-1 الملائكة جنود الله المطهرون يجب احترامهم إيمانيا سواء كانوا ملائكة عذاب أو رحمة :
انتقل بنا كتاب الله ونقلنا بسهولة إلى الحديث عن خزنة النار وهم الملائكة وأراد الله تعالى أن يعطينا من وصفهم ما يفيد أنهم قادرون على تنفيد الأمر الإلهي، غلاظ شداد، وأعطانا تعقيبا آخر وهو أنهم لا يفرطون ولا يتوقفون وأنهم في ذلك لا يجتهدون {لا يَعْصُون الله ما أمَرَهُم ويَفْعَلُون ما يُومرُون}.
هذا كله مدح لهم وثناء عليهم بالقيام بالواجب هذا لا يعني أبداً أن نأخذ من هذه الصورة صورة نحتقر بها الملائكة، إن هذه الصفات التي هم عليها وهم يعالجون عملهم هي الصفات التي جعلها الله تعالى من طبيعة المكان الذي هم فيه، ولو كانوا ملائكة رحمة لو صفهم الله بالرحمة وبالتلطف مع أهل الجنة مثلا. لكن هؤلاء ملائكة وظِيفَتَهُمْ أن يعاقبوا أهل النار، فوصفهم الله بالشدة وبالغلظة فقط، ومع ذلك يجب حفظ مراتب الملائكة، ويجب إنزالهم من قلوبنا ومن عقولنا مكان التبجيل الذي يجب أن يكون لنا نحو هذه الكائنات التي لها مكانة في معتقدنا، بمعنى أن هذه الصورة أوحت لبعض مرضى العقول ولبعض المنحرفين أن يتخذوا منها وسيلة للنكتة والضحك على الملائكة، وظهر عندنا شيء من القصص الفج المريض الذي يتخذ موضوعاً له حواراً مع ملائكة العذاب، وظهر عندنا شيء من القصص، وتعرفون أن بعض الأطفال المتدربين في الأدب قد كانوا يكتبون في بعض الجرائد قصصاً، مريضة جعلوا موضوعاتها بعض ملائكة القبر وقصة هؤلاء المتلاعبين معروفة.
إن مجال الملائكة مجال مقدس وهذا الوصف من كتاب الله تعالى لا يبرر أن يقوم الناس بانتهاك هذه الحرمات أو بتصوير الملائكة تصويراً يُنْزِل قيمتهم في قلوب المؤمنين، فالملائكة لهم حرمتهم العقدية والإيمانية.
وبلغ من مكانة الملائكة أن العلماء اختلفوا اختلافا واضحاً في أفضلية الملائكة على البشر، وقد كانت طائفة من المعتزلة والفلاسفة وبعض الصوفية قد قالوا بأن الملائكة يفوقون البشر في الفضل، لكن أهل السنة والجماعة يرون أن الملائكة مهما ارتفعوا فإن خواص البشر هم أفضل من خواص الملائكة، خواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، وهم المقدمون عن الملائكة، وهم بالأخص جبريل وميكائيل وإسرافيل، وهذا هو الذي مضى عليه أهل السنة والجماعة، وإن كانت طائفة أخرى قد قالوا بالقول الآخر، وسيقت في هذا أدلة كثيرة وكان في هذا المقام بحوث متعددة.
-2 الملائكة ليسوا إناثا ولا ذكوراً ولكنهم خَلْقٌ مجند للطاعة والتنفيذ بدون هَوًى :
وصف الله تعالى الملائكة بالغلظة والشدة في معاملة الكفار وهم أشداء أقوياء يستطيعون أن يحيطوا بهذا المكان الذي هم فيه، ويسيطرون عليه تمام السيطرة ولا يعجزهم فيه شيء، فمن هنا كانوا أشداء، ثم هم لا يتصرفون من عندياتهم، إنَّمَا هُمْ أَدَوَاتٌ وآلاتٌ لتنفيذ الإرادة الإلهية، وفيهم كل الصفات التي يجب أن تتوفر في من يقوم بهذا العمل. سواء في العذاب أو المراقبة كما قال تعالى: {وإن عليكم لحافظين كراماً كاتِبِين يعلمُون ما تفْعلون}.
