تدعو الحاجة الملحة إلى الخروج من الحالة المتردية التي عليها الأمة الاسلامية قاطبة اليوم، والعبور الى المرحلة الأساس التي نجمعها في مفهومي الخيرية والشهادة على الناس؛ إلى تعميق النظر في الذات بما يكفي للوقوف على عوائق العبور، مع التأكيد هنا على ضرورة تقديم النظر في الذات كعامل من عوامل الاعاقة والارتهان والغثائية، بالرغم من معرفتنا الأكيدة بدور العوامل الخارجية في تعطيل فاعلية الذات واجهاض كل ما من شأنه تمكين الأمة من مداخل النهضة والتقدم، وفق ما تقتضيه الهوية والأصول والمرجعية؛ إذ غالبا ما يتم نسب مشاكلنا إلى الغير وهي حالة نفسية مرضية يصاب بها المرء من جراء احساسه بفشل قدراته على النجاح والنهوض؛ فيلجأ إلى الاسقاط والتبرير الخارجي لما يعيشه من احباط ونكوص.
من هنا كانت الدعوة، ولا تزال، مستمرة للبدء بخطوة النقد الذاتي الذي سيضع الذات أمام نفسها باستمرار في محاولة للعثور على مكامن الخلل الذي عطل فاعلية العقل وشَلَّ الذهنية، الشيء الذي انعكس سلبا على واقعنا من جهة، وواقع الدعوة من جهة أخرى، خاصة وأننا أمة رسالة سماوية كلفنا بتبليغها وتبيانها للناس كافة. فكيف نبلغ ونبين ونهدي، ونحن نعاني بشدة من العوائق الدعوية، التي لا تجعلنا نكون في مستوى الثقة والنموذجية؟.
الخلل إذن كامن في الذات، بل في النفوس بالتحديد، وما تغلبت علينا الأمم والشعوب الأخرى إلا عندما أصابنا الوهن وسيطرت علينا الشهوات وحب الدنيا وكراهية الجهاد في سبيل هذا الدين بالنفس والمال والعقل والفكر. فالنظرة السريعة إلى واقع حالنا المأساوي تشهد على حال الجبن الحضاري الذي أصيبت به هذه الأمة، مع العلم أنها تمتلك من المقومات البشرية والطبيعية ما يمكنها من احتلال مراكز القوة في النظام العالمي، لكن الخلل الذي أصاب حياتها من كل جانب، دفعها إلى التخلي عن مركزها الاشعاعي والاكتفاء فقط بدور التابع في زمن القمع الحضاري الذي تمارسه مراكز القرارات الدولية بزعامة اليهود والنصارى، الذين حذرنا الله جل جلاله في أكثر من موقع من مغبة الولاء لهم، لكننا ما اهتدينا بهديه عز وجل، فحل بنا ما حل من هزائم ونكسات وتراجعات، تنم في مجموعها عن فقداننا للعزة التي لا يمنحها الله عز وجل إلا للصادقين من عباده : {وللّهِ العِزَّةُ ولِرَسُولِهِ وللْمُومِنِينَ}(المنافقون : 8).
إن الدعوة إلى التمكين في الأرض من جديد لهذه الأمة، حتى تؤدي رسالتها الدعوية العليا، مشروط بشروط، وتلك سنة من سنن الله في خلقه، لعل في مقدمتها الايمان الصادق والعمل الخالص لله والجهاد في سبيله بالمال والنفس؛ ولذلك كان لابد من اعداد نفوس جيل المؤمنين الصادقين اعداداً يخلصهم من براثن الشرك وحب الدنيا، ويقودهم على التوّ الى العمل الصالح المستمر الذي به صلاح الدنيا والناس أجمعين، ولذلك كذلك كانت الدعوة الى تغيير ما بالنفوس استجابة وايمانا بحكمته جل جلاله {إنّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد : 11)، لما لهذه السنة الربانية من علاقة وطيدة بالتمكين؛ إذ يتطلب التغيير الخارجي تغييراً داخلياً، يتعلق بأعماق النفوس، يتم خلالها تصحيح العقيدة والسلوك النفسي ومجموع المفاهيم والتصورات والأفكار المغلوطة التي يشكلها المرء عن الانسان والحياة والدين والكون. انها بصيغة أخرى، دعوة إلى تحقيق نوع من الثورة النفسية والوجدانية، إذ لا يمكننا أن ننتصر في المعارك الكبرى ضد كل أشكال الظلم والطغيان والبغي إلا إذا انتصرنا على ما في نفوسنا من أمراض وأفكار وشهوات تقتل في المرء الفاعلية، ولنا، دائما، في السيرة النبوية خير الأمثلة على ذلك، إذ حرص الرسول على تكوين جيل القدوة والقيادة باعتماد وسيلة تغيير ما بنفوس الناس من انحرافات ومغالطات نتجت من جراء اتباعهم لسنن وتقاليد جاهلية ووثنية، وما انتصرت جيوش المسلمين إلا بعدما طلّق المحاربون شهوات الدنيا، واخلصوا النية في جهادهم وعملهم، وتلك هي أبرز مشكلة لازلنا نعاني من جراء غيابها في حياتنا وسلوكنا، الكثير من المشاكل والعوائق والأمراض فبالاخلاص التام يصدق انتماؤنا إلى هذه الأمة، وبه يكون ايماننا صادقا، وعلمنا صالحاً وجهادنا قويا ونصرنا محققا وارثنا للارض مكفولا مصداقا لقوله جل جلاله : {ولَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ}(الأنبياء : 105)، وقوله : {وكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المُومِنِينَ}(الروم : 47).
وبما أن لكل واحد منا نظرته بخصوص القضية المطروحة التي يجمعها السؤال (أين الخلل؟)، فإنني، ومن خلال المتابعة الدقيقة لحالنا، بل ومن خلال التجربة الذاتية، اعتقد أن الخلل موجود في النفس، إذ أصيبت نفوس الكثيرين منا بحالة فقدان المناعة من جراء الغلبة الحضارية لليهود والنصارى، والصدمة النفسية التي أحدثها تفوقهم المادي الذي اخترقوا من خلاله الأزمنة والأمكنة والثقافات والهويات. لكن السبب الحقيقي في فقداننا لهذه المناعة يكمن في تخلينا عن العقيدة الصحيحة، واستمساكنا بعقائد الصراع والتكفير والهجرة والانقسامية؛ تخلينا خلالها عن الجهاد من أجل الدين من أجل الجهاد عن التنظيمات والأفراد والأفكار، وتحولت قدسيتنا للعقيدة إلى قدسية الأشخاص، فأصيبت الأمة بخلل في النفوس وفقدت مناعتها العقدية لما أصاب تدين الكثيرين منا من تشويه وتحريف في الفهم، والتطبيق.
لذلك نؤكد، مع المؤكدين الذين يعانون، من جراء الفتنة التي أصيبت بها هذه الأمة، المرارة والمتاعب أن الخلل في النفس، وأن التصحيح يبدأ من النفس : تصحيح فهمنا لطبيعة علاقتنا بالاسلام، عقيدة وشريعة وانتماء، وتصحيح تطبيقنا له؛ فما أصابنا الانحراف واختلت سلوكاتنا إلا بعد اختلال فهمنا وتطبيقنا للمنهاج الذي ارتضاه الله لنا أول مرة، فتخلينا عنه وتمسكنا بمناهج زائفة أفقدتنا القدرة على الفهم والابصار، فكان من أخطر نتائج ذلك اختلال منهج حياتنا واتباع منهج الأهواء الذي لا يدفع إلا إلى الضلال، قال تعالى : {ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، إنّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}(القصص : 50).