الاشارة الثانية :
لقد جاء في الحكاية ذكر مبعوث كريم، وذُكر أن من لم يكن أعمى يفهم من رؤية أوسمته : أنه شخص عظيم، لا يأتم إلاّ بأمر السلطان، فهو عامله الخاص.. فهذا المبعوث انما هو رسولنا الأعظم .
نعم، يلزم أن يكون لمثل هذا الكون البديع ولصانعه القدوس، مثل هذا الرسول الكريم، كلزوم الضوء للشمس. لأنه كما لا يمكن للشمس إلا ّ أن تشع ضياءً كذلك لا يمكن للألوهية إلاّ أن تظهر نفسها بارسال الرسل الكرام عليهم السلام.
فهل يمكن ان لا يرغب جمالٌ في غاية الكمال في اظهار نفسه بوسيلة ودليل يعرّفه؟
أم هل يمكن ان لا يطلب كمالٌ في غاية الجمال الاعلانَ عنه بوساطة يلفت الأنظار إليه؟
أم هل يمكن أن لا تطلب سلطنةُ كلية لربوبية عامة شاملة اعلان وحدانيتها وصمدانيتها على مختلف الطبقات بوساطة مبعوث ذي جناحين؟ أي ذي صفتين : صفة العبودية الكلية، فهو ممثل طبقات المخلوقات عند الحضرة الربانية. وصفة الرسالة والقرب إليه، فهو مرسل من لدنه سبحانه إلى العالمين كافة.
أم هل يمكن لصاحب جمال مطلق أن لا يروم أن يشهد هو ويُشهد خلقه محاسن جماله ولطائف حسنه في مرايا تعكس هذا الجمال؟ أي بوساطة رسول حبيب؛ فهو حبيب لتودده إلى الله سبحانه بعبوديته الخالصة، وهو رسول حبيب لأنه يحبب الله سبحانه إلى الخلق باظهار جمال أسمائه الحسنى.
أم هل يمكن أن لا يريد من يملك خزائن مشحونة بأغلى الأشياء وأعجبها وبما يدهش العقول، اظهار كماله المستتر. وان لا يطلب عرضه على أنظار الخلق أجمعين، وكشفُه على مرأى منهم، بوساطة معرّف حاذق ومعلن وصّاف؟
أم هل يمكن لِمَن زيّن هذا الكون بمخلوقات معبّرة عن كمال اسمائه الحسنى، وجعله قصراً رائعاً، وجمّله ببدائع صنعته المذهلة، وعرضه على الأنظار، ثم لا يكل أمر ايضاحه إلى مرشد معلم رائد؟.
أم هل يمكن أن لا يبيّن مالك هذا الكون بوساطة رسول : ما الغاية من تحولات هذا الكون وما القصد من هذا الطلسم المغلق؟ وأن لا يجيب بوساطته عن ألغاز الأسئلة الثلاثة المستعصية في الموجودات، وهي : من أين؟ وإلى أين؟ ومن تكون؟.
أم هل يمكن للخالق ذي الجلال الذي عرّف نفسه إلى ذوي الشعور بهذه المخلوقات الجميلة، وحبّبها إليهم بنعمه الغالية، أن لا يبيّن لهم بوساطة رسول ما يريد منهم وما يرضيه ازاء هذه النعم السابغة؟
أم هل يمكن للخالق الذي ابتلى النوع الانساني باختلاف المشاعر والاتجاهات، وهيأ استعداده للعبودية التامة الكلية، أن لا يطلب توجيه أنظار هذا النوع من الكثرة الى التوحيد بوساطة مرشد مرسل؟.
وهكذا فإن هناك دلائل أخرى زيادة على ما تقدم، كلها براهين قاطعة تبين : >وظائف النبوة ومهامها<، وتوضح : أن الألوهية لا تكون بلا رسالة.
