إن الأسلوب الاستبدادي الذي تم اعتماده في التعاطي مع قضية المرأة والتنمية، والجهد الفكري والمضمون الثقافي الذين صيغت بهما الخطة كل ذلك ما هو إلا تعبير عن خلفية صراع الحضارات عوض حوار الحضارات التي تحكم النظام العالمي الجديد حيث يسعى المشروع الحضاري الغربي إلى فرض الدولة العلمانية كنموذج حضاري كوني، والعمل على نسف بنية الأسرة في المجتمع المسلم كمدخل استراتيجي لضمان أمن واستمرار قيام الدولة العلمانية وبالتالي المجتمع الليبرالي التابع للغرب. وكان الإجراء العملي الذي نلمس مظاهره حاليا هو العمل على استقطاب العنصر النسوي من خلال ستة قضايا : المرأة وحقوق الانسان، التعليم والصحة، المرأة والأسرة، الأمن الاقتصادي، دور القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية، المشاركة في صناعة القرار الاقتصادي والسياسي. وهي قضايا أمريكية جعلت محاور لمؤتمر بكين مرجعية الخطة الاساسية. ويمكن القول إن المرتكز الأساسي للمشروع المراد تنفيذه في البلاد هو الاقتصاد لا من حيث الأوضاع المتردية للمرأة في العالم الثالث ولا من حيث مفهوم التنمية ولا من حيث الأساس التنظيمي والتعبئة من جهة التمويل ولا من حيث المرجعية.
-1 الاطار العام للمشروع : المرجعيتين : الليبرالية/ الاشتراكية :
لابد في البدء من وضع القضية في سياقها الفلسفي والثقافي العام لتتحدد الخلفيات وتتضح المقاصد والغايات، إذ الحديث عن