علي المستوى الاجتماعي كالأعراس، وعلى المستوى الاقتصادي كالتعامل بالربا… أيضا في كثير من وسائل إعلامنا كالتلفزة التي أصبحت وظيفتها هي إشاعة الفاحشة. وهذه نماذج قليلة تعكس رؤية العلمانية ومنظورها، وإلا فالمقام لا يسع لذكر جل المظاهر والنماذج.
الشريعة الاسلامية والعلمانية
لقد جربت العلمانية في ميدان خطير، وهو ميدان التشريع، الذي كان فيه حرص الاستعمار كبيرا على أن يزال كل ماله صلة بالشريعة الاسلامية. فهذا الخديوي إسماعيل في مصر سنة 1883 أدخل قانون نابليون ، وفي تونس ألغيت الشريعة الاسلامية سنة 1906 وفي بلدنا المغرب صدر قانون نابليون سنة 1913 .. وبقيت بقية أشياء هي مدونة الأحوال الشخصية، التي يريد البعض إلغاءها، وهم بهذا يريدون أن يزيلوا آخر شيء متصل بالشريعة الاسلامية. إن أحكام الشريعة الاسلامية لا نقصد بها قطع يد السارق أو جلد الزاني غير المحصن أو رجم الزاني المحصن، إنها تبتديء بالرحمة، وبالتربية والتوجيه، إن العقوبات توضع في الاسلام لمن هم في حالة استثناء .أما الأمة فتؤخذ بالقرآن. وقد لاحظ العلماء -علماء القانون- الفرق بين القانون والشريعة الاسلامية، التي تنهي عن الزنا قبل أن تعاقب -مثلا- وكتاب الله حافل بالمواعظ والتوجيهات التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ثم بعد ذلك ترتب العقوبة. وفي القوانين الوضعية لا توجد مادة تقول على سبيل المثال : “أيها الانسان لا تقرب الزنا ” بل تجد في القانون “عقوبة كذا من ستة أشهر إلى خمس سنوات” .القانون لا يأمرك ولا ينهاك ،لذلك قالوا : “القانون لا يعرف الأخلاق” والقانون لا ينصح، لكن القرآن ينهى ويربي ويوجه ويسدد، فالانسان المسلم العادي شأنه أن يكون مع أمر الله وينتهي عن النواهي، فهو قبل أن يقع عليه الحد يسمع قول الله عز وجل “لاتقربوا الزنا” تنفيرا من هذا العمل الشنيع، ويسمع قصة العفة مع سيدنا يوسف عليه السلام… فهذا فرق بين التشريع الوضعي والشريعة الاسلامية، ثم إن القانون الوضعي لا يستطيع أن يزيل الجريمة أبدا فأرونا بلدا واحدا، استطاع القانون فيه أن يمحو أو أن يقلل من نسبتها، فهذه الولايات المتحدة تسمع كل مرة ما يحدث في مدارسها من عنف وقتل وجرائم… فهؤلاء لا يخافون القانون، فهو عاجز، ضعيف أمام هذه الظواهر الاجتماعية الخطيرة، يقول بعض الاختصاصيين ” إنهم في حالة الجرائم التي تقع، فإن خمسين بالمائة من حالات الجرائم لا يعرف فاعلها، إن الفاعلين يكونون أذكياء، فيتملصون، كم من الجرائم لم يعرف فاعلها وأشياء أخرى كثيرة لا يعرف لها فاعل، وفي الخمسين الباقية من المائة هناك نسبة تعرض على القضاء فلا تكون الأدلة كافية في الإدانة، فيسرح الكثير من الناس، ويبقى أن الإدانة غالبا ما تكون، والعقوبة ما تصيب إلا ثمن المجرمين، وفي هذا الثمن بعضهم أبرياء، بمعنى أن الاصل أن يربى الانسان، أن يخاف الله، لأن الله يعلم السر وأخفى، فالقانون لا يعاقب على النميمة ، ولا على الغيبة، الشرع يعاقب الانسان على سوء الظن بأخيه المسلم، هل تستطيع أن تدعو إلى القضاء إنسانا لأنه اغتابك. إن القوانين زادت الناس حيرة وارتباكا فأجازت الربا وخلقت البلبلةفي اقتصادنا وأنزلته إلى الحضيض.