والآن، فهل ظهر في العالم من هو أكثر أهلية، وأجمع لتلك الأوصاف والوظائف التي ذكرت، من محمد الهاشمي ؟ أم هل هناك أحد أليق منه لمنصب الرسالة ومهمة التبليغ؟ وهل أظهر الزمان أحداً أعظم أهلية منه؟ كلا. ثم كلا.. فهو أمام جميع المرسلين، وقرة عين كل الأصفياء، وسلطان جميع المرشدين، وزبدة كل المختارين والمقربين، صاحب ألوف المعجزات كشق القمر، ونبعان الماء من بين أصابعه الشريفة، مما عدا دلائل نبوته وأماراتها التي لا تحصى، مما هو محل اجماع أهل الفضل والعلم، وعدا القرآن العظيم الذي هو بحر الحقائق والمعجزة الكبرى، إذ أنه كالشمس الساطعة دليل قاطع على صدق رسالته.. ولقد اثبتنا اعجاز القرآن بما يقرب من أربعين وجهاً من وجوه الاعجاز في “رسائل النور” ولا سيما في “الكلمة الخامسة والعشرين”.
الإشارة الثالثة :
لا يخطرنّ على بال أحد ويقول : ما أهمية هذا الإنسان الصغير وما قيمته حتى تنتهي هذه الدنيا العظيمة وتفتح دنيا أخرى لمحاسبتة على أعماله!
لأن هذا الإنسان، هو سيد الموجودات رغم أنه صغير جداً، لما يملك من فطرة جامعة شاملة.. فهو قائد الموجودات، والداعي إلى سلطان ألوهية الله، والممثل للعبودية الكلية الشاملة ومظهرها، لذا فإن له أهمية عظمى.
ولا يخطرن على البال كذلك : كيف يكون هذا الإنسان محكوماً بعذاب أبدي، مع أن له عمراً قصيراً جداً؟
لأن الكفر جريمة كبرى، وجناية لا حدود لها، حيث إنه يهبط بقيمة الكائنات ودرجتها -التي توازي قيمة مكاتيب صمدانية ودرجتها- إلى هاوية العبث، ويوهم عدم وجود الغاية من ايجادها.. إنه تحقير بيّن للكائنات كلها وانكارُ لما يشاهد من أنوار الأسماء الحسنى كلها، وانكار آثارها في هذه الموجودات، ومن ثم فإنه تكذيب ما لا يحصى من الأدلة على حقيقة وجود ذات الحق سبحانه وتعالى، وكل هذا جناية لا حدود لها، والجناية التي لا حدود لها توجب عذاباً غير محدد بحدود.
الإشارة الرابعة :
لقد رأينا في الحكاية بصورها الاثنتي عشرة :
إنه لا يمكن بوجه من الوجوه أن تكون لسلطان عظيم مملكة مؤقتة -كأنها دار ضيافة- ثم لا تكون له مملكة أخرى دائمة مستقرة، ولائقة لأبهته وعظمته ومقام سلطنته السامية.
كذلك لا يمكن بوجه من الوجوه أن لا ينشئ الخالق الباقي سبحانه عالماً باقياً بعد أن أوجد هذا العالم الفاني.
ولا يمكن أيضا أن يخلق الصانع السرمدي هذه الكائنات البديعة الزائلة، ولا ينشئ كائنات أخرى دائمة مستقرة.
ولا يمكن أيضاً أن يخلق الفاطر الحكيم القدير الرحيم هذا العالم الذي هو بحكم المعرض العام وميدان الامتحان والمزرعة الوقتية ثم لا يخلق الدار الآخرة التي تكشف عن غاياته وتظهر اهدافه!
إن هذه الحقيقة يتم الدخول فيها من >اثنتي عشر باباً<، وتفتح تلك الأبواب بـ>اثنتي عشرة حقيقة<، نبدأ بأقصرها وأبسطها.
الحقيقة الأولى :
باب الربوبية والسلطنة
وهو تجلي اسم >الرّب<
أمن الممكن لمن له شأن الربوبية وسلطنة الألوهية، فأوجد كوناً بديعاً كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، اظهاراً لكماله، ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالإيمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!