أذكر أني حينما كنت تلميذاً بالمرحلة الثانوية، شرح لنا أحد الأساتذة مفهوم الثقافة مركزاً على أصل المصطلح اللغوي في العربية والفرنسية فقال : إن أصل المصطلح في العربية أقرب إلى المفهوم الذي أخذته الثقافة في العصر الحاضر مقارنة مع أصل المصللح في الفرنسية. ولم يُتح لي لحد الآن التأكد من ذلك بالرجوع إلى المعاجم، إلا أن المفهوم الذي ترسخ في ذاكرتي منذ ذلك الحين، كان يدفعني أن أنكر كل مرة أرى فيها استعمال المصطلح في غَيْر محَلّه، وخاصة حينما يصبح هز البطن والسقوط في الرذيلة وإدمان المحذرات ثقافة من الثقافات.
لكن الدلالة التي أطرفتني للمصطلح، إطلاقها على ما لجأ إليه حملة الشهادات المعطلون منذ سنوات، حينما أصبحوا يعتصمون في العاصمة، أملاً منهم أن يجدوا عملا يناسب الشهادات العليا التي حصلوا عليها.
وأطرف مما سبق هو تطور التعامل مع هذه الثقافة ما دامت ثقافة.. حينما اعتصم أول فوج هناك في العاصمة، كانت الإعانات تأتيه من الأحزاب والنقابات وحتى الحكومة التي أقامت على شرفهم في آخر المطاف عشاءً فاخراً.
ومن صور الدعم المعنوي التي تلقاها هذا الفوج الأول كلمة ناقشها أولئك المعتصمون الأوائل في ذاكرتهم نقاشا، تلك الكلمة التي تفوه بها أحد أقطاب المعارضة آنذاك حينما قال لهم : >أحيي فيكم ثقافة الاعتصام، لأنكم بثقافتكم هذه تجبرون الحكومة المسؤولة على أن تقتسم معكم الرغيف الذي انفردت به<.
ودارَ الزمان دَوْرَتَهُ، وأصبح القطب المعارض وزيراً مسؤولا عن المالية، في الوقت الذي توالت فيه أفواج المعتصمين، بعضها سيكمل قريبا السنتين، ومازالت الأعين مترقبة والآذان صاغية لدلالة ثقافة الاعتصام، وكأنه قد كتب عليهم أن يكون اعتصامهم ثقافة عامة للشعب المغربي، ستستمر ما استمر “إنتاج” حملة الشهادات.
التساؤل الذي يطرحه البعض وخاصة المعتصمين هو أنه إذا كان الاعتصام ثقافة مكتوبة مقدورة عليهم، فلماذا لا تكون الدلالة هي هي، لماذا لا يقتسم أصحاب القرار الآن رغيف الخبز مع هؤلاء المعتصمين كما كانوا ينادون قبل ذلك، أم أن القول غير الفعل وأن صنع المعارضة ليس كصنع القرار وتنفيذه وخاصة إذا تعلق الأمر بالمال.
إن “المجتمع المدني” الذي هو شعار الكل في هذه الأيام لا ينبغي أن تكون فيه “ثقافة الاعتصام” ولا ينبغي أن تنمّى وتُشَجع باغلاق أبواب الشغل أمام حملة الشهادات وإنما ينبغي أن تكون بذَل ذلك ثقافة إيجاد الشغل” لكل حامل شهادة إن لم نقل لكل مواطن، حتى نبني مجتمعا يجابه التحديات المعاصرة.