اتهام الفقه بالذكورية والرجولية هو جهل بواقع الفقه وأحكامه وجهل بما يزخر به من مواقف وآراء لصالح المرأة ضد الرجل، وجهل بما جاء به من تخفيفات عنها، واعفاءات لها من كثير من التكاليف المالية والبدنية وإلقائها على عاتق الرجل وحده، مثل الجهاد وحضور الجمعات والجماعات، وهو أيضا جهل بما ضمنه لها من مساواة في الحقوق والواجبات انطلاقا من قوله تعالى : {إن المسلمين والمسلمات والمومنين والمومنات والصادقين والصادقات}(الأحزاب : 34) وقوله {فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى}(آل عمران : 194) وقوله : {والمومنون والمومنات بعضهم أولياء بعض يامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله}(التوبة : 11) وقوله : >النساء شقائق الرجال< إلى غير ذلك من النصوص الدالة على ما نقول.
والمتتبع لأصول الفقه وفروعه لا يكاد يجد لهذا الاتهام الظالم مبررا، ولا يجد للتمييز المزعوم أثرا باستثناء جزئيات قليلة محدودة ومعدودة على رؤوس الأصابع جاء الوحي الإلهي بالتفريق فيها بين الرجل والمرأة لحِكَم وأسرار، لا صلة لها بما يتخيله البعض من تفضيل الذكر على الأنثى أو انتقاص من قدر المرأة واعلاء لقدر الرجل، بقدر ما هي مرتبطة بوظيفة كل منهما ودوره المؤهل له والمطلوب منه القيام به في المجتمع الذي يجمعهما أو البيت الذي يؤويهما.
وإن جولة سريعة وقصيرة في رحاب الفقه الإسلامي كافية لدحض كل هذه التهم وتفنيد تلك المزاعم وفضح نوايا أصحابها وكشف مخططاتهم وأهدافهم السيئة من وراء اتهامهم الفقه بالذكورية والرجولية وترويجهم لذلك ودعايتهم له.
ففي مجال فقه المعاملات لا يكاد القارئ يجد أية عبارة فقهية توحي له بأدنى فرق بين الرجل والمرأة، ولا يقرأ في كتبه أو يرى في دواوينه إلا القدر المشترك بينهما والوصف الجامع لهما من مثل : البائع والمشتري والأجير والمستأجر والمكري والمكتري والراهن والمرتهن، وهكذا.. ولا تجد حكما لصالح رجل لأنه رجل، والعكس، مما حدا بالأصوليين إلى القول بأن الذكورة والأنوثة وصف طردي لا يصح التعليل بهما في غير الشهادة والارث والولاية والقضاء وفي حدود ضيقة جاء الوحي بها فلا سبيل لردها، ولا مجال للتوسع فيها والقياس عليها، كما حدا ببعض آخر إلى القول بدخول الإناث في جمع المذكر السالم على خلاف مقتضى النحو واللغة، حرصا منه على التسوية بين الذكور والإناث في الأحكام حتى التي جاءت نصوصها بصيغة التذكير.
وفي مجال الأحوال الشخصية التي تعتبر ساحة النزال ومعركة النضال بين النساء والرجال يفاجأ القارئ فيها بسيول عارمة من الأحكام الفقهية لصالح المرأة بالرغم مما تعلنه من شكاوي وما تدعيه من تظلم وما تذرفه من دموع. والأمثلة على ذلك كثيرة :
< فالزوج والزوجة بالرغم من تساويهما في استمتاع كل واحد منهما بالآخر واعفافه له كما قال تعالى : {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}(البقرة : 185)، فإن الزوج هو الذي يدفع الصداق للمرأة حتى ترضى {وآتيتم احداهن قنطارا فلا تاخذوا منه شيئا}(النساء : 19). وهو الذي يؤدي تكاليف الزفاف ووليمة العرس، كما قال عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن بن عوف : >أولم ولو بشاة<(رواه البخاري) وهو الذي يتحمل نفقات الزوجة ومصاريف البيت صغيرها وكبيرها، كما جاء في حديث : >أطعموهن مما تاكلون واكسوهن مما تكتسون<(رواه أبو داود) ولم يقف الأمر عند هذا بل أباح لها أخذ كفايتها بنفسها إذا قصر الزوج في نفقتها كما جاء في حديث : >خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف<(رواه البخاري وغيره) والزوج هو الذي يخدم زوجته بنفسه أو يتخذ لها ما يكفيها من الخدم إذا كانت أهلا للإخدام أو كان هو أهلا لإخدامها. ولا يلزمها خدمته ولا خدمة نفسها، وفي حالة الطلاق الزوج هو الذي يدفع المتعة، ويتحمل واجبات العدة أخذا بقوله تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف}(البقرة : 238) وقوله : {لا تخرجوهن من بيوتهن}(الطلاق : 1).
