ما تزال الساحة المغربية تغلي منذ إعلان الحكومة عن خطة إدماج المرأة التي يراد من ورائها استئصال البقية الباقية من مظاهر الشريعة في القوانين المغربية -قانون الأحوال الشخصية- بعد إقصائها من ساحة القوانين الجنائية والمالية وغيرها من القوانين التي تسيطر عليها روح العداء والتحدي لأحكامها، ويَطْبَعُهَا الجفاء والقطيعة لروحها ونصوصها. وتتمتع بالحصانة المطلقة والسكوت التام عن نقدها أو المطالبة بتعديلها، وفي بلد مسلم ينص دستوره على أن الإسلام هو دين الدولة، في وقت يتعرض هذا الإسلام وفي شخص شريعته في الأحوال الشخصية الى حرب شعواء استخدم فيها خصوم الشريعة وأنصار الخطة كل ما يملكون من أسلحتهم الداخلية والخارجية، ودفعوا بكل ثقلهم لنصرة قضيتهم وفرض خطتهم وإحكام سيطرتهم على التشريع واحتلال آخر معاقل الشريعة الإسلامية فيالقوانين المغربية ليطمئنوا على العلمانية التي يبشرون بها ويَسْعَون لفرضها تمهيداً لقضاء حاجة في نفس يعقوب هم أعلم بها.
ولم يتحاشوا في معركتهم عن استغلال مناصبهم الحكومية ومكانتهم السياسية ووسائل الإعلام الرسمية السمعية والبصرية، وجندوا لذلك صحافتهم المدعومة بأموال الأمة وميزانية الدولة لمحاربة قيم هذه الأمة وشريعتها. واستعانوا على ذلك بأنصارهم ومؤطريهم في الداخل والخارج، وملأوا الدنيا بالتصريحات والنداءات والشعارات المستوردة للتأثير على الرأي العام بصفة عامة والرأي النسائي بصفة خاصة أملا في اختلاس أصواتهن والصعود على أكتافهن في الانتخابات القادمة.
كان من بين هذه الشعارات والنداءات :
- الإشارة إلى استطلاع للرأي العام أجرته بعض الجهات المناصرة للحكومة زعمت فيه حصول الخطة على الأغلبية.
- التلويح بالأغلبية العددية للجمعيات النسائية المؤيدة للخطة.
- الدعوة للحوار والتفاوض للوصول إلى حلول توافقية ترضي الطرفين وتنهي الصراع بين الفريقين، أو بتعبير بعض القانونيين الحوار للخروج بقاعدة قانونية ملزمة للجميع -كما هو الحال في القضايا المطروحة على الساحة- مادام الحوار والتفاوض والديموقراطية هي الحلول المثلى والمقياس المقبول في المنظور البشري المعاصر المفتون بالديمقراطية الشكلية.
- الدعوة للتجديد والتحديث لمواكبة العصر.
والمُتَأمِّل البصير بأصول الشريعة وفروعها لا يسعه حين يقرأها إلا أن يقول : ياله من منطق يبعث على الأسى والحزن لما آل إليه أمر الإسلام وشريعته في هذا البلد الأمين، ويا لها من شعارات واقتراحات تثير الضحك والعجب منها وممن يرفعونها ويلوحون بها.
متى كانت الشريعة الإسلامية محلَّ تفاوض وتراضٍ؟ ومتى كانت أحكامها مسرحاً للاقتراع والتصويت عليها، ومن أُمِّيّيّن فيها؟ ومتى بَلِيتْ الشريعة حتى تحتاج إلى تَرْمِيم أو تجْديد؟ومتى كانت القاعدةُ القانونية مُلزِمة والآية القرآنية باطلة لاغية غير ملزمة؟ أيُّهُما أحقُّ بالالزام؟ حُكْم الخالِق أم حُكْم المخلوق؟؟ كلام الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ أم كلام الإنسان الجهول المغرور؟؟
عجبا لهؤلاء وعجباً لأطَارِيحهم، من أفتَاهم بها؟؟ ومن أوحى إليهم بها؟؟! وأين تعلّموها أو لُقِّنُوها؟ في مدارِس الإسلام؟؟ أم في مدارس الرهبان؟؟ فهَلْ استَلْهموها من حوار الديانات؟ أم استنْبطوها من تفاعل الحضارات وتلاقُحِ الثقافات؟ أم هو وحي من شياطين الجن إلى شياطين الإنس؟؟ أم هم قوم تحرُّرِيُّون لا يعبأون بالمعتقدات؟؟ ولا يحترمون المقدسات؟؟ ولا يثقون في الديانات؟؟
كيفما كانت الأسباب والدوافع فإنه يجب على الجميع أن يعلم :
1- أن الحاكم في الأحكام الشرعية هو الله وحده دون سواه كما يدل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال تعالى : {إنِ الحُكْمُ إلاَّ للِّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِين} (الأنعام : 57)، {إنِ الحُكْمُ إلاَّ للَّهِ، أمرَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّآه}(يوسف : 40)، {ولاَ يُشْرِك فِي حُكْمِهِ أحداً}(الكهف : 36)، {أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينَ مَا لَمْ يَاذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى : 21).
