1- مغادرة مكان المعصية شرط من شروط قبول التوبة :
يدخل في التوبة كذلك أمور خلافية، ولكن لابد من بيانها، إنّ علماءنا رضوان الله عليهم كانوا يمحصون الأشياء، ليوضع كل شيء في أماكنه.
ومن الشروط التي اشترطها بعض العلماء : مغادرة مكان المعصية، وتركه، وهذا الشرط اشترطه الزمخشري المعتزلي المعروف، قال الزمخشري إن من تمام التوبة، بل من شروطها، أن يغادر الإنسان مكان المعصية، وقال عامة علماء المسلمين، إن هذا الشرط هكذا -أي جعله ركناً في التوبة- أمر شاذ، ليس عند عامة العلماء، حيث لا يشترطون هذا الشرط.
ولكن مع ذلك عامة العلماء يقولون : يستحب للتائب أن يترك مكان المعصية وهذا، الكلام، في الحقيقة، يبدو، والله أعلم فيه الصحة من جانبين : فيه جزء من الصحة من جهة قول الزمخشري، وفيه جزء من الصحة من جهة قول الآخرين، لاحظوا : إذا كان المكان الذي يوجد فيه التائب من إثْمِه جزءاً من المعصية فإنَّ تركَهُ جُزْءٌ من التوبة، إذا كان المكان داخلا في مفهوم المعصية فمفارقته داخلة في مفهوم التوبة (لأن المكان يدخل أحيانا في مفهوم المعصية، وأحيانا أخرى لا يدخل في مفهومها)، وهذه أمثلة لأماكن الإثم وأجوائه التي يجب مفارقتها لتتم التوبة :
أ- أماكن اقمار :
مثلا : الذي يلعب القمار، هذا القمار عمل معروف ينجز في أماكن معينة، فإذا أراد الإنسان أن يتوب أيعقل أن يتوب وهو يذهب إلى بيت القمار؟؟ لذلك فمن أول واجبات التوبة في هذا الحالة ألا يذهب الإنسان إلى المكان الذي يمارس فيه القمار، أما إذا ذهب فإنه لم يتُب بعدُ لأن شرط التوبة لم يتحقق، ويمكنه أن ينجذب إلى اللعبمرة أخرى، لذلك كان عليه أن يترك هذا المكان، ولهذا اعتبر المكان جزءاً من المعصية.
ب- أماكن اللهو :
شاب تعوّد، مثلا، الدخول إلى أماكن اللهو، كالسينما وهي دار كبيرة للفاحشة البصرية، وليس لها هدف آخر، فهي لا تُعَلِّمُ ولاتثقف كما يدعي بعض الناس، لأننا لم نرَ قط عالما تخرّج من دار السينما، السينما أسلوب لدغدغة العواطف وإغراء الشباب، والناس الذين يرتادونها من فصيلة معينة، وهم لا يدخلونها إلا إذا قدمت أفلاما ترضي شهواتهم، فهي مكان كبير منظم للفاحشة البصرية، فهذا الرجل يغشى هذه القاعات، وهو يريد أن يتوب، نقول له : إن من بداية توبتك ألا تذهب إلى السينما، لأن السينما هي نفسها معصية، وهذا المكان تركه شرط في التوبة.
حـ- أماكن العري والإختلاط :
هذا رجل يعرّي زوجته، ويعري بناته في الشواطئ، والعري حرام، وكشف المرأة عورتها حرام وكشف الرجل أيضا عورته حرام، وما يقع هناك مناتصال الشباب بالشابات والتصافق بعضهم ببعض حرام، فأول التوبة ترك ذلك المكان المختلط الماجن.
2- الإقبال على أماكن الصلاح والطهارة دليل على التوبة الصادقة :
وهكذا فالمحل يمكن أن يكون تركه فعلا واجباً وشرطاً من شروط التوبة إذا كان جزءاً من العصية -على قول الزمخشري- ويأتي في المقابل، طبعاً، غشيان الأماكن التي تضخم الإيمان وتنميه وتكبّره فإن ذلك يعتبر واجباً أيضا، فحتى تتوب، أُخْرُجْ من مكان المعصية، هذا شرط أول، ثم أقبل على أماكن تقوي إيمانك وتنميه، فكما أن هناك أماكن تشجع على الفاحشة وتروّج لها وتعين عليها هناك في المقابل أماكن أخرى، تروّج للإيمان وللخير، كالمساجد وأماكن العلم ودروس التوجيه ولقاءات المؤمنين، والمجالس التي يجتمع فيها المؤمنون ليقرأوا شئا من كتاب الله ويتدارسوا أمر دينهم، كل ذلك من تمام التوبة إلى الله عز وجل.