وحتى الأبناء هم أبناؤها وأبناؤه، ولكن المتحمل لنفقاتهم وواجباتهم هو الزوج وحده. وفي حالة الطلاق تنفرد الأم بهم بحجة حضانتهم، فتستمتع وحدها بالعيش إلى جوارهم، وتنعم بالحياة بينهم وتنتزعهم من أبيهم ولا يبقى له فيهم من حق وصلة إلا الزيارة وأجر الحضانة وواجب النفقة التي قد تبذرها الحاضنة في زينتها ولا يستفيد الأطفال منها إلا ما فضل عنها.
فهل يحق للرجل وهو يرى كل هذه الامتيازات للمرأة أن يدعي أن الفقه نسائي يحابي المرأة على حسابه والعمل على تعبئة الرأى “الرجولي” للمطالبة بـ”تذكيره” لمسايرة العصر ومواكبة الشعوب، المتحضرة، التي تفرض على المرأة دفع الصداق للرجل، أو تقدم نفسها هدية وترجو تقبلها منها وتسهر على خدمته وراحته وتشاركه في متاعبه ومشاكل حياته.
لاشك أن مقولة من هذا النوع “أنوثية” الفقه أو “ذكوريته” من المنظور الإسلامي تكلف صاحبها خسارة دينه ودنياه وآخرته إذا لم يتب ولم يستغفر الله منها، لأنها اعتراض على الله ورد لحكمه وكفر بشريعته وجهل بحكمته.
فالله تعالى أعفى المرأة من التكاليف المالية للأسرة، والقاها على عاتق الرجل وحده حرصا على صحة المرأة وراحتها، وصونا لها عن الابتذال في طلب المال، واشفاقا عليها من مشاكل تَكَسُّبه، وتسهيلا لمهمتها الأولى في تربية أبنائها وفلذات أكبادها أمهات الغد ورجال المستقبل ،حتى لا تضطر لإهمالهم أو تركهم في يد خادمات جاهلات يعلم الجميع ما يلاقيه الأطفال على أيديهن وما يعلمونه منهن، أو ترغم على إدخالهم رياض أطفال تزيد في متاعبها المالية ومشاكل إضافية في نقلهم واستقبالهم. بالإضافة إلى أنه لو كلفت المرأة ما كلفه الرجل من الواجبات المالية لربما اضطرتها الظروف الصعبة في بعض الأحيان إلى التفريط في شرفها والتكسب بعرضها، ولهذا نهى الرسول عن كسب الأمَة كما في البخاري حتى لا تلجأ إلى شيء من ذلك. والمرأة أعلم من غيرها بالثمن المطلوب منها كلما طرقت بابا من أبواب الشغل أو وجدت نفسها في ورش من أوراش العمل أو في مكتب من المكاتب تحت سلطة رئيس عديم الضمير والأخلاق. وشكاوى التحرش المعلن عنها بين الحين والحين تخفي وراءها الكثير والكثير، وهذا يظهر أن إعفاء المرأة من التكاليف المالية والقاءها على كاهل الرجل مفخرة من مفاخر الفقه الإسلامي، وميزة من ميزاته التي تتفوق بها على ما سواه، وهو موقف يدعو الرجل قبل المرأة إلى الاعتزاز به والدفاع عنه والتمسك به بكل حزم وقوة بدل التذمر منه والتطلع لغيره لما يضمنه له من كرامة أمه وبنته وأخته وعمته وخالته وكرامة أسرته وأمته، لأن كرامة المرأةكرامة الجميع، وابتذالها ابتذال للجميع.
