الكيان الصهيوني واستراتيجية فرض الأمر الواقع
مرت عدة عقود على احتلال الأراضي الفلسطينية وزرع الكيان الصهيوني فيها لخدمة ما تسميه الأدبيات العسكرية باستراتيجية التوازن في المنطقة، حماية للمصالح القومية الأمريكية من جهة، والتمكين للشتات اليهودي من الاستقرار بعد تاريخ طويل من النزوح والتيهان من جهة أخرى، ويلعب القادة العرب دوراً خطيراً في التمكين لهذه الاستراتيجية من التحقق على أرض الواقع، لعل من أبسط مظاهرها الدخول في مسلسل السلام الوهمي والاسهام في مفاوضات ما تسميه أدبيات هذه الأخيرة بالحل النهائي، وفتح مكاتب الاتصال في مجموعة كبيرة من الدول العربية إسهاما منها وتشجيعا لعملية الاعتراف بالكيان الصهيوني الجاثم، بقوة السلاح والثقل السياسي للولايات المتحدة، فوق قلوبنا، التي لا تملك، في زمن الضبط السياسي المحلي، إلا التعبير عن الحسرة والرغبة : حسرتها على ما آلت إليه الأمة العربية في ظل القيادات العلمانية التي صنعتها السياسة الصهيونية منذ أمد بعيد ومكنت لوجودها، والتي لا تمتلك في أقوى الحالات سوى الدعوة إلى عقد قمة عربية طارئة تكون نهايتها معروفة، وديباجة بيانها الختامي مختومة بألفاظ لا تتجاوز حد الشجب والاستنكار والدعوة إلى ضبط النفس.. في حين تتطلب المرحلة الاجماع على موقف موحد بخصوص القضية : قضية الأمتين العربية والإسلامية على حد سواء، إجماع على المقاطعة الفعلية لكل تواصل مع الكيان الصهيوني الذي له في كل بلد عربي من يمثله، إما من أبناء جلدته وعقيدته أو من ينوب عنه من أبناء جلدتنا؛ من مرتزقة الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والفن. وهل اجتمع العرب يوما على قرار يعيد، على الأقل، للسياسة العربية هيبتها، ووزنها في ظل تهويد العالم برمته.. لقد كان بالإمكان فعل ذلك،والأمة لها من الامكانيات المادية والمعنوية ما يمكنها من تحقيق فعل الضغط السياسي على المجتمع الدولي برمته.. لكن الصهيونية استطاعت أن تنتزع من القلوب العزة بالنفس وتضع مكانها الاحساس القوي بالرغبة في الحياة، {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقين لا يعلمون}(المنافقون : 8).
وإلى جانب هذه الحسرة، لا تمتلك جماهير هذه الأمة إلا الرغبة في الفعل، لولا سياسة الخنق التي تحيط بها من كل جانب، وتكبح قدراتها وتعرقل قابليتها للجهاد في سبيل نصرة إخوة الدين والجنس والتاريخ واللغة، بل ونصرة كل المظلومين، لكن والوضع على هذه الحالة، لا تستطيع الجماهير سوى الانتظار ليوم الزحف، يوم يقوم كل المستضعفين للدفاع عن حقهم في الحياة في زمن التقتيل الوحشي، وحقهم في الكرامة في زمن الذل والتخاذل الرسمي، وحقهم في العيش أحراراً في أوطان حرة في زمن التبعية السياسية للقوى العظمى، التي نعرف تمام المعرفة أنها لا تمد لنا يد المساعدة ولا حتى يد المصافحة ولا تبتسم في وجوهنا إلا خدمة لمصالحها الذاتية وحفاظا على وجودها وأمنها القومي خارج حدودها، متمثلة في ذلك أدبيات السياسة الميكافيلية التي تبرر الوسيلة تبعا لنوع الغاية. وهل هناك أكبر من تهويد العالم برمته والسيطرة على حياته السياسية والاقتصادية لدى يهود الصهيونية العالمية؟ وهل هناك أكبر من تفريغ أرض فلسطين من أهلها كما فرّغت الولايات المتحدة الأمريكية من أهلها الأصليين؟ سياسة واحدة وأهداف واحدة ووسائل لا تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والمواقف. فكيف ندعو بل ونطلب من الولايات المتحدة التدخل لصالح شؤوننا وقضايانا، ورعاية عملية السلام في الشرق الأوسط، والإسهام في الضغط على الحكومة الصهيونية لقبول برقيات الشجب والتنديد من جهة، وعدم الاعتراض، عن طريق حق الفيتو، على إدانة الدولة العبرية ومحاكمة كل من تسبب من قريب أو بعيد، في سقوط عشرات القتلى الشهداء وآلاف المصابين من أبناء المساجد والحجارة، بل ومحاكمة منفذي مسلسل الجرائم الوحشية ضد الانسانية في فلسطين، التي تصرخ وتكتب تاريخها وتاريخ الجبن الرسمي بالدم؛ فلسطين التي يعرف أبناؤها، الذين هم من طينتها الطيبة، أن الأرض لن تكون مقابل السلام، ولكنها ستكون حتما مقابل إجلاء اليهود من فوقها، وأن عزة الانسان في فلسطين لن تكون بإقامة سلطة الحكم الذاتي التي لا تعدو كونها مجرد حارس لمصالح الدولة العبرية التي فشلت في تقليم أظافر المقاومة الاسلامية فأوعزتها لبني جلدتهم مقابل مناصب رئاسية كان بالإمكان الوصول إليها في ظل المقاومة والجهاد؛ لا أن يقدمها من لا يملك لمن لا يستحق.. ففلسطين لن تكون بإقامة سلطة الحكم الذاتي المشتتة الأوصال، الممزقة الجغرافية، المهددة في أي وقت بالتقويض، ولا كذلك، بإقامة الدولة الفلسطينية المزعومة، التي يؤجل إعلانها من حين لآخر، إذ كيف يحق لمن لم يستطع لحد الآن تدبير الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية لقطاع غزة والضفة الغربية، وأن يعيد الاعتبار للانسان والأرض، بأن يطالب ويعلن عن الدولة الفلسطينية؟ وكيف يحق له ذلك ونحن نعلم علم اليقين حجم رغبة الحركة الصهيونية في جعل القدس عاصمتها الأبدية؟
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم
إن القارئ للخريطة السياسية في منطقة الصراع بين العرب ويهود الاحتلال الصهيوني يمكنه أن يقف على جملة من المعطيات المهمة التي تبين في عمقها أن الحكومات المتعاقبة على السلطة الصهيونية لا تعدو كونها حكومة واحدة، وإن اختلفت وسائل البروز على الساحة المحلية والدولية، وتظل غايتها الأكيدة واحدة : إقامة الدولة العبرية الكبرى تنفيذاً لما تم الاتفاق عليه منذ مؤتمر بال السويسري بزعامة هرتزل؛ دولة بدايتها فلسطين ونهايتها كل الأراضي العربية. ولتحقيق هذه الغاية، يتم تنفيذ خطواتها تباعاً، كان من أخطرها أثراً ترسيخ سياسة التطبيع في معظم البلاد العربية، وتكبيل القدرات العربية حتى تموت فينا تباعاً القابلية على رفض الكيان الصهيوني، ومن ثم تعويضها بالقابلية على الاعتراف بالأمر الواقع بدل التعامل مع هذا الواقع بما تقتضيه الظروف والملابسات التي لا ينبغي مهما بلغت درجة تخلفنا الداخلي، أن تكون سببا في دخولنا مسلسل المساومة بدل المقاومة.
لقد كشفت انتفاضة الأقصى الأخيرة، وأسابيع الدم والحجارة والشهادة، عن حقيقة هذه الخريطة السياسية الخطيرة الأبعاد، وبينت بما يكفي لأولئك الذين صفقوا من العرب لمسلسل المفاوضات، أو أولئك الذين هرولوا طمعا في رضى اليهود، أولئك الذين فهموا معنى قوله عز وجل : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}، ولم يتمموا الآية الكريمة {قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم، مالك من الله من ولي ولا نصير}(البقرة : 120)، لأنهم قوم لا يؤمنون أصلا بالكتاب الذي حواها، وحوى غيرها من آيات جهاد الكفار والمنافقين من كل الملل والنحل، ولا تهمهم إلا مصالحهم، ولو كانت على حساب الوطن والأمة وبني جلدتهم..
