إنّ في سنّة الاختلاف بين الأجناس والأمم والمخلوقات عموما لحكمة إلهية يستنتج منها الكثير، وكذلك مداولة الأيّام بين النّاس ودورة الزمن، ووقوع بعض الأحداث التي تبقى مطبوعة في ذاكرة الزمن فتؤثر على ما يليها من شؤون حياة العباد وصيرورة التاريخ. وهكذا يمكن للماضي أن يؤثر في الحاضر فيحرِّفة أو يسدّده، وللحاضر أن يبعث المستقبل في وجهة أو في أخرى.
إن حدث الهجرة النبوية الموفقة من مكّة المكرمة إلى المدينة المنورة له من الأهمّية والوقع ما جعله يؤثر على حركة التاريخ الإسلامي برمته، بل على حركة التاريخ الإنساني بحكم موقع الاسلام في العالم وفي التاريخ. والسيرة النبوية كلّها دروس وعبر. وقد خلفت من التدوين والتصانيف والكتب والمؤلفات ما تنوء به الأحمال العظيمة. ولم يكن ذلك ركاما وترفا كما هوحال الإعلام الحديث في شتى مجالاته ومعه كثير من ثقافات العصر -حاشا وكلاّ- ولكن لعظم الرسالة المحمدية التي مثلها خاتم الأنبياء والمرسلين قوة وسعة. وهي الرسالة الوارثة المورّثة إلى يوم القيامة، لا ناسخ ولا معقّب ولا متمّم لها. لقد كانت جامعة مانعة. وكان في صاحبها المثل الأعلى والكامل. أمّا أحداث السيرة النبوية فجمّة غزيرة، وأهمّ هذه الأحداث كثيرة متنوّعة. وقد نذكر منها على سبيل المثال : نزول الوحي بغار حراء وبداية الدّعوة الخاصّة ثم الدّعوة العامّة والهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى الطائف والإسراء والمعراج فالهجرة إلى المدينة المنورة والمواثيق بها ومعركة بدر وحفر الخندق وصلح الحديبية وفتح مكة وغزوة تبوك وحجّة الوداع. وإن كان كلّ حادث من الحوادث والأحداث عامرا بالمواقف والملاحظات والأبعاد فإنّ لحدث الهجرة صورا ترى من زوايا متعدّدة منها التحوّل من مكان إلى آخر، ومنمواقف إلى أخرى، من مرحلة الدّعوة إلى مرحلة الدّولة، من ترسيخ العقيدة إلى تثبيت الشريعة، من القرآن المكي إلى القرآن المدني، من الاستضعاف إلى القوة، من تركيز الدّعوة في قريش إلى إشاعتها بين العرب.. ثم إنّ الهجرة لم تكن فقط انتقالا مادّيا بالأجساد والمتاع وحفاظا على الدّين والعقيدة وكفى، ولكن الهجرة كانت لها أبعاد نفسية ومعنوية ووجدانية وجهادية وغيرها. لكن حسبنا في هذا الموقف مع الهجرة ذكراها والتذكير بها وارتباط ذلك بتثبيت هوية المسلمين وسط ركام الوافد وغيابات الجهالات وقهر الأمم المتداعية وجلب الجاهليات على العالم الإسلامي برّا وبحرا وجوّا بسلاح النّار والحديد ونيران الإعلام والإعلان والدّعاية وثقافات التضليل والاستهلاك والتنقنيات والابتكارات البرّاقة، وجميع أساليب الفتنة والغواية والسيطرة والاستلاب.. حتّى أضحى كلّ قطر من العالم الإسلامي يحتوي من صنوف المسلمين شتّى الأنواع. وقد تشعبت بهم المناحي طرائق قددا وهم أبناء الدين الواحد والوطن الواحد وطن الاسلام واللغة الواحدة لغة الوحي وأحيانا المذهب الواحد، وفي أدقّ الحالات نجد الافتراق بين أبناء الأسرة الواحدة أو المسكن الواحد أو أصحاب الهمّ الواحد…
لقد أفلح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي جعل من فاتح محرّم يوما في كلّ عام للهجرة النبوية، وكان مستشاره الأوّل في ذلك الإمام علي كرّم الله وجهه، وهو المشير على الفاروق في عديد من الأفكار السديدة حتى قال عمر في شأنه : لا أبقاني الله لمعضلة لا أجد فيها أبا الحسن.
فتبْقَى هذه المناسبة وأمثالها مؤشرا فاصلا في التفوق الحضاري وإثبات الهوية أو الهزيمة الحضارية والتماهي في الآخر. لهذا فعندما كانت الأمة الإسلامية سليمة متحدة قوية كانت للمناسبات معانيها الحقيقية، فالصوم والحجّ والأضحية وعيد الفطر والأضحى.. وغيرها تؤدّى على حقيقتها بدون طغيان الأعراف والبدع بينما تبقى أعياد الميلاد والنيروز وغيرها ممّا يخص الديانات والأمم الأخرى خاصة بأصحابها لا تهمّ المسلمين في شيء. فلا يضايقونهم فيها ولا يقلدونهم، فحبّذا لو أن الهجرة وغيرها من المحطات تحيى بالدروس والمواعظ الخاصّة بالسنّة والسيرة النبوية والمغازي، وأن يركز على الطفل المسلم بهذا الرّصيد الذي هو في أحوج ما يكون إليه سواء في بلاد الإسلام التي تطغى فيها الأساليب الأجنبية ووسائل التحريف أو في بلاد المهجر حيث الأجيال اللاحقة مهدّدة بالاستلاب التّام. ولا نعدم وسائل في هذا الشأن من مساجد وجمعيات ونوادٍ ومدارس وصحافة، وتوجيه الآباء والأولياء.. والله المستعان.
ذ. عبد الوهاب الفُغري