فللملائكة في القرآن والسنة صفاتٌ متعددةٌ لو جمعناها لأعطانا ذلك وصفا للملائكة الإيمان به مِنْ صَمِيم العقيدة الاسلامية، لأننا لو تصورنا أن إنساناً آمن بالله، وآمن بالرسل، وآمن باليوم الآخر، وآمن بالكتب، ولكنه رفض أن يؤمن بالملائكة -كما وصفهم الله- فإن إيمانه ساقط، والمشركون كان من أخطائهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمان إناثا مع أنهم كانوا يكرهون الإناث لأنفسهم، ولهذا عَابَ الله تعالى عليهم ذلك، فقال : {ويَجْعَلُونَ للَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}(سورة النحل) يكرهون أن تكون لهم البنات ولكنهم مع ذلك يصفون الملائكة بأنهم إناث، وفي العصر الحاضر ربما نجد بعض الأشرطة الدينية أكثر ضرراً بالناس من الشركيات الجاهلية ومن الأشرطة الفاسقة، لأن أشرطة الفسق والفجور والرقص تعلم الانحراف في الجسد، أما الأشرطة التي تدُسُّ العقائد الفاسدة فهي أخطر وأبشع وأفظع، وهي تؤصل الكفر في نفس الإنسان، والإسلام ما جاء إلا لِيُنَقِّيَ ذِهْنَ الإنسان من الكفر، فبعض الأشرطة مثلا يتحدثون عن متصوفة هي رابعة العدوية، وأنها عاشت كذا وكذا من الخلاعة، ثم تابت وآخر ما يختمون به حديثهم ذلك في تمجيد رابعة أن يقولوا إنها ماتت، ويصوروا الملائكة ومجموعة من الفتيات أي مجموعة من الملائكة تأتي وتأخذ هذه الروح الطاهرة، روح رابعة العدوية، ويقرؤون حينئذ بعد هذا {يا أيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية}(الفجر : -30 31) وينفض الناس أيديهم ويخرجون، وقد نظروا شريطا دينيا، وهو شريطٌ أصَّلَ في آخر جزء منه الكُفْر، لأنه صَوَّرَ الملائكة بأنهم إناثٌ، معنى هذا أنه فَوَّتَ القضية التي أرادها في الأخير.
إذن فالملائكة ليسوا إناثاً ولا ذكوراً ولكنهم خلقٌ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون.
-3 الفرق بين الملائكة والبشر :
وهذا الوصف يعطيهم مزية أنهم ليسوا مفطورين على النحو الذي عليه البشر، البشر فيه مزية من العالم العلوي وفيه مزيج من العالم الدنيوي الأرضي، بمعنى أن للانسان أشواقاً علوية تُحلق به إلى العالم الأعلى، إلى عالم الروح وله كذلك مطالب جسدية، فهو يأكُلُ ويشرب ويتغذى، ويتلهى، ويستمتع، بما يستمتع به الطين فله طبيعتان : طبيعة طينية، وطبيعة روحية علوية ملائكية، فمن هنا كان الانسان كما لو كان يمضي على حَبْلٍ رفيع، وَيُفْرَضُ فيه أن يَمْضِي على الحبل ولا يَسْقُطُ، فهو تتنازعه مطالب متعددة، وبعض المرات إذا ضَعُفَ وقع في الخطيئة، وإذا قوي وقد عظمت نفسه اسْتَقَام على منهج الله. هذا فرق بين الملائكة وبين الانسان، الملائكة ليس لهم هذا الطبع أبداً، لذلك لا تتصور منهم المعصية مطلقا لانعدام داعي الشهوة لديهم، فهم من هذا الباب معصومون، ثم إن الملائكة لا تعتريهم الوساوس، فهم مكلفون بالعبادة، ويؤدون ما كُلِّفُوا به. أما الإنسان فإنه يتأرجح بين الصعود مرة والنزول مرة إذا غلبته شهوته وغريزته، وإذا لم يربّ تربية دينية فإنه يسقط وينزل إلى الطبيعة الأرضية، لكن هذا الانسان عبادته إذا عبد الله فإنما يعبده بالمجاهدة، وهو مأجور على ذلك، وهذا معنى التكليف، أي أنه يَعْبُدُ الله، يصلي ولا يجد في نفسه دائما القوة والدافع لأن يصلي، لكن مع ذلك يغالب شهوته ويقوم ويصلي، يُخْرِجُ الزكاة ومع ذلك يجد في نفسه من الشح ومن البخل ما يدفعه إلى ترك أداء الزكاة، ولكنه يغالب فإذا نجح فقد أطاع الله. إذن فالطاعة لا تأتي إلا بعد التغلب على داع شيطاني وإلاَّ بَعْد أن ينتصر على شيطانه.
هذا معنى التكليف بالنسبة للانسان. بالنسبة للملك ليس له هذا الأمر، بالنسبة للإنسان كذلك له خصوصية أنه يطيع الله تعالى عن السمع، فهو سمع الوحي يتنزل، وآمن بالله ونَفَّذَ. والملائكة لا يقع لهم هذا السمع قَطُّ وإنما تقع لهم المشاهدة، فهم يشاهدون الملكوت، إذا كنا نحن نؤمن بالجنة أو بالنار، أو بعذاب القبر، فالملائكة يعرفون ذلك، بل هم ينفذون ويقومون عليه، فكل ما هو بالنسبة إلينا -نحن- غَيْبٌ فهو بالنسبة للملائكة هو من قبيل المشاهدة، لذلك إيمانهم لا يمكن أن يتزحزح، ولا يُمْكِن أن يتأرجح، ايمان صُلْبٌ ثابت، لانهم يشاهدون كل هذه الأشياء التي نؤمن بها. أما الإنسان فإنما يسمع ويستدل ويَسْتَيْقِنُ، ويعبُدُ الله بناء على هذا الأمر، وهذا معنى الإيمان، نحن مؤمنون أما الملائكة فهم مشاهدون.
