في ظلال القرآن : تفسير سورة التحريم {يا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى ربُّكُم أن يُكَفِّر عنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَار}


التوبة : شروطها وأحكامها

1) عناية العلماء بالتوبة دليل على أهمية آثارها :

لأن موضوع التوبة موضوع هام، وموضوع أكيدٌ في حياة المسلم، ولأن المسلم كيْفَما كان يحتاج هذه التوبة، ويرجع إليها، وهي طريق الخَلاَص، وطريق التخفُِّف من الذنوب، فقد أوْلاها العلماء عناية خاصة، ومن ذلك أن بعض كتب العقيدة خصصت مباحث وأبواباً لبحْث التوبة، أي أن بعض العلماء أدخلوا موضوع التوبة في العقيدة، ودرسُوها في كتب العقيدة، مع أنها يمكن أن تدرس في كتب الآداب أو الأخلاق، أو إصلاح النفس، أو تربية القلوب وما إلى ذلك، لأن الذي يترتب عليها من آثار شيء مهم نفيس.

2) أحوال التائب :

التوبة عبارة عن موقف، عبر أحوال ثلاث:

< حالة عِلم.

< حال  التائب.

< عن موقف بالنسبة للمستقبل.

المرحلة الأولى : العلم بالذنب والإقرار به

فهو عِلم الإنسان بأن ما فعله ذنب، أي إقرار الإنسان واعترافه بذنبه، أما الذي يُبَرّر ويُسَوِّغ ويحاول أن يجد لنفسه المبررات -إن فعل شيئا- فلا يمكنه أن يتوب فالذي يقول : أنا فعلت هذا الأمر لأنه لابد منه، ولأنه دَعَتْ إليه الحاجة، أو أصْبَح من مقتضيات العصر، فهذا يُدافع عن المنكر، لا يمكن أن نتصوَّر أنه يتوب عنه مادام يُؤيّدُه ويدافع عنه، كقوله : الربا ضرورة من ضرورات العصر، ولابد منه، لأن المصانع والدول قائمة على الربا، والاقتصاد كذلك.

فمعنى هذا القول : أن الإسلام تجاوزه العصر، ولابد من دين جديد، لأن الدين الذي يحرمهم الربا قد فاتَ أوانه، حيث كانت الحياة بدَوِيَّةً وبسيطَةً، فالناس كانوا يتركون الربا لكونهم بسطاء، والحياة الاقتصادية لديهم كانت بسيطة. أما الآن فتعقَّدت العلاقات وأصبحت عندنا مشاريع كبرى ومؤسسات ضخمة، وأصبح الاقتصاد متشابكا، فلا يمكننا ترك الربا لأنه أصبح جزءا من الحياة الاقتصادية، بمعنى أننا نقول : لنبْحث عن دين آخر يُحلل الربا، وهذا -زيادة على ما فيه من الخطإ، والضلال، والزيغ- ردُّ للدين جملة وتفصيلا، كأن الإنسان يتهم الدين بأنه لم يعد صالحاً لهذا الزمان، ونحن نقول : إن دين الله صالح للزمان والمكان والأشخاص. فدين الله بكماله وشموليته يستغرق الأمكنة كلها، والأزمنة كلها. هذا هو ديننا الذي نعتقده.

هذه إذن هي المرحلة الأولى : مرحلة الاقرار والتسليم بأن الفعل معصية، والعِلم بأنها -المعصية- تمنع عن الله عز وجل، وتحرم من رضاه.

المرحلة الثانية :

الندم على الشيء الذي صدر مخالفا للشرع

هذا الندم الذي تتأسس عليه التوبة، لا يكون ندما شرعيا وصحيحا ونافعا في التوبة، إلا إذا كان ندما من أجل الحياء من الله فقط، بمعنى أن هذا الإنسان الذي يريد أن يتوب، ينظر في ماضيه، ويسترجع تلك الأفعال القبيحة، فيندم عليها ويَعلم أنه كان في وضعية غير سليمة، وأنه يستحيي من ربه أن يقابله وقد ارتكب كل هذه الآثام، فإذا حصل له هذا الشعور، فقد بدأ في المرحلة الثانية الحقيقية للتوبة.

أما إذا نَدِم لغرضٍ آخر، ولداعٍ آخر دنيوي أو لاعتبار آخر، فلا توبة له.

فمثلا الانسان الذي كان يتعاطى الخمر والزنا والقمار، ثم بعد مدة ذهب ماله، وفرغت يده فاكتشف أنه كان مخطئا، فهو الآن يتأسف ويتحسّر على الماضي، وعلى ماله الذي ضاع، فيقول : لو كنت مستقيما لما ضاعَ مالي، فالذي يشغل قلبه هو ضياع ماله، لا ضياع علاقته بربه، إذن فهذا ليس تائبا، وليست هذه هي التوبة.

