القرآن الكريم مصدر مكين للعلم بالشرع وتصحيح التصور وهداية الإنسان للتي هي أقوم له على مستويات الفكر والعقيدة والعبادة والسلوك والسياسة والتدبير، وهو معين للمعرفة، ومنبع مدرار لمختلف ما يشغل فكر الإنسان وما يتعلق منه بمعاشه وما يتعلق بمعاده، وما يتصل بأحواله وعلاقاته النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ ففيه -كما ورد في حديث علي رضي الله عنه- نبأ ما قبلنا، وخبر ما بعدنا، وحكم ما بيننا؛ وهو الكلام الذي لا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، ويتلخص الحكم عليه في قول الجن إذ سمعته، إنهم سمعوا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد، أي في جميع جوانب الحياة.
لكن المنحى البياني في هذه المعجزة الفذة يبقى الجانب الأغنى والأجدر بالبحث والتعمق والتدبر، والأدل على طبيعة كلام الله البين والمحقق لفكرة الإعجاز التي تلازم هذا الكتاب وتعطيه قيمته الأولى الممهدة للأهداف والغايات الأخرى.
من ثمة نبتت فكرة نشر سلسلة من الدراسات البيانية الجادة في ذهن أستاذ النقد والبلاغة والبيان مبارك العلمي، فانطلقت الفكرة من عقال، ونبع الفكر من تعمق لا من خيال، وانهمك في البحث في قصص القرآن الكريم يستكشف معالمه ويغوص في أعماق مقاصده ويتقصى ظواهر بيانه وصور جماله، ويدعو الناس إلى مائدته، ويجلي لهم روعة تصويره ورونق بلاغته.
يرفض الكاتب منذ البداية عرض القرآن الكريم على الشروط الفنية التي وضعها نقاد الأدب للفن القصصي، باعتبار هذه الشروط في معظمها شروطاً مستوردة من خارج المنظومة الفكرية والفنية الذاتية لأمة القرآن، أما القرآن ففنه متميز بذاته، قائم بنفسه لا يتذوقه إلا من يحسن الاحتكاك المباشر به، ويمعن النظر المتدبر فيه استجابة لدعوته : {أفلا يتبدرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(محمد : 25/47)، {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر}(القمر : 17/54، 22، 32، 40)، {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته! أأعجمي وعربي؟ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء، والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى..}(فصلت : 43/41). فالذي ينفتح على القرآن بقلبه وعقله وفكره ومشاعره هو الذي يفهمه ويتذوق جماليته الخاصة ويتعرف على خصوصياته الأسلوبية.
وحين اختار الباحث جانبا واحدا من بيان القرآن هو القصص القرآني، وبالأخص منه قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقد اختار الجانب الأكثر دلالة على البراعة المدهشة والإعجاز المقرون بالتحدي التي تميز فني التعبير والنظم في القرآن الكريم، ولا يخفى ما لهذه القصص بالذات من أهمية على المستويات الأسلوبية والفنية والدعوية والتربوية والتوجيهية.. وتلك الأهمية الحاضرة في اتجاه الأستاذ الباحث وفكره تطل علينا من العنوان العام الذي جعله ترجمة لجميع حلقات هذه السلسلة وهو “من قصص القرآن الكريم : سلسلة جند الله الغالبين، وجند الشيطان المهزومين”؛ فكانت الترجمة معبرة عن المقصود كاشفة عن طبائع أولئك الجنود، دالة على خذلان كل شيطان منبوذ، وكانت الحلقات عقدا منتظما تتنافس جواهره في التلألؤ والنصاعة، وتتزاحم درره على ذرى الإفصاح والبراعة، وكانت الحلقة الأولى من هذه السلسلة بعنوان “قصة آدم عليه السلام، وإبليس اللعين : دراسة بيانية كاشفة عن إعجاز القرآن الكريم، من حيث تنجيم القصص، تنفي عنه الكرار، وتنبئ بما فيه من حكم ومواعظ وأسرار”، وهي عنونة متلائمة مع الهدف العام من السلسلة، وانطلاقة تفتح الأذرع لاحتضان المعرفة العميقة بالمقاصد المؤملة.