-4 الملائكة لا يجتهدون كالإنسان ولا يحتاجون إلى استنباط أمر أو حكم :
هذه الآية قصيرة في ألفاظها ومع ذلك سجلت أن الملائكة لا يجتهدون في استنباط الأحكام الشرعية. الملكُ تَصْدُرُ إليه الأوامر فينفذها، فعبادتُه عبادةُ امتثال وتطبيق لأمر الله، يؤمر الملك بأن يقبض روح فلان فيقبضه، يؤمر بأن يزجي السحاب فيزجيه، يؤمر بأن يُنْزل المطر فينزله، فما أُمِر به نَفَّذَهُ وانتهى الأمر. إذن فطاعته مأخوذة مما يصدر إليه، بالنسبة للإنسان فله أمر آخر، لأنه في موضع التكليف، فهذا الإنسان يعبد الله بالنصوص التي سمعها بالكتاب أو بالسنة، ولكن الأحداث كثيرة، والمستجدات كثيرة، والوقائع كثيرة، والزمن يتطور، وكل يوم تقذف في الحياة أشياء ومواقف جديدة، فالإنسان عليه أن يجتهد ليعرف وجه الصواب في هذا. فكان على الإنسانأن يستنبط ولذلك كان معظم الفقه الاسلامي هو فقهاً استنباطياً اجتهادياً، يجتهد من خلال الآيات من خلال الأحاديث، من خلال تحقيق المصلحة، من خلال جميع المصادر، التي نعرفها في أصول الفقه. فطاعتنا في الأعم طاعة اجتهادية. أما الملائكة فإن طاعتهم هي طاعة نَصِّيَّةٌ تصدر إليهم النصوص فيلتزمون بها، وهذا فرق كبير بيننا وبين الملائكة، بمعنى أننا في موضع الامتحان فعلا، لأننا نعبد الله بالإيمان وهم يعبدون بالمشاهدة، نعبد بالاجتهاد وبقراءة النص، وهم يطبقون النص، إن ايماننا تعتريه الوساوس وإيمان الملائكة لا تعتريه الوساوس، فهذا فرق بين عالم الانس وعالم الملائكة، وهذا العالم هو هكذا خُلِق، خلق بالقوة الضرورية التي تنفذ وينتهي الموقف عند هذا الأمر، هذا الأمر الذي ذكرت هو ما يجب أن نؤمن به في ما يتعلق بالملائكة.
-5 قوة الملك الروحية أقوى من قوة الإنسان المادية :
وترون أن الملائكة على عِظم المهام التي تُوكَلُ إليهم، نجد بعض الفقهاء القدماء أو بعض المفسرين يتساءلون كيف يكون الملك قويا وهو ليس جسما ماديا وإنما هو جسم نوراني؟؟، هذه أسئلة ممكنة حينما كان الانسان محدوداً في معارفه، وإلا فإن الكهرباء مثلا ليس جسما ماديا ومع ذلك فالطاقة الكهربائية لها قوة عظيمة جداً، فقد وُجِدَ أن فيها من القوة ما ليس في الأشياء المادية المألوفة، الطاقة الكهربائية الآن تُحَرِّك مثلا قطاراً يسْحَبُ وراءه مجموعة من العربات، في كل عربة، أطنانٌ متعددة من السلع والبضائع، إذن هذه الأسئلة كانت تمليها محدودية معلوماتهم.
هذا الذي كان يجب أن نعلمه عن الملائكة هو الذي أفادنا به كتاب الله عز وجل فبقي أن نحترم مقامهم وأن لا نتجرأ في هذا المجال، ولا نتخذه موضعا للسّخرية بهم، كما فعل بعض مرضى القلوب، وبعض أصحاب الأدب الضعيف، الذي دائما يعمد إلى المقدسات ليسيل بها اللعاب ويستجْدي بها العواطف. الملائكة ميدان محترم، مجالهم مجال المقدسات يجب أن لا يكون موضعاً للسخرية، وفي نفس الوقت كذلك يجب أن يبقى الملك حيث شاء الله له أن يكون، أي بمكانه وبحدوده، فليس إلهاً وليس متصرفا في الكون كما يشاء، ولا يمكن أن يُتَوَجَّه إليه بالعبادة، ولا يمكن أن ينادى، ولا يمكن أن يطلب من دون الله، فهم ينفذون أمر الله فقط، أما الذي يُدْعى، والذي ُتَمُّد له الأكف، والذي يَتَضَرَّعُ إليه الإنسان هو الله.
هذه حدود عقيدتنا، وهي عقيدة واضحة وجلية ولا تقبل الزيادة، ولا تقبل كذلك التنقص منها، هؤلاء الملائكة يمارسون مهمتهم يوم القيامة ويستقبلون المشركين {عليها ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يومرون}.
د. مصطفى بن حمزة