فهذه الآيات وغيرها تدل دلالة قاطعة على اختصاص الله تعالى بالحكم، وانفراده تعالى بما يسمى بالسلطة التشريعية، لاحق لأحد سواه في إصدَار حكم شرعي مهْما كان ذلك الشخص أو الأشخاص، ومهما أوتُوا من عِلم وجاهٍ إلا في الحدود التي حددها لهم. ولهذا يقول الأصوليون والفقهاء في الحكم الشرعي >هُوَ خِطَابُ اللَّه وكلاَمُهُ..< وكلامُ الله قديمٌ بقِدَم ذاتِهِ وصفاته، باقٍ ببقائهما، لا يلحقه فناءٌ، ولا يعْتَريه تغييرٌ ولا تبديل، كما قال تعالى : {وتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً، لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}(الأنعام : 115)، {واتْلُ مَا أُوحِي إِلَيْكَ مِن كَتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدَِّ لِكَلِمَاتِهِ}(الكهف : 37)، {لاُ مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ}(الرعد : 41).
ومن هنا كانت الشريعة الإسلامية دائمة بدوام الله باقية ببقاء كلامه وصفاته، خالدة بخلود كتابه الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
واتفاق أيَّة جماعة أو أمة على تجميد الشريعة والاستعاضة عنها كليا أو جزئيا بغيرها لا يغير شيئاً من حقيقتها، فالحرام في الشريعة يبقى حراما، والحلال يبقى حلالا. ولا ينقلب الحرام إلى حلال، ولا الحلال إلى حرام بمجرد قانون أو مرسوم ولهذا يقول العلماء : >حُكْمُ الحاكِم لا يُحِلَّ حَراماً ولا يُحَرِّمُ حَلاَلاً<، لحديث : >فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أخِيهِ فلاَ يأخُذه فإنما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً من نارٍ<(متفق عليه)، وهو عام في كل الحقوق المالية وغيرها.
2- إن نظام الأسرة في الإسلام بصفة عامة والزواج بصفة خاصة والعلاقة الجنسية بين الزوجين بصفة أخص تستمد شرعيتها من الشريعة الإسلامية المستمدة من الكتاب والسنة كما قال : >اسْتَوْصُوا بالنِّسَاءِ خَيْراَ، فإنهن عَواَنٍ عِنْدَكُم، أخذتُمُؤهن بأمَانَة الله، واستَحْللْتُمْ فروجهُن بكتاب الله<(رواه مسلم)، فالفرق بين الحلال والحرام وبين النكاح والسفاح في العلاقة بين الرجل والمرأة وما يتكون من ذلك ويتولد عنه من أبناء الحلال وأبناء الحرام هو ذلك العقد الشرعي المبني على كتاب الله وسنة رسوله الملتزم بشروطهما ومواصفاتهما في النكاح الحلال، لا يقوم مقامه أي توافق أو تراض، وكُُّل حَلٍّ يمكن أن يتَوَصَّلَ إليه المتحاورون أو يَفْرِضه الغالبون أو يُفْتي به المُتَفَيْقهون المتطفِّلون أو يتراضى عليه المتزوجون ولا تتوفر فيه المواصفات الشرعية لا يمكن أن يكون حكم الله وشريعته وكتابه الذي تُسْتَحَلُّ به الفروج، ولا يعدو ذلك أن يكون قانوناً مَضَادّاً لكتاب الله محادّاً لشريعته يتحمل وزره ووزر من يعمل به مُقْتَرِحه ومُقَنِّنُهُ يَصْدَق عليه قوله : >ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثْمِ مِثْل آثام من يتّبِعه لا ينقُص ذلك من آثامهم شيئا< كما يصدق عليهم قوله تعالى : {إنّ الذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِم}(المجادلة : 5)، لأنّ المُحادَّة كما تكون بالحرب والسلاح تكون بالدعوة والتشريع، وهي أخطر وأشد لأنها اعتراض على الله، وتغيير لشريعته، ونسخ لها وإبطال للعمل بها، وتشكيك للناس في عدالة الله وحكمته، واتّهامٌ له بالظُّلْم في أحكامه، وتعريضٌ بجَهْلِه بمَصَالِحِ خَلْقِه وعباده، وتجرّّؤٌ على مراجعة قراراته وإدّعاء تصْحِيح أخطَائه تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وكل أسرة وكل زواج لا يستجيب لمواصفات العقد الشرعي لا يكون شرعيا، وتكون الحياة في ظلة حياة غير شرعية رغم صبْغَتها التوافُقِيَّة والقانونية وفي كثير من الحالات لا يكتفي الفقه بفسخ النكاح والتفريق بين الزوجين بل يتعداه إلى حَدِّ الزّوْجيْن ورجْمِهِمها واعتبار الأبناء أنباء زناً لا أبناء الرِّضا -كما يحلو للبعض أن يسميهم- تحدّىاً للشرع ودفاعاً عن أبناء الحرام وتبريراً لأمهاتهم.
3- إن الشريعة الإسلامية بنصها وروحها صالحة لكل زمان ومكان غَنِيَّةٌ بنفسها عن غيرها لا يَحْتَاجُ شَيْءٌ مِنْها لإصْلاح ولا تَطْعِيمٍ، ولا تفتقر إلى تعديلٍ ولا تجْدِيدٍ كمَا يَحْلُو لقَوْمٍ أن يُنَادُوا بذلك -بهدف تبْرِير خروجهم عن الشريعة والتَّنَصُّل من أحكامها وخير مثال على ذلك التعدد والطلاق :
فالتعدد الذي يعاديه ا لرجال والنساء، ويفرون منه قرارهم من الوباء فإنه ما زال صالحا وسيبقى صالحا وخاصة في مجتمع يزيد عدد العوانس فيه على سِتَّةِ ملايين عانس، بالإضافة إلى المُطَلَّقَاتِ والأرامل.
فهو بالرغم من نفور الناس منه يستطيع المساهمة في حل كثير من المشاكل -لو كانوا يعقلون-.
- محاربة الفساد السري والعلنِي والحدُّ من آثاره السيئة وما يترتب عليه من مشاكل اجتماعية وصحية وانسانية تتمثل في جراثم وأمراض ولقطاء تعج بهم الشوارع والملاجئ، وتستنزف طاقات بشرية ومالية هائلة المجْتَمع في أشد الحاجة إليها.
- التخفيف من أزمة الزواج الخانقة والمساهمة في امتصاص العنوسة المهولة التي تدفع الكثير إلى اليأس من الحلال والبحث عن الحرام.
- تمكين المرأة من حقها الطبيعي والشرعي في العيش في ظلال بيت شرعي يحفظ كرامتها وشرفها ويسمح لها بأمومة رحيمة تداعب ولدها وتفرح بولادته بدل أن تخنقه أو تلقي به في الشارع وهي خائفة من متابعة القانون وعذاب الضمير.
وإنه لمن العجب أن يتظاهر البعض بالانشغال ببطالة الشباب ولا ينْزَعِج أحدٌ من أزْمة الزواج؟! فهل البطالة أخطر من العنوسة؟ وهل حق العمل أهم من حق الزواج؟ وهل المَالُ أقْدَسُ من العرض؟ أم هناك تواطؤ غير معلن على إفساد هذا الجيل ودفعه لانتاج وتفريخ أبناء الحرام لتخريب المجتمع بكامله.