وهناك اعتبارات متعددة يمكن أن يتوب الناس بسببها، فهناك مثلا كثير من المجرمين قابعون في السجون، ولربما بعضهم يقبَعُ لمدة طويلة، فلأي شيء يتألمون؟فإن كان ألمهم بسبب كونهم أساؤوا العلاقة مع الله فهذه توبة، ولكن إن تأسفوا لأنهم ضُبطوا وتورطوا وعوقبُوا فهؤلاء لا توبة لهم.

فالتوبة هي الندم على إساءة التصرف مع الله تعالى،  والندم على الفعل، وهذا يقتضي من الإنسان أن يستحضر الذنب الذي صدر منه، ويندم عليه، هذا هو المفروض، لكن بعض الناس لا يستحضر جزئيات العمل الذي قام به، وربما يتوب بعد الخمسين من عمره، وكان من قبل لصّاً، ففي هذه الحالة، هل من الضروري استحضار جميع السرقات التي سرقها، خاصة وأنه نسي بعضها أو معظمها؟ فمادام لا يذكرها ولا يستحضرها، فكيف يندم ويتوب عليها؟ فالندامة تكون على الفعل المعروف، وهذا أفعاله كثيرة وغير معروفة.

قال بعض العلماء : “إنه يتوب توبة إجمالية، ويندم ندما إجماليا، فيقول : “اللهم ما كان مني من ذنب فاغفره لي< لأن الله تعالى محيط بجميع الذنوب، ويعلمها، ولا شيء يخفى عليه،.

المرحلة الثالثة :

العزم على عَدَم العود إلى ذلك الفعل

وقد قال بعض العلماء : هذا إنما يُشترط في القادر على الرجوع إلى ذلك الفعل. أمّا الذي فقد القدرة على إتيان تلك المعاصي؛ فنيته الصادقة في التوبة تكفيه، وذلك مثل الإنسان الذي كان يغتاب الناس، ويُحدث الوقيعة بينهم، ويريد أن يتوب، لكن قبل ذلك قُطِع لسانه، فهل يُطالب هذا بعدم العود؟ هو لا يستطيع ذلك، لأنه مُنع منه، ومع ذلك فإن العلماء قالوا: إن توبة هذا الإنسان وإسرارها في قلبه، وهو غير قادر، تنْفعُه.

وقال بعض المعتزلة : إن العاجز لا توبة له، بمعنى أن الإنسان يتوب مادام قادرا على أن يفعل الشر فلا يفعل، لكن الذي قُطع لسانه ويريد أن يتوب عن الغيبة والنميمة، ولا قدرة له، فلا توبة له، ويبقى على ما هو عليه، وكذلك الذي كان مثلا يُمارس الفاحشة ومُنع منها بمرض، ولم يعد يستطيع ذلك فلا توبة له، ونفس الأمر بالنسبة لمن كان موظّفا، وكان يأخذ الرشوة باستمرار، ثم تقاعد أو طُرد من عمله، فيريد أن يتوب عن الرشوة، وهو لا يستطيع الآن أخذها.

فالتوبة إذن مشروطة بالقدرة، فالذي فقد قدرته فقد توبَته، ولذلك يفترض في الإنسان أن يتوب وهو قادر، فالشاب الذي يقع في الفاحشة، ويتوب منها له أجر، لأنه قادر على أن يُعاود فلا يفعل. أما الذين يقولون سنَشيخُ ونتوب، فهؤلاء لا توبة لهم في الحقيقة على -رأي الجُبّاني من المعتزلة-، فالإنسان، إذن مادامت له القدرة على الشر فتوبته هي الصحيحة، أما الذي تجاوزته ا لأيام والأحداث فقد أُجْبِر على ما هو عليه، وربما لو أعطِي قوة جديدة لعاد إلى ما كان عليه. وهذا مهم جدا في اعتماد التوبة.

يدخل في التوبة كذلك أمور خِلافية، لابد من بيانها، لأن علماءنا رضي الله عنهم كانوا يمحصون الأشياء، ويضعون كل شيء في مكانه.

فمن الشروط التي اشترطوها : مغادرة مكان المعصية. وهذا الشرط اشترطه الزمخشري فقال : >إن من تمام التوبة بل من شروطها، أن يُغادِر الإنسان مكان المعصية<، وقال عامة علماء المسلمين : >إن هذا الشرط في التوبة ركن شاذٌّ ليس عند عامة العلماء، ولكن مع ذلك يقولون يُستحب للإنسان أن يترك مكان المعصية. وهذا في الحقيقة يبدو فيه الصواب عند الجانبين :

أ- فإذا كان المكان الذي يوجد فيه الإثم جزءا من المعصية، فإنّ تركه جزْءٌ من التوبة، فمثلا : التائب من القمار، وارتياد السينما الخليعة، والشواطئ المختلطة اختلاطا فاضحا، لا تصح توبته إلا بهجران أماكن الفساد، وغشيان الأماكن التي تُنمّي الإيمان وتزيد من قوته لترسخ توبته.

