مع أنه من “الإعلاميين” البارزين، وأحد “القانونيين” الموسوعيين، وشغله لعضوية كثير من الهيئات والمؤسسات الأكاديمية والعلمية -بالرغم من ذلك كله- إلا أن الساحة الأدبية لا يمكن -بحال من الأحوال- أن تفرط فيه، أو تتركه لسواها، باعتباره ناقدا موضوعيا، وشاعرا واسع الأفق، صاحب إنتاج إبداعي خصب.. له أكثر من سبعة دواوين شعرية، فضلا عن مؤلفاته الأخرى المتنوعة في مجالات الشريعة والفقه والإعلام والدراسات الفكرية..
إنه الدكتور “محمد كمال إمام” واحد من شريحة المثقفين العرب المخلصين لقضايا الأمة والذوذ عن كرامتها.. التقيناه.. لنتعرف على وجهة نظره حول بعض القضايا الثقافية، التي تمثل -بدورها- محور المنطلقات والركائز الأساسية للحياة الأدبية في العالم العربي بأسره..
< سعادة الدكتور “محمد كمال إمام” ما هو تقييمكم لمسيرة الحركة النقدية في الوطن العربي -الآن- ما لها وما عليها؟!
>> أكره التعميم في الأحكام، فلا يمكن أن نقول إن الحركة النقدية في الوطن العربي توصف بوصف واحد، فهناك -مثلا- في المغرب نستطيع القول بأنها حركة نقدية جديرة بالتقدير، لأنها تتابع ما ينشر وما يصدر في كثير من بلدان العالم، وتحاول أن ترصد التيارات الفكرية كما تحاول أن تضعها في مكانها المناسب؛ إلا أن النقد المغربي تابع للنقد الفرنسي المعاصر في أغلب توجهاته، فلم يستطع حتى الآن أن يتبلور في تيار نقدي عربي.
ومن هنا أقول : إن الحركة النقدية في المغرب جهد مثابر، وذلك باعتبارها لم تتميز بالحركة المستقلة -خاصة- في المجالات الأدبية المختلفة كالشعر والقصة والرواية.. وربما يقال إن الرواية أو القصة لم تكن ذات النشأة العربية، ومن هنا فعناصرها النقدية تأخذ تطوراة نقد الرواية التي هي عند الغربيين بوجه عام، وعند الفرنسيين بوجه خاص.
فأقول : أفهم ذلك وأقدره ولكني أتصور أن الرواية ليست شكلا فحسب، ولكن شكلا ومضمونا معا.
وإذا لم تستطع -رغم أن شكلها غربي- أن تكون ذات مضمون تعبر فيه عن عالمها، فهي غير ناجحة بكل المقاييس. أيضا -هناك حركة نقدية مشرفة في المشرق العربي، أبرزها في المملكة العربية السعودية، ربما لم تستطع أن تقف على قدميها كمجموعة من الحركات النقدية أو تعبر عن عدد من الحركات النقدية الجديدة، ومما ساعد ازدهار الحركة النقدية وتطورها في المملكة وجود النوادي الأدبية التي تنتشر في أرجاء المملكة والتي استطاعت أن تفرز حركات نقدية لما يصدر في دول الخليج والدول الأخرى كمصر ولبنان وسوريا..
والنقد نوعان : نقد صحيح يحدث تطويرا، ونقد يتابع العملية ذاتها ويثريها.
ونحن لدينا نقص في الأعمال النقدية التي تواجه المسيرة الأدبية، كما لدينا فقر شديد في الأعمال التي تصدر على الساحة، لعدة أسباب، ربما كان على رأسها سيطرة بعض مذاهب الحضارة الغربية على ثقافتنا، ورغم انكسار الأيديولوجية في العالم إلا أن العرب أكثر الناس تحفظا، وهذا لسوء الحظ بالطبع، يضاف إلى هذا أن موجة الإعلام المقروء انحسرت أمام المسموع والمرئي، وهذا لم يكن في صالح الأعمال الأدبية والنقدية، لأن الأْعمال المسموعة والمرئية أصبحت لونا من احتراف التوابل الأدبية!! وسيطر عليها عنصران : التجارة، والتزييف والتقليد الردئ للأعمال العالمية، وهذا يؤثر في البضاعة الأدبية العربية.
فشئ طبيعي أن يصبح بنك الإبداع العربي على هاوية الإفلاس، وان يصبح ردئ القيمة في سوق الحياة الأدبية!!
< هل معنى ذلك أن وسائل الإعلام وانتشارها في هذا العصر أضرت بحاضر ومستقبل الأدب والثقافة..؟!