- الطلاق أو التطليق أيضا رغم مرارتهما فإنهما ما يزالان الحل الأمثل والعلاج الصحيح لزوجية فاشلة ينعدم فيها الانسجام والتوادد والتراحم، ويحل محلها الشقاق والعداء، فإن الحكمة من مشروعية النكاح : الطمانينة والتوادد والتراحم كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : {ومِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً}(الروم : 21). فإذا لم تَبق تلك الطمانينة واختفت تلك الرحمة والمودة وأصيب ذلك بخلل من الزوج أو الزوجة لم تبق فائدة في هذا الزواج لزوال حكمته وكانت الرحمة والطمانينةفي الافتراق كما قال تعالى: {وإنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سعَتِه}(النساء : 130) وكان الطلاق أو التطليق إصلاحاً وتصحيحاً، لا تخريباً وتدميراً كما يحلو للبعض أن يسميه، والأصوليون يقولون : >التصرُّف أو العقد الذي لا يُحَقِّّق الحكمة مِنْهُ لا يَجُوزُ شرْعُه< والله الذي شرع الطلاق والتطليق لا يمكن أن يشرع التدمير والتخريب، وشرْعُه لا يمكن وصفُه بذلك، نعم التدمير والتخريب يمكن أن يحْدُثا إذا سُدّ بَابُ الطلاق والتطليق، وأغْلِقَتْ نوافذُ الخلاص في وجه من يريد الهروب من الجحيم الذي يعيش فيه، ولا يطيق احتماله، فإنه في هذه الحالة سيحاول النجاة بنفسه بوسائله الخاصة بعيدا عن الشرع والقانون. وقد بدأت الصحف تتحدث عن انتحار الأزواج والزوجات والقتل المتبادل من الجانبين بهدف التخلص من الزوج أو الزوجة، فكيف سيكون الحال إذا منع الطلاق وصَدَر الحكم بالسِّجْن المؤبَّد مع العَذَابِ النّفْسِي لزوجٍ أو زوجة.
وهكذا هي كل الأحكام الشرعية ما تزال صالحة وستبقى صالحة لكل زمان ومكان بصورتها التي جاء بها الرسول وملامحها التي كانت عليها في عهده، وكل تغيير في صورتها أو تعديل في ملامحها يشوه صورتها، ويفقدها جلالها وجمالها ويبعدها عن طبيعتها وحقيقتها ويحولها الى شريعة أخرى غير شريعة الله التي أمر الجميع بالخضوع لها والانقياد لأحكامها.
ألا ترى إلى قول الرسول : >لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكِتاب<(رواه البخاري) وقوله : >لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلّيِ<(رواه أبو داود)، وقول الفقهاء : >الزِّيَادَةُ في العِبَادَة والنقصانُ منها يُبْطِلُها<، فالصلاة بدون شروطها وأركانها، والصلاة المتعمد الزيادة فيها لا تعد صلاة شرعية، ولا تبرئ ذمة فاعلها ولا يستحق عليها ثوابا، رغم إتيانه بما يظنه صلاة ولكنه لما زاد فيها أو نقص ولم يحافظعلى صورة الصلاة التي جاء بها الشرع لم يكن عمله صلاة شرعية.
والنكاح بدون ولِيّ رغم وجود التراضي بين الزوجين ورغم ما يصاحبه من حفلات وأجواق تبعده عن الزنا المألوف فإنه ليس بنكاح شرعي يحِلُّ فيه استمتاع الزوجين بعضهما ببعض، لأنه لم يلتزم بشروط الشارع ومواصفاته، ولهذا نفى عنه الرسول اسم النكاح في هذا الحديث، واعتبره في حديث آخر عملاً باطلاً حين يقول : >أَيُّمَا امْرَأَةٍ نكحَتْ نفسَهَا بغَيْر إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ< ـقالها ثلاثا- (رواه أبو داود وغيره).
وهذا يبين بوضوح أن كل ما يضاف للشريعة بدعوى الحاجة إليه، وما ينقص منها أو يلغى بدعوى الاستغناء عنه أو عدم مسايرته للعصر لا يصح اعتباره شرعا، ولا تيسيرا أو تجديدا، وإنما هو تحريف وتشويه، وكمثال على ذلك اشتراط موافقة الزوجة ورضاها عند التعدد والطلاق وإذن الحاكم في ذلك، فإن ذلك لا يمكن اعتباره إصلاَحاً، ولا تجديداً بقدر ما يعتبر انحرافاً وتحريفاً يصدق عليه حديث : >مَنْ أحْدَثَ فِي أمْرِنَا هَذَا ما لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌٌّّ<(رواه البخاري) وحديث : >كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ فهو باطل وإن كان مائة شرط<(رواه البخاري) وخاصة إذا راعيْنا قول كثير من الأصوليين : >الزيادة على النَّص نَسْخٌ لهُ، ولا نَسْخَ بَعد وفاتِه ، وكلام البشر لا ينْسَخُ كتاب الله وسُنّة رسوله<.