وأما المقدمة التي جعلها المؤلف مدخلا لكتابه فهي في الواقع مفتاح الولوج إلى موضوع ذي الأهمية القصوى والفائدة العظمى كموضوع القصة القرآنية، مقدمة تفتح للقارئ آفاق الكتاب، وتمهد له سبيل التفاعل مع فكرته ومنهجه واتجاهه، ولعل أهم سمة تميز هذا الاتجاه وذاك النهج وذلك الفكر هو التصريح بأن الكتاب موجه إلى “الأساتذة الفضلاء، وللطلبة وعموم القراء النجباء، الذين لا تفتأ قلوبهم تتطلع للدخول إلى حرم القرآن العظيم.. تتلو محكم آياته، وتتفكر في أحكامه ومواعظه، راغبة في التحلي بمبادئه وقيمه، والتزين بأخلاقه وآدابه” (ج 1 ص -3 4).
اختار المؤلف من الأنبياء ثمانية ليكونوا موضوعا لحلقات قصصه، وتبريرا لهذا الاختيار يصرح أن قصص هؤلاء الأنبياء المختارين “جاءت على شرط موضوع دراسة قرآنية أشمل هو : معارض المقابلة العقدية في القرآن الكريم”(ص4) وهذا في الحقيقة أكثر من مجرد تبرير، إنه نهج فكري يتبناه المؤلف ويدعو إلىه بإيمان وإصرار، ألا وهو أن قصص القرآن الكريم لا تتكرر، ولكنها معارض متنوعة تصرف فيها الآيات تصريفا في مشاهد مختلفة من غير تكرار أبدا، لذا يقول : “ليس في القصص القرآني تكرار بل فيه تصريف للآيات”(ص20).
والمؤلف، أي مؤلف، ما كانت شخصيته قوية ومعرفته بموضوعه محيطة وفكره المعبر عنه عميقا ومنهجه المتبع سليما، فإنه لا يتملق قارئا ولا يغازل فكرا، ولا يجامل مذهبا، لأنه يكون مؤمنا بما يقول، مستعدا للدفاع عما يرى، وإذا تعلق الرأي بالقرآن الكريم النص الأكمل والأجدر بأن يحسب الإنسان ألف حساب قبل أن يقول فيه، فالأمر يزداد خطورة وحرجا، والحديث عنه يزداد انضباطا وتدقيقا واحترازا!
ومؤلف هذه الحلقات الطيبات يعبر بكل صراحة ووضوح عن رأيه في أهداف القصص القرآني، فيبين استخلاصا من روح القرآن وعبارته أن للقصص القرآني هدفا واحدا هو “تثبيت قلب محمد “(ص25)، ويرد على من يرى هدفا غير هذا من الباحثين الذين يخالفون -في نظره- نص القرآن الكريم ومفهومه، ويرون أن المراد من القصص القرآني هو التأثير الوجداني والإثارة العاطفية وليس التأثير العقلي وإقامة الدليل والبرهان، ولكنا نرى أنه يجوز للقارئ أن يتساءل : لماذا لا تكون هناك أهداف أخرى للقصص القرآني؟ كالعبرة والموعظة والتربية وغير ذلك مما لا يتعارض مع مبدأ التثبيت الذي يقول المؤلف بانفراده!
وحين يعرض قصة آدم وإبليس -وهي الحلقة الأولى في هذه السلسلة المباركة المفيدة إن شاء الله تعالى- يعرضها باعتبارها خلاصة لرحلة الإنسان في الحياة الدنيا ومن خلالها يحقق هذا الإنسان -أو لا يحقق- معنى الاستخلاف في الأرض، ويحمل -أو لا يحمل- أمانة التكليف، ويبين أن القصة وردت في سبعة معارض من سبع سور، فيذكر لكل معرض سياقه ويرتب الآيات أو المعارض حسب السياق التابع لتوالي النزول لا حسب الترتيب الوارد في المصحف المنقول، لأنه يرى ذلك أكثر استجابة لداعي العلم والتدبر، وأعون على إدراك الخصائص المميزة لطبيعة القصة القرآنية، وهو لعمر الحق رأي له وجاهته على مستوى تتبع القصة ومقتضيات ورودها ودوال فهمها وتذوقها أسلوبا ونظما ودلاليا.