هذا عن تأسيس الأسرة ومصاريفها، وإذا تجاوز الباحث هذه المرحلة واتجه نحو العلاقة بين الزوجين والمشاكل التي يمكن حدوثها بينهما ومواقف الفقه منها لوجدها تتأرجح بين الانتصار للمرأة والأخذ بيدها ومساعدتها على تخطي المشاكل وتجاوزها، وبين التسوية بينهما ومعاملة كل منهما بنفس ما تعامل الآخر من العدل والانصاف والمعاملة بالمثل وخير مثال على ذلك :
-1 ما يقرره الفقه في معاشرة الزوجة :
فإنه يؤكد على وجوب معاشرتها بالمعروف ويحرم الإساءة إليها والاضرار بها تحريما قاطعا، حتى في حالة الخيانة الزوجية لا يجيز له امساكها والاضرار بها حتى تفتدى منه، ويخيره بين اللعان والطلاق والامساك بالمعروف على المشهور في المذهب المالكي.
وفي حالة الإساءة إليها أو الإضرار بها، يعطيها الفقه الحق الكامل في طلاق نفسها إذا كان الاضرار بها بغير وجه شرعي ولو مرة واحدة، ولم يقف الفقه عند هذا بل تساهل معها في هذا الباب كثيرا حيث لم يكلفها إثباتُ الضرر بينة “عدلية” على معاينته واكتفى منها بشهادة السماع ولو من النساء والجيران والخدم. كما توسع في مفهوم الضرر الموجب للطلاق، وأدرج في لائحته : سبها أو سب أبيها، وامتناعه من تكليمها، وتولية وجهه عنها في مضجعها، واطعامها الحرام، وايثار ضرتها عليها، وضربها.. كل ذلك حرصا من الفقه على ضمان سعادتها وكرامتها وسط أسرة جديدة عليها قد تكون لا تربطها بها رابطة القرابة والدم.
وفي حالة نشوز أحدهما على الآخر وتمرده عليه واهمال واجباته نحوه، يوصي الفقه بوعظ الناشز منهما : الرجل أو المرأة ثم هجرانه، وإذا لم ينفع شيء من ذلك ينتقل الى الضرب الخفيف غير المبرح إذا كان يرجى منه النفع وإلا منع، أخذا في هذا الترتيب بقوله تعالى : {واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن}(النساء: 33)، وإذا كانت هذه الآية تتحدث عن نشوز المرأة وتأديبها دون الزوج مما جعل البعض يتهم الفقه بالذكورية والبعض الآخر يصرح بالفراغ التشريعي في هذا الموضوع، فإن فقهاءنا الرجال لا النساء سوَّوْا بين نشوز الزوج ونشوزالزوجة باعتبار أن النشوز في حد ذاته معصية تستحق التأديب عليها، وعمل من شأنه تهديد استقرار الزوجية بقطع النظر عن الناشز من هو، لذلك يجب وضع حد له وكبح جماح الناشز بالطرق المنصوص عليها في الآية مع فارق دقيق وهو أن الزوجة يتولى تأديبها زوجها بنفسه وفي بيتها سترا عليها وحفاظا على سمعتها وكرامتها وكرامة زوجها في آن واحد، فإن الزوج الغيور على زوجته لا يرضى احضارها إلى المحكمة ولا تسمح نفسه لأحد بمسها فضلا عن ضربها.
أما الزوج الناشز على زوجته المتعدي عليها فإن الحاكم هو الذي يقوم مقام الزوجة في تأديبه، يعظه أولا فإن لم ينفع أمرها بهجره في المضاجع، فإن لم يفدعاقبه الحاكم بالضرب باجتهاده أمام الناس ليكون أردع له وأزجر.
وفي حالة الخوف من النشوز قبل وقوعه، ينصح الفقه باللجوء إلى الصلح وارضاء من يخاف نشوزه منهما كما قال تعالى : {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحا والصلح خير}(النساء : 126).