4- أن الشريعة هي حكم الله الذي لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه مصدرها الوحي المعصوم من الخطإ، غنيَّةٌ بأصولها وفروعها عن موَاقِف الناس وأصْواتِهِم، لا تَعْبأ برضاهم ولا بسخطهم {وقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُومِنْ ومَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر}(الكهف :29)، كما أنها لا تتأثر بشعاراتهم ولا تخْضَعُ لموازينهم، ولا تُقَاسُ بمقاييسهم لأنها من المنظور الشرعي والعلمي أيضا مَقَايِيسُ باطلةٌ وموازينُ فاسدة، وطرقٌ مهجورة، ومناهجٌ ضالة لا تهدي إلى الحق، ولا توصل إليه، أو تدل عليه من قريب أو بعيد، ولا تحترمه ولا تتقيد به، وربما في بعض الأحيان لا تَعْرِفه، ولا تريد التعرّف عليه، ولا تحبُّه ولا ترغب في وجوده وتطبيقه، وتتنكر له وتحاربه أو تحاول الالتفاف عليه والتنصل منه، أو تفاوض لا قطاع جزء منه، أو بَتْر عضو من أعضائه، بقصد تشويه صورته، وتقبيح منظره والحد من توهجه وضيائه إذا عجزت عن إخماد شعلته وإطفاء نوره.
ومَفَاهِيمُ كهذه لا يُمْكِن الاطمئنان لها والثقةُ فيها، ولا يصح الاحتكام إليها، ووَزْنُ الشَّرِيعة بها، فالشّريعة تزِنُ ولا تُوزَنُ، وتقِيسُ ولا تُقَاس، وحقُّها أن تَحْكم ولا تُحْكَم وأن تُراقِب ولا تُرَاقَب، وتُصحِّح ولا تُصَحّح انطلاقا من قوله : >الإسْلامُ يَعْلُو ولا يُعْلَى<(رواه أبو داود والحاكم وصححه).
5- أن الشريعة هي الحق الذي بعثالله به رسوله وبشره باظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون، وهي العلم الذي أوحاه إليه وحذره من مخالفته في قوله : {ولَئِنْ اتَّبَعْتَ أهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِن العِلْمِ إنَّكَ إذاً لَمِنَ الظَّالِمِين} (البقرة : 119)، وهي العَدْلُ الذي أمرَه به ونهاه عن تركه.
وهذه القِيَم لا تَقْبل الضَّدّ أو النَّّقِيض، ولا تحتمل التجزئة والتّبْعيض، فليس هناك إلاّ حقٌّ أو باطلٌ لا ثالثَ لهُما، وليس هناك إلاّ عِلْمٌ أو جهلٌ، وعدْلٌ أو ظلم ولا واسطة بينهما، وقد بيّن الله الحقّ من الباطل، والعِلمَ من الجَهْلِ، والعدل من الظلم فأي فائدة تُرْجى من التفاوض حَوْلَها أو الاقْتِراع عليها.
فالحق حقٌّ وإن لمْ يُومِنْ به أحدٌ، والباطل باطلٌ وإن تظَاهرَتْ الملايينُ لنُصْرَتِه والمطالبة بفَرْضِه.
وخير مثال على ذلك الإسلام نفسه في حاضره وماضيه.
فالإسلام وهو الدِّين الحق بنص القرآن {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ}(آل عمران :84) فانّه لا يَدِينُ به اليوم أكْثَرُ سُكان العالم، فهَلْ يَحِقُّ للْأَغْلَبيّة العالمية المطالبة بإلْغَائه وتعديله؟؟ وهل يفاجئُنا المستقبلُ بِشَيّْء من ذلك؟ وهل يكون شعارُ العولمة وحِوارُ الديانات مَدْخَلاً لذلك؟ وهل تكون خطّةُ إدْماجِ المرأة استمداداً من ذلك وتمهيدا له؟؟!