سبعة معارض لهذه القصة، شيقة في عرض المؤلف لها، جادة في تحليله لمعانيها، واضحة في الدلالة على بيانها وروعة أسلوبها وجميل أدائها، يضمها كتاب في 128 صفحة من القطع المتوسط، بغلاف جميل، وطباعة أنيقة، لكنها دالة على أنها التجربة الأولى للمؤلف في الطبع، والتجربة الأولى للطابع في فن طباعة الكتاب، وفي الإخراج الفني.
أما حين يعرض المؤلف لقصة نوح -عليه السلام- وقومه، وهي الحلقة الثانية في سلسلته القيمة، فإنه يعرضها في أحد عشر معرضا هي المواضع التي ذكر الله عز وجل فيها أو أشار إلى نوح عليه السلام أو إلى قومه أو إلى دعوته.. واحتراما للمنهج الذي اتخذه المؤلف تراه يستعرض مشاهد القصة، أي معارضها -كما يسميها- من خلال السور حسب ترتيبها في النزول لا ترتيبها في المصحف، فهو يقدم بمعرض القصة في سورة القمر، ثم في سورة الأعراف، ثم في سورة الفرقان.. ويختم بسورة العنكبوت؛ وفي كل معرض من تلك المعارض : يبدأ بإثبات الآيات التي تعرض القصة أو بعض فصولها في السياق القرآني، ثم يمهد ببيان محتوى الآيات وأبعادها في وصف مركز دقيق جعل له عنوانا “المعرض في سياق السورة”، ثم يسوق “معالم الهدى” وهي عبارة عن عنو ان كبير يتضمن تفريعا إلى “الأصل الثابت” الذي تتفرع عنه الفروع الآخذة بيد القارئ إلى الغوص في عمق النص وأبعاد القص..
وهكذا يتبع في كل قصة من قصص الأنبياء المختارين، وفي كل معرض من كل سورة من السور المشتملة على القصة أو بعض أحداثها أو بعض مشاهدها منهجا جديداً في دراسة القصص القرآني، وهو منهج واضح محدد، فيبدأ بسوق المعرض الذي يعرض فيه القرآن القصة ثم يربط المعرض بسياق السورة، ثم يحلل المعرض في إطار عنوان اختاره بدقة وهو “معالم الهدى”، ويستخرج من السياق المعروض أصله الثابت، ثم يفرع عن ذلك الأصل فروعا تشكل صلب الدراسة البيانية لمعرض القصة، فيذكر خصوصياته وإضافاته، وكثيرا ما يناقش المفسرين الكبار فيما ذهبوا إلىه مناقشة أسلوبية أو بيانية أو مقاصدية أو منهجية، من مثل مناقشته لأبي حيان صاحب “البحر المحيط” بقوله : “وما ذهب إليه المفسر الكبير غير مسلم من وجوه..”(ص68).
وبعد، فإذا كان القرآن لا يدرك إعجازه ولا روعة أدائه ولا فحوى خطابه بمجرد الوصف الاستعجالي والحديث الاستعراضي، فإن هذه السلسلة القرآنية أيضا لا يسد فيها الوصف مسد القراءة المباشرة، ولا يغني تقديمها بكلمات سريعات عن الاطلاع الفاحص والمتابعة الواعية، فالأسلوب الذي كتبت به له خصوصيته أيضا، ومنهج التفكير والاستدلال والإقناع له أثره، مما يقتضي ضرورة الاتصال المباشر مع النص المؤلَّف، لمعرفة مقاصد النص المنزل، في نموذج منه هو قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومعرفة الأستاذ مبارك العلمي من خلال فكره وفهمه ومنهجه، ومعرفة نظرته إلى القصص القرآني وحكمه على فن هو أرقى فنون الكتابة على الإطلاق.