>> لابد أن نفهم القضية على وجهها الصحيح، فالأدب شيء، والوسائل شيء آخر، فتطور الوسائل الأدبية، ومن بينها وسائل الإعلام، يضاف إليها الكتاب والكمبيوتر والانترنيت والأقمار الصناعية، هذه وسائل لا تنتج أدبا، ولكنها تساهم في تطوير الشخصية الإنسانية في هذه المجتمعات، وتفرز نوعا جديدا من الرؤى يحتاج إلى إبداع أدبي جديد، فهي تخلق أشكالا يمكن أن توصف بأنها أشكال أدبية جديدة، فلولا التلفزيون -مثلا- لما وجدت التمثيلية، وهي فن ليست كالمسرح ولا كالرواية..
فالأدب يستعين بوسائل الإعلام، والأديب هو الذي يعتبر وسائل الإعلام مجتمعا جديدا يفرز فيه أدبا جديدا.. فالقضية -إذن- قضية إبداع ومبدعين، وليست قضية وسائل الإعلام!
ففي العصر الأموي والعباسي، ظهرت ألوان جديدة من الأدب أخذت مكانها في تاريخ الأدب العربي مثل فن النقائض، والشعر السياسي عند الكميت والأخطل، والفرزدق وجرير.. حتى في العقائد وجدنا شعرا للخوارج وشعرا لغيرهم، فالتطور الفكري يخلق أشكالا أدبية قد لا توجد في عصر غيره.
أيضا -لم نعد في هذا العصر نرى ملاحم مثل الكوميديا “لدانتي” وغيرها، لأن الفن الملحمي يحتاج إلى طفولة إنسانية لم تعد موجودة في عصرنا هذا.. فكل مجتمع له قضاياه، لكنها لا تقضي على الأدب.. أما الأدب فما خلق مجتمع بغير أدب.
< قلتم -من قبل- بسيطرة المذاهب النقدية الغربية على ثقافتنا.. ترى، لماذا يلجأ الأدباء العرب إلى استيراد هذه المذاهب الغربية، والتعسف في تطيبقها على الإبداع العربي…؟!
>> إذا كان نقادنا العرب يسعون برغبة شديدة وراء النظريات النقدية الغربية والشرقية، فهذا بسبب افتقادنا لنظرية نقد عربية متطورة يمكن أن تقيم الإبداعات العربية المتطورة أما عن صلاحية هذه النظريات في تطبيقها على الإبداعات العربية، فذلك يتوقف على مدى استيعاب الناقد لأبعاد المنهج النقدي..
والمشكلة أن روادنا الأوائل كشفوا عن مصادرهم وقدموا لنا مذاهب الحضارة الأوربية من مبدعين ونقاد، في حين يتعمد الكثير من نقادنا المعاصرين إخفاء مصادرهم!!
< ترى ما هو المراد بالمصطلحات التي كثيرا ما يدعو إليها (أنصار مذهب الحداثة) مثل “التفجير اللغوي”، “اقتحام الألفاظ”.. الخ؟
>> المعروف أن الشاعر ينفرد عن عامة الناس باكتشافه لعلاقات جديدة بين الكلمات، وذلك بإخصاب وسائل التعبير، والكلمة الشعرية غير مستمدة من معاجم اللغة بقدر ما هي مستمدة من عمق الحالات النفسية.
والتفجير اللغوي الذي يمارسه الحداثيون قد يكون مقبولا في حدود طاقات التواصل اللغوي، أما التفكير في قطع اللغة عن الحقيقة وصدى الحقيقة، فهو في تصوري إعدام للتواصل بين الرمز والمرموز، والكتابة الفنية هنا ستخرج من دائرة الاتصال لتقع في مهاوي العقم المدمر، كما أنني أخشى أن يتحول التفجير اللغوي إلى تحطيم اللغة مهما توافرت النيات الحسنة، وأخشى أن يقوم بعض الحداثيين -بالنسبة للغتنا العربية- بدور يماثل ذلك الذي قام به الزنوج بالنسبة للغة الفرنسية بدافع الحقد على الاستعمار!
وأود أن أقول لأولئك الحداثيين في مصر والوطن العربي : إن لغتنا العربية بها من الألفاظ ما يزيد على عشرة ملايين، ونحن لا نستعمل منها إلا نحو نصف المليون كلمة!
أليس من الأولى أن نفهم دلالات ألفاظ لغتنا أولا، فعلينا معشر الأدباء والشعراء أن نفجر كوامن معاجمنا اللغوية لاستثمارها، فهذا أفضل مما يفعله الحداثيون.
< منذ أن شاء الله لمصطلح “الأدب الإسلامي” أن يطفو على السطح، ونهوض طائفة من الأدباء بالدعوة إليه والتنظير له.. -منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا- لم يكف المعارضون والمناوئون والكارهون من التشويش والضجيج في وجه أنصاره وحجبه إعلاميا بمختلف الطرق وكافة الوسائل..؟!!