وذلك بأن تتنازل له عن بعض حقوقها أو تعطيه بعضا من مالها إذا كانت الزوجة هي الخائفة من نشوز زوجها. وفي حالة العكس إذا كان الزوج هو الخائف من نشوزها فإنه يحق له استرضاؤها بالتنازل عن بعض حقوقه أو اعطائها شيئا من ماله كما تعطيه هي لارضائه من باب المعاملة بالمثل. كما أنه في حالة الشقاق واستحكام الخلاف، يقرر الفقه ارسال حكم من أهله وحكما من أهلها كما يقول تعالى : {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما}(النساء : 34).
-2 وفي عيوب الزوجين :
يعطي الفقه الحق للزوجة في رد الزوج بالعيوب القديمة والحديثة، ويمنع الزوج من رد الزوجة بالعيوب الحديثة ويعتبرها مصيبة نزلت به، عليه تحملها أو الطلاق ودفع الصداق وتوابعه للزوجة. كما يمنعه من ردها بكثير من العيوب مثل العمى والقرع والسواد إلا بشرط، ويعطيها الحق في رده بالسواد وإن لم تشترط خلافه. وفي حالة الاختلاف في عيوب الفرج والبكارة بصفة خاصة يقرر الفقه تصديق المرأة في نفي العيب وعدمه، ويرفض عرضها على الاطباء صيانة لكرامتها. وفي هذا يقول ابن عرفة -وهو رجل- : الحرة لا تكشف في مثل هذا. إلا أنه لما استغلت المرأة هذه الثقة التي وضعها فيها الفقه وسمحت لنفسها بارتكاب الرذيلة آمنة على نفسها من الفضيحة تغير موقف الفقهاء منها وأفتى المتأخرون بعرضها على النساء أخذا بمبدأ “تحدث للناس أقضية بقدرما أحدثوا من الفجور.”
وهي أيضا لفتة طيبة من الفقه نحو المرأة، فرغم كون النزاع بين الرجل والمرأة فإنه رد الأمر إلى المرأة واكتفى بشهادة النساء في هذا الموضوع رغم خطورته، ولم يسمح بعرضها على الرجال إلا عند تعذر وجود النساء، ولم يأمر بعرضها على الرجال والنساء لمنع التحيز لأن الفقه لا يفرق بين الرجال والنساء، ولا يخطر ببال الفقهاء هذه التفاهات المستوردة التي يراد من ورائها تفكيك التضامن الذي أرساه الإسلام بين أفراد مجتمعه في مبادئه وتعاليمه التي تتوخى الحق والعدل والانصاف بغض النظر عن جنس صاحب الحق.
ولهذا نرى الفقهاء، لا يجدون غضاضة في الحكم للمرأة على الرجل وتصديقها في دعاويها ضده من غير تكليفها اثبات ذلك كما يتجلى ذلك في النماذج التالية :
< دعواها انقضاء عدتها لتتخلص من حقه في ارتجاعها إذا كان الطلاق رجعيا.
< دعواها بقاء عدتها لتتمتع بحقوق المطلقة وتركه في حالة وفاته إذا كان الطلاق رجعيا.
< دعواها الحيض عند طلاقها ليجبر الزوج على ارتجاعها رغما على أنفه.
< دعواها الوطء عند ثبوت الخلوة لتأخذ صداقها كاملا إذا طلقها، ولا تعرض على الأطباء إذا كانت بكرا.
< دعواها عدم الانفاق عليها، وبقاء صداقها بذمة الزوج في كثير من الحالات.
هذه النماذج قليل من كثير لا تمثل إلا نقطة في بحر من الأحكام الفقهية المناصرة للمرأة لأن الحق بجانبها لا لأنها امرأة، فإذا ناصر الفقه الرجل في بعض المواقف لأن الحق بجانبه فهو لم يناصره لأنه رجل، فالحق هو رائد الفقه، والعدل هو هدفه والذكورة والأنوثة ليسا من موازينه ومقاييسه في مواقفه وأحكامه إلا حيث يكون الحق بجانب أحدهما، أو تقتضي الحكمة التمييز بينهما. فلا داعي لانزعاج الرجل أو المرأة إذا لم يكن الحكم لصالحهما، ولا مبرر لاتهام الفقه بالتحيز لأحدهما، وواجب الجميع أن يقولوا سمعنا وأطعنا، ولا يقولوا كما قال اليهود : سمعنا وعصينا، ويتذكروا قوله تعالى : {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء : 63).