فترك المكان اشترطه بعض العلماء، وفيه تفصيل، فإذا كان المكان جزءا من المعصية فتركه واجب، وقول الزمخشري صحيح لا غبار عليه.

ب- أما إذا كان المكان كبيرا كالمدينة مثلا، فإن على الإنسان ترك الجهة أو البيئة الصغيرة التي تروّج للمعاصي.

من مقتضيات التوبة

ردّ الحقوق والواجبات والمظالم

فإذا كانت التوبة بين الإنسان وربه في أشياء كالفرائض الضائعة مثلا، فإن الفرض المحدد لا يسقط بالتقادم أبدا، فالإنسان الذي ترك فرائضه سنَةً أو سنَتَيْن ثم تاب يجب عليه أن يُؤَدِّيها.

فمثلا الإنسان الذي كان لا يؤدي الزكاة ثم الآن يريد أن يتوب، فيجب عليه أن يؤديها تقديراً عن السنوات الماضية، هذه هي التوبة العملية، وكذلك الشأن بالنسبة للصوم والصلاة. أما الحقوق غير المقدّرة فلا تقضى، كالنفقات على المسلمين والتي هي غير مقدرة، فهذه تساهَلَ الشرع فيهافلا تُقْضَى.

ومنه كذلك رد المظالم، وهذه فيها ضغط على النفس، فالإنسان الذي أخذ أموال الناس، وأراد أن يتوب، فينبغي له ردُّ حقوق الناس، بل لابد فوق ذلك أن يرجُوهم بأن يتجاوزوا عنه، فردّ المظالم، من أكبر القُرباتِ إلى الله عز وجل.

أما إذا أكَلت مال هذا وسرقت متاع هذا، وشرّدت الآخر، ثم في الأخير تتوب بحَجّ بيت الله الحرام، لتتطهّر من ذنوبك، فهذه من التجارة التي يظنها البعض رابحة وهي خاسرة. ومن طريف ما يروى في هذا الباب، ما قاله بعض الفقهاء : كنتُ جالسا وكان إلى جنبي أحد المتفقهين، فمرَّتْ جارية تحْمِل فوق رأسِها طبقاً فيه تفاح، فتَبِعَها هذا المتفَقِّه، وتلصَّص، فأخَذ منها تفاحة، ثم مرّ بنا رجُلٌ فقير مسكين فأعطاه تلك التفاحة. فقلت له : ماهذاالذي تفعل؟ قال : إنه من التجارة مع الله، قلْتُ كيف ذلك؟ قال : إن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فهذه سيئة وبقيت لي تسع حسنات فضلاً، ومادرى الجاهِل أن الله كتب عليه السيئة لأنها سرقة، وما قبل مِنهُ الصّدقة لأنها حرام.

فالإنسان لا ينفعه مع الله غير شيء واحد، هو صدق الطلب، وصِدْق التوجه، إليه سبحانه.

تمام التوبة التمكين من إقامة الحدود الشرعية

أي أن الإنسان التائب يجب عليه أن يُمكّن من نفسه، ويسمح لنفسه أن يقام عليه الحد، حينما توجد الحدود الشرعية وتكون مطبقة، أما إن مكّن نفسه وسلمها ليتطهر بذلك، فلم يُقِم الإمام عليه الحد ولا نائبه، فإن الإثم عليهما، وهو لا إثم عليه.

هذه إذن هي شروط التوبة وكيف ينبغي أن تكون.

ثم إن التوبة يصح أن تكون من ذنب دون ذنب، فمن كان له مجموعة من المعاصي، وتاب عن بعض، وترك بعضا، فتوبته تصح بالنسبة لما تاب عنه، وإن كان بعض الفقهاء طلب أن يتوب من الجميع، وقالوا : إن التوبة تصح من ذنب دون ذنب إلا ذنباً واحداً، لا ينفع إلا إذا تاب منه بجميع أشكاله وهو الشرك بالله، فالكفر له مظاهر لا ينفع أن يتوب الإنسان عن بعضها، ويبقى على بعضها، فكل أمر فيه شائبة كفر يجب تركُه جملةً وتفصيلاً.

أما من تاب توبةً شاملة، ثم عاد إلى بعض الذنوب، كأن كان يسرق ويزني ويكذب، فتاب من بعض ورجع إلى بعض، فيقول الفقهاء في هذا : إن التوبة صحيحة فيما بقي عليه، ومُنتقِضُةٌ بالنسبة لما رجع إليه.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>