>> لا مبرر إطلاقا لهذا كله، لأننا عندما نتحدث عن مصطلح الأدب الإسلامي، فإنما نقصد به شيئا في التاريخ أو الجغرافيا.. فإذا كان تاريخيا فنعني بذلك الأدب الذي انتشر وازدهر في ظل الحضارة الإسلامية وبعد ظهور الإسلام مرورا بالعصرين الأموي والعباسي، بحيث نستطيع أن نقول : إن هذا الأدب إسلامي لأنه ظهر في عصر ازدهار الإسلام.
وإذا كان “جغرافيا” فالأدب الإسلامي هو أدب الشعوب الإسلامية سواء كان هذا الأدب من أي دولة ويضع له قواعد وخصائص، فهو تعبير عن بيئة وعن ذات، ولابد أن تنعكس البيئة على الأدب، كما تنعكس البيئة على الذات..
أما إذا نظرنا إلى الأدب الإسلامي باعتباره موضوعا قائما نقصد به رؤية الإسلام وتصوراته للألوهية والإنسان والكون فلا يوجد أدب ليس له رؤية.. فإذا كانت هذه الرؤية إسلامية، فتصف هذا الأدب بـ”الأدب الإسلامي”.
وإذا كنا نتحدث عن الفلسفة المسيحية أو الفلسفة اليهودية.. فلماذا نحرم المسلمين من أن يكون لهم رؤيتهم حتى تكون إسلامية؟!!
إذن.. فالمصطلح بهذا المعنى لا شيء عليه، ولكن إذا قصد بها التبشير والوعظ، فهو جنس آخر من فنون الكلام.. لأن الأدب عملية إبداعية.
< هل “الأدب الإسلامي” في حاجة إلى نظرية، كبقية المذاهب الأدبية الأخرى التي قامت قواعد ونظريات معروفة لدى الجميع؟
>> من الصعوبة بمكان أن نحصر الأدب الإسلامي في نظرية معينة أو قالب معين، لأن وحدة الإسلام لا تعنى عدم التنوع، إن وضع أصول للأدب هو مجرد تصورات للمثقفين فقط، وهذه النظرة لا نشك في توجهها أو هدفها، فالنقد نوعان : نقد يبشر باتجاهات جديدة، والثاني : نقد يقوم تجارب أدبية قائمة.
كان نقادنا القدامى أكثر حصافة من نقادنا المعاصرين، لأنهم كانوا ينظرون إلى المتنبي وأبي فراس وأبي تمام نظرة طبيعية، فهم ينظرون إليهم لا كأفضل من أنجبت العربية، بل كان بعضهم يفضل الشعراء الآخرين على هؤلاء، وعندما يعرفون فلانا، يقولون : هذا كالمتنبي، أو كالبحتري.. وهكذا. لكنهم لم يستطيعوا لحظة واحدة أن يوقفوا الإبداع الأدبي على أشخاص معينين، أو عصور بعينها -كما نفعل نحن.
وأنا أرى أن حافظ وشوقى والعقادو… عظماء وعباقرة ولكن بمقاييس جيلهم، وسر عظمتهم انهم حفروا في الصخر ليسمع لهم صوت!، والذين جاءوا بعد هؤلاء كتبوا أعمالا أكثر حصافة إلا أنهم ارتادوا طريقا آخر وفتحوا بابا ولكنهم لم يكملوه!! أقول أيضا : إن لكل جيل عباقرته، ولكل جيل مبدعوه، بشرط أن يكون من الجيل الذي يصنع أدبا وفكرا خالدا.
وفي ضوء الدراسات الأدبية المعاصرة أقول : إن ما كتبه طه حسين وعلى الجارم عن الأدب العربي -وهؤلاء كانوا من الرواد- جاء أستاذنا شوقي ضيف فقطع شوطا كبيرا أفضل من هؤلاء جميعا، ولكن -للأسف- إن الأبناء يهدمون ما كتبه الآباء!
< لماذا لم يعد الاحتفاء بالشعراء، وعقد الألوية لهم، مثلما كان القدماء أو السابقون يلتفون حول “الشاعر” ويجعلونه علما عليهم؟!
>> أرى أن الاحتفاء بالشعراء في مجتمعاتنا أمر مرهون بالظروف السياسية، أو العلاقات الشخصية، فالأديب الذي يحتفى به متعلق بأحد هذين الأمرين.. ولكل أمة وكل عصر تقاليد خاصة به، فإذا كان “أفلاطون” يضع الشعراء في آخر قائمة “جمهوريته” بعد عمال الكناسة وماسحي الأحذية، وجعل التجار وأصحاب الحرف والمعلمين أعلى درجة منهم، فإن الإسلام العظيم أكرم الشعراء ورعى قدرهم، حتى سميت إحدى سور القرآن الكريم باسم “سورة الشعراء” وفرق بين المؤمنين الصالحين منهم وبين أهل الرذيلة والضلال والغواية، والرسول استخدم الشعر سلاحا من أسلحة الدعوة، وهو القائل : >إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة< فهل بعد هذا التكريم وهذا الاحتفاء شيء يقال!.