3- ترك المحيط والبيئة الموبوءة يكفي أحيانا من مفارقة أماكن المعصية :
أما إذا كان المكان غير ذلك، كأن تكون المدينة كبيرة، ربما يكفي الإنسان أن يترك الجهة أو المحيط البيئي الذي قد يبتلع الإنسان ويضيع ماله ووقته، وفكره إذا ما تردد كثيراً عليه.
ومن هذه البيئات الصغيرة، بيئة أصحاب الكرة وعشاقها فهم يترددون على المقاهي صباح مساء لا همََّّ لهم ولا شُغْل إلا تتبع حركات اللاعبين وسكناتهم، فهذا سجَّل الإصابة، والآخر أخطأ الهدف.. وهكذا.. فلا حديث لهم إلا عن الكرة حتى يلقوا الله على ذلك الحال، وأموالهم تصرف في السخافات، والتفاهات حتى يموتوا على ذلك الحال، لا هُمْ عرفوا دينًا، ولا طهارة، ولا صلاة، ويمكن أن تجد بعضهم يصلون ولكن صلاتهم لا تملأ قلوبهم كما ملأها حب الكرة، لأن هَمَّهُم وشغلهم الشاغل الكرة فقلوبهم مملوكة لهذا (الحدث العظيم) الذي هو الكرة، أما الإسلام والممسلمون وأوْضَاعهم فلا مكان لها في قلبه، تحدثه عن الشيشان والبوسنة مثلا فلا يهمه ذلك، وإنما تهمه الكرة أين سَتَبِبتُ الليلة، فهذه بيئة إذا جلس فيها الإنسان ابتلعته.
ومنها بيئة أصحاب الغناء، وكمْ مرةً حاولت أن أفهم الشباب هذا الأمر حيث طالما سألوني عن الغناء هل هو حلال أم حرام؟.. الغناء ليس معناه أن تكون في الطريق وحدك فتغني، الغناء جوٌّ وبيئة، إذا ألفت الغناء وتعلقت به لابد أن تندمج في بيئته وفي مناخه، لابد أن تبحث عن الأشرطة وعن أصحابها وأن تتعارف معهم وتتبادل معهم وأن تتودّد إليهم وأن تسأل عن أخبارهم، وأن تقرأ الجرائد التي فيها أخبار المغنين وأن تلاحق وسائل الغناء، والجديد من الأغاني، وأن تغشى مجالسهم وأن تذهب إلى النوادي الموسيقية وأماكن الطرب، كل ذلك إذا نظرت فيه وجدت أن الذي يحوم فيه الغناء هو المنكر والفاحشة.
وهذا هو واقع الغناء، ولا يمكن للإنسان أن يخرج من المسجد فيصبح مغنيا بل لابد للمغني أنيكون في بيئة المغنين فيتعلم من هذا ويسمع من هذا ويحفظ عن هذا، لما تنظر إلى الطرب الغرناطي : إلى ذلك (الفن الرائع) و(الأدب السامي) الذي يؤديه أولئك الشباب، نجد الشباب ذكوراً وإناثا مختلطين في جلسة واحدة، وقد جلس هذا الشاب إلى جانب هذه الشابة، وتلك إلى جانب ذاك.. وهو عندهم أمر مباح.. وهم يرددون كلاماً كله غزل، كلام فاحش تقوله المرأة كما يقوله الرجل، وقد يختلي بعضهم ببعض، بل تتنقل الفِرْقَةُ بكل أعضائها فيسافرون مجتمعين ذكوراً وإناثا، أنظن أن هؤلاء ملائكة معصومون؟ أما علمنا أنهم جماعة من الشباب يعيشون زهرة عمرهم وريعان شبابهم، من يضمن لنا أنهم يحفظون دينهم ويصونون عرضهم ويحافظون على طُهرهم ونقائهم.. إن هذه معصية واختلاط ودعارة وفجور مُقنَّعٌ، مخطط، مُمَهَّدٌ، وله من يدافع عنه، وكل هذا يقع تحت غطاء (الفن) ينبغي أن نمتلك الشجاعة لنقول إن هذا حرام، حتى لا يفوت ذلك عن طريق المهرجانات التي هي محاولات لترويج الباطل، بختلف الأسماء والعناوين البَرَّاقة والشعارات الخادعة. وهذه هي الأخرى بيئة لا شغل لأصحابها إلا الجوّ الذي يعيشونه، يسألون عن الأغاني وعن حياة المطربين والملحنين وإنتاجاتهم، ويعيشون عالمهم وحدهم، أما أن يسألوا عن علم أو عالم أو يتعرفوا على صدور كتاب.. أو مشروع إصلاحي، أو.. فهذا ليس من شأنهم.