ويبقى رامي الذرة وصمة عار في تاريخ السياسة المتخاذلة
وفي زمن التخاذل الرسمي الواضح المعالم، والارتهان السياسي الخطير الذي آلت إليه الحكومات العربية المكبلة، بهذا الشكل أو ذاك، بقيود التبعية والإلحاق، في هذا الزمن يبقى الطفل رامي الذرة..، وأطفال الشهادة الذين سقطوا بعيداً عن أنظار وسائل الإعلام السمعية-البصرية، شهادة حية ل على تاريخ مثقل بالتخاذل والتراجع السياسي الرسمي.. وتبقى صورة قتله وسقوطه بين أحضان والده، وصمة عار ليس على جبين الصهاينة الذين نعرف عنهم قتلهم الأنبياء والصالحين، وحقدهم الدفينعلى المسلمين.. ولكن على جبين سلطة الحكم الذاتي أولا، التي لم تستطع مدافعة الخطر عن أبناء الوطن، وعوض أن تقطع مفاوضات ما يسمى بالحل النهائي الذي نعرف تفاصيله، استنكاراً، جلست مع العدو للاستماع لمجموعة من الاملاءات الجديدة بمباركة البيت الأبيض.. ثم هي وصمة عار على جبين الحكومات العربية والإسلامية التي تقاعست عن أداء دورها المطلوب، وإغاثة المسلمين الذين استضعفوا في الأرض وقالوا: “ربنا الله؟” تلك الحكومات التي وقفت مكبلة الأيدي، عاجزة عن مدّ يد المساعدة المادية والمعنوية -وبامكانها ذلك فعلا- لشهداء الانتفاضة الذين فضلوا الدفاع عن الأرض والإنسان بالحجر، في معركة غير متساوية الأطراف.. مقدمين بذلك درساً بليغاً للحكومات التي لا تمتلك في الوقت الراهن سوى صياغة برقيات الشجب والادانة والسماح بهامش محدد المساحة لتنظيم المظاهرات الشعبية حتى لا ينقلب السحر على الساحر.
<ويبقى الدم ينزف تباعاً فوق أرض لن تنبت إلاَّ أطفال المقاومة؛ أولئك الذين رضعوا من أمهاتهم دم الثورة والمقاومة والجهاد وحب الشهادة من أجل حرية الأرض والانسان، والدفاع عن القدس، عقيدة وتراثا وتاريخا وهوية.
< وتبقى المقاومة في وجه المساومة دليلاً على رفض مسلسل التطبيع والاعتراف بالأمر الواقع..
< وتبقى الحجارة في وجه الرصاص.. والشهادة في وجه حب الحياة الذليلة..
< وتبقى مظاهرات الشعوب العربية في وجه شعارات المساومة..
< ويبقى دعاؤنا الخالص بظهر الغيب لاخواننا في فلسطين، كما في غيرها من أراضي المسلمين، عسى الله أن ينصرهم ويثبت أقدامهم ويرزقهم الصبر والاصطبار.
< وتبقى.. وتبقى.. وتبقى كل هذه الأحداث عالقة بالذهن والذاكرة التي لا تموت، حتى لا ننسى، نحن أبناء الشعوب الإسلامية، تاريخ حربنا مع عدو نحن على علم أنه لولا التقاعس والتراجع لما كان له وجود على أرض فلسطينوأجزاء أخرى من بلاد العرب، وحتى لا ننسى كذلك، أن استرجاع هذه الأرض لن يكون إلا بالمقاومة المستمرة، بدء مما في النفس أولاً، وانتهاء بالعدو الذي يعرف تمام المعرفة المعنى الحقيقي للجهاد في سبيل الله تعالى.