الافتتاحية : فلا نامَتْ أعْيُنُ الجبناء


كلمة خالدة، قالها خالد بن الوليد ] يوم حضرته الوفاة على فراش داره، وهو الذي كان يعتبر الوفاة على الفراش ذُلاًّ لا يليقُ بذوي الهِمَم العالية، من أصحاب الرسالات السامية، إذْ يعتبرون أن الحياة الحقيقية هي حياةُ القِيم والمبادئ، لا حياة الرَّتْع الرخيص كالبهائم، وهي كلمة أشار إليها أحد الشعراء القدماء حين خاطب نفسه قائلا : >يا نَفْسُ إن لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِي<.

فإذا كان الموت لا مَنَاصَ منه فمن العار أن يموت الإنسان جَبَاناً، ومن العار ألاَّ يُحْسِن الإنسانُ أفْضَل أنواع الموت المرضية عند الله تعالى وأفضل الأنواع -على الإطلاق- أن يموت الإنسان مُقْبِلاً على الله تعالى، راضيا بِبَيْعِ نفسه في سبيل الله تعالى، سواء في ساحات الجهاد بالنفس، أو بالمال، أو بالعلم، أو بالدعوة لرَصِّ الصَفِّ، أو بإطْفاءِ فتنةٍ، أو بمحْو جَهْل ومطاردة فَقْرٍ، أو بتَرْشِيد فَهْمِ شاردٍ، أو بتوعية غافِلٍ، أو بمكافحة فكرٍ قَاتِل… فكلُّ ذلك وأكثرُ من ذلك ميدانٌ من ميادين الجهاد المطلوب مَلْءُ فراغاتها بتخطيط ووعي وتجنيد. إلاَّ أن الفراغ الكبير المطلوب سَدُّه لفَتْح أبوابِ الأمَل والنهوض في وجه الأمة المكبَّلَةِ بمفاهيم الاسْتسلام والخضوع للظلم والتسلط.. هو فراغُ حُبِّ الاستشهاد في سبيل ثوابت الأمة وقضاياها الكبرى التي لا تقبل التنازل، ولا يَمْلك أحدٌ فيها حقّ التنازل مهْمَا علا منصبُه، لأن ثوابت الأمّة وقضاياها الكبرى حقٌّ مشترك بين جميع أفرادها وشعوبها، لا يحقّ لأحد الانفرادُ بالقرار فيها.

فمن يملك حقَّ التفريط في قضية القُدْس الشريف مثلا؟؟ ومن يملك حق التنازل عن قضية اللاجئين الفلسطينيين؟؟ ومن يستطيع إضفاء الشرعية على احتلال جزء من لبنان أو سوريا أو الأردن وغيرها من البلاد الإسلامية؟؟ ومن يَمْلك حقَّ التّفصِيل والتعديل لدِسَاتير وفْقَ الغرض في غَيْبَة تامَّةٍ.

هذه بعض المهازل فقط التي ينبغي لشعوبها أن تتجنَّدَ على اختلاف انتماءاتها- للقضاء عليها بحب الاستشهاد في سبيلها، فلا طريق لرَدِّ الحق إلى أصحابه، ورَفْع الظلم المحلي والدّولي عن الشعوب المظلومة الظالمة.. ولقد أعطانا حزب الله بجنوب لبنان درساً بليغا لمن أراد الصمود والثبات عن بَيِّنَةٍ ووعْي وبصيرة.

فعظمة الدرس ليست في النصر فقط، ولكن في الثبات الطويل والكيفية التي أدار بها المعركة الشرسة بدون تَرْك أي فرصة أو ثغرة يستغلها الخصم العنيد لإحداث الشرخ في الجسد الصامد، فتلك هي الحكمة، وتلك هي السياسة، وتلك هي القيادة، وتلك هي العبرة التي ينبغي أن تستخلص منها الشعوب والدول والأحزاب والجماعات الدروس في جميع المجالات، فالنصر ليس مستحيلا ولا بعيداً عن أيّة جهة عرفَتْ الأسباب الحقيقية للنصر، وعرفت الشروط الحقيقية للنصر. ولكن المشكلة العميقة هي الوقوف على سَطْحِ الظاهرة بدون إدْرَاك عُمْق المقدمات الضرورية للنتائج والثمار المجنيَّة.

إن الهزيمة ليستْ قَدَراً مقدوراً على الأمة التي تملك من وسائل النصر وأسبابه مالا يملك خصومها مِنْها إلا النَّزْر القليل، وأقوى شرط تملكه الأمة ولا يملكه خصومها، أن الله عز وجل معها بالنصر والتأييد، بَلْ أو جَبَ سبحانه وتعالى على نفسه نصرتها إن استجَابَتْ له ونصرتْ دِينَه، وأعْلَتْ كَلِمَتَهُ بين العالمين، فقال عز وجل {وكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُومِنِينَ}(الروم : 46)، فلا نامتْ أعْيُن الجُبناء ولا قَرَّتْ أعْيُن العملاء، وبارك الله تعالى في الشرفاء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>