لاتتعبوا خطوات العلمانية
إن العلمانية – في بلادنا- وفي كثير من الدول الاسلامية، أصبحت متغلغلة يجب التنبه لها ومقاومتها بالفكر والحوار والمناقشة. إننا نلاحظ أننا نعيش فعلا حالة بعيدة كل البعد عن تعاليمنا الاسلامية وحالة من الانفصام في شخصية المسلم. على مستوى السلوك نحن مطالبون بأن نكون مع الاسلام، فهو خير لنا لأنه يحفظ أسرتنا وعائلتنا، إن الذين يريدون معالجة مشاكلنا الفردية والاجتماعية بعيدا عن الدين وإقصاء لشريعته يريدون بذلك أن يشعلوا نار الفتنة، فهم لا يريدون أن يكون ديننا حاضرا في حل مشاكلنا. إن النماذج والصور التي قدمناها آنفا من العلمانية وهي كثيرة جدا وبعضها عند المسؤولين وبعضها عند العاديين فهي كلها تضر هذه الأمة، فلا بد لنا أن نعود لديننا ولا بد أن نأخذه في شموليته، فإسلامنا فيه الاقتصاد وفيه السياسة وفيه الحكم وفيه أشياء كثيرة، لهذا يجب أن يراجع كل شيء .ففي تاريخنا كم كتب علماؤنا في الأحكام مثل كتاب”الاحكام السلطانية ” للماوردي في تدبير الدولة، وكتب أحد علماء المغرب وهو محمد بن الحسن المرادي في عهد المرابطين كتابا سماه “الإمارة وتدبير السياسة ” وهو موجود، وألف في السياسة أيضا أبو بكر الطرطوشي كتابا سماه “سراج الملوك” يحتوي على أبواب كثيرة في تسيير الدولة منها أبواب في المشاورة، وصفة الولاة، و صفة الوزراء، وصفة الحكام، وفي التعامل مع الجند…
إن العلمانيين يريدون أن يكون الانسان كما سمي عند الغرب Super Man والذي قال عنه نتشه : ” إنه لم يعد في حاجة إلى الاله وهو الذي يسير أموره الدنيوية وتبقى العبادة لأهل الدين، إذن فتكون القسمة ثنائية، فما هو دنيوي يسيره الناس، وما هو تعبدي ديني يسيره رجال الدين.
إن العلمانية بمواقفها هذه هي هجمة شرسة على الدين، في كل مستوياته وفي مراحله، لذلك فنحن مطالبون بأن نفهم عصرنا، والتحديات، والمواجهات، وأن نكون إيجابيين ، فإما أن نكون مع الاسلام أو لانكون غدا، لأن الامة التي لا دين لها لا قيمة لها ولا وجود لها، ولاتثبت في الصراع، وعلينا أن ندخل مع الآخرين في حوار ، وأن نبين لهم أن ما انطبق على الكنيسةلا ينطبق على الاسلام الذي هو دين شامل لم يدع شيئا إلا وتحدث عنه .كان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون :إن الرسول صلى الله عليه وسلم، ما ترك لنا طائرا يطير في الفضاء إلا أعطانا خبرا من أمره، إن هذا هو الاسلام الشامل، لا الاسلام الذي يفضله البشر حسب الأهواء، الاسلام الذي لا يقبل الله سواه ، يقول :{ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} (آل عمران : 84)
إن الذين يفترون على الدين الاسلامي الكذب ،عليهم أولا النظر في مضمون الدين عندنا ، بل إلى العقيدة في الاسلام الذي تقوم على : ” أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله” ومن مفاهيم الالوهية الانقياد لأمر الله والاستسلام بلا قيد ولا شرط {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} إن الله يقسم أن الايمان لا يمكن أن يكون موجودا في قلب المؤمن إلا إذا استسلم لشرع الله، وللقرآن الكريم من أول آية إلى آخر آية .إن الانسان لو استسلم ولم يطمئن قلبه لم يكن مؤمنا، ثم إذا قلنا إن الرسول لم يكن معنيا إلا بأمر العبادات من صلاة وصيام… فإن هذا لا تؤيده الوقائع، إن الرسول كانت له تصرفات كل تصرفات رجال الدولة الآن، كان له جيش، وكان يعلن الحرب، وكان يوقع على السلام، كان يقسم الغنائم وكان يراسل الملوك، وكان الملوك يراسلونه ويهدون إلىه الهدايا.
إعداد بلقاسم بوعزاوي / وجدة