والإسلام في ماضيه حين جاء به الرسول لم يرحّبْ به إلا القليل. وعارضه المشركون بكل قوة وتحالفوا ضده مع اليهود والنصارى والمجوس كما يتحالفون اليوم، وقاوموه جميعا بالمال والسلاح والدعاية الباطلة ضد الرسول وضد شريعته، وتعاليمها وأحكامها التي جاءهم بها، وجادلوا بالباطل ليدحضوا الحق الذي أغضبهم ولم يُرْضِهِمْ، واستعانوا على ذلك بوسائل إعْلامهم المتاحة لهم وساهم في ذلك الشعراءُ والشَّاعِرات، وأقاموا السّهَراتوالندوات والتجمعات، وغَنَّت المغنيات بذم الإسلام وتعالِيمِه ومَنْ جاء به، وتكتَّلَ السََّّاسَةُ والزعماء والزعيمات والتفَّتْ الأغلبية الساحقةُ حوْلهم، وبرزَتْ على الساحة أسْمَاء رجاليَّةٌ ونسائِيَّةٌ عُرِفَتْ بعدائِها للإسلام وحرْبِها لما جاء به -ما تزال تُذْكَرُ فتُلعَنُ- وانتقدوا ما لم يُعْجِبْهم من أحكامه وطالبوا بالغائها وحذفها، وبَلَغَتْ بهم الجرأة أن طالبوا بتعديل القرآن الذي جاء بها.
كما طالبوا بالحلول الوسطى والتنازل المتبادل للوصول إلى التوافق والتراضي وتسربت عدوى المطالبة الى نساء مومنات عن غفلة وحسن نية أو بدافع المنافسة للرجال، وتَساءلْن واحْتَجَجْن على إعطائِهِن نصفَ الميراث وعدمِ إشراكهن أو إدماجهن في الخدمة العسكرية، الجهاد، وقلن : >يَغْزُو الرجالُ ولا نغْزُو وإنمَا لَنا نِصْفُ الميراث< وتمَنَّيْن أن لوْ جعلتْ انصباؤهن كانْصِباء الرجال، وتمنىالرجال أن تكون أجورهم مضاعفة كالميراث فلم يكن اجماع هذه الأغلبية واقتراحات الوسطية دليلا على صوابهم وصحة رأيهم، ولم يعبأ الله بكثرتهم ووفرة عددهم وأغلبيتهم، ولم يستجب لمطالبهم، ولم يغير شيئا من أحكامه التي لا تعجبهم، ولم يعدّل شيئا منها لاسترضائهم، ولم يأمر نبيه بمفاوضتهم أو التنازل لهم عما لا يرضيهم، بل حثه على الوقوف في وجههم والاعراض عن سفاهتهم، وحمَّلَهم مسؤولية ضلاَلِهِمْ وجَهَالتهم، وأوحى إليه {فاسْتَمْسِكْ بالذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وإنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ولِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(الزخرف : 44) وأوْحى له : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأمْرِ فاتَّبِعْهَا، ولاَ تَتّبِع أهْوَاءَ الذِينَ لا يَعْلَمُون، إنَّهُمْ لنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِن اللَّهِ شَيْئاً وإنّ الظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضِ واللَّهُولِيُّ المُتَّقِينَ، هذَا بَصَائِرُ للنّاسِ وهُدًى ورحْمَة لقومٍ يوقِنُونَ}(الجاثية : -18 20).
كل ذلك ليعلم الناس :
أولا أن الله يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء، وهو العليم الحكيم، وأنه الخبير بمصالح الناس ومنافعهم، وليعلموا :
ثانياً أن شرع الله الذي وَضَعه لعباده لا حق لأحد في تغييره أو تبديله، لا تملك ذلك أغلبية مطلقة ولا أغلبية نوعية ولا يخضع لسياسة الكر والفر والأخذ والعطاء، وتبادل المصالح، والمنافع.
ونزلت آيات كثيرة تصب في الاتجاه تؤكد كلها هذه الحقائق والاستنتاجات المستوحاة منها وتسجل مراحل ذلك الصراع وما واكبه، وردود الفعل التي صاحبته أو أعقبته. آيات يكاد القارئ لها المتدبر لمعانيها والمتعمق في دلالتها وأسْبَابِ نزولها يجزم أن التاريخ يُعِيدُ نَفْسَهُ وأن ظروفنا وحاضرنا لا يختلف عن ظروف وأسباب نزولها، فما زال الناس يرفضون ماجاء به القرآن، وينتقدون أحكامه، ويصرون على رفضها ويطالبون بإلغائها، أو إجراء حوار لتعديلها وتقييدها، أو يهزؤون بها ويسخرون منها، كما كان أولئك يفعلون. وهكذا نزل قوله تعالى : {وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قال الذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا إِيتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أو بَدِّلْهُ، قُلْ مَا يَكُونُ لِيَ أنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّيَ أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(يونس : 10) وهي آية تؤسس لقاعدة تشريعية أُصُولية عظيمة لا يريد البعض فهمها والاذعان لها، مفادها أن ما جاء به القرآن من شرائع وعقائد، وما نص عليه من أحكام لا حق لأحد في تبديلها أو تعديلها، مهما أوتي من علم ونفوذ أو مكانة وجاه عند الله حتى الرسول لا يستطيع تبديلها من نفسه، ويامره الله بإعلان ذلك للناس : {قُلْ مَا يَكونُ لِيَ أنْ أُبَدِّلَهُمِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إنْ أتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ}(التوبة : 15) ليَعُوا الدّرس جَيِّداً، ويقفوا عند حدودهم ولا يتطاول أحد بعدهم على اختصاصاته سبحانه وهي آية كافية في الرد على دعاة الخطة في كل بند من بنودها المخالف للشريعة الاسلامية، فإذا كان الرسول لا يحق له تبديل ما أنزل الله في كتابه وكان مُلْزَماً باتباع ما يُوحَى إليه بنَصِّهِ وفَصّه فكيف يحق لمن جاء بعده التطاول على ذلك إلاّ أن يكونَ مِمَّنْ لا يَرْجُون لِقَاء الله، ولا يومنون به كما يشير له قوله تعالى : {قَالَ الذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا}.
كما نزل قوله تعالى : {وتمّتْ كلماتُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلاً، لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، وهُو السّمِيعُ العَلِيمُ، وإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَنْ في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إنْ يَتَّبِعُونَ إلاَّ الظَّنَّ وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُونَ}(الأنعام : -15 16) وهي آيات تبين بوضوح أن العدل لا يقاس بميزان الأغلبية والأقلية وأن الميزان الصحيح لمعرفة العدل من الظلم، والصدق من الكذب، والهدى من الضلال، هو كتاب الله وحده كما تبين أن اتباع الأغلبية وطاعة الأكثرية العددية لا تقود إلا للضلال المبين كما نزل في جدال المعارضين المشركين قوله تعالى : {ومِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ في اللّهِ بغَيْرِ عِلْمٍ ولا هُدًى ولا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيل اللهِ لَهُ فى الدُّنْيَا خِزْيٌ ونُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيق}(الحج : -8 -9 10)، وهي آية تؤسس لمبادئ المنافسة الهادفة والحوار المفيد عن طريق التوعد على اضدادها المتمثلة في الجِدَال بغير علم ولا هدى ولا كتاب بقصد إضْلال الناس وصدهم عن الحق والالتجاء إلى التعنت في الحوار والاستكبار عن قبول الحق والاذعان له.
أليس هؤلاء أحق بهذا الوعيد؟ أليسوا شركاء أسلافهم في الجدل الباطل الذي لا يقوم على أساسٍ، ولا يرتكز إلى سند مقبول، فما هو العلم الذي يتبعون؟ وما هو الهدى الذي يدعون إليه؟ وما هو الكتاب الذي يستنيرون به؟
إنهم لا علم لهم ولا هدى ولا كتاب إلا توصيات الجمعيات اليهودية والصهيونية والمؤتمرات النسائية الملحدة، ولا هدف لهم إلا اضلال المرأة المسلمة، وإغراؤها بالتمرد على دينها والانسلاخ من هويتها والتنكر لحضارتها وقيمها، وجرها إلى الارتماء في أوحال الحياة الغربية التي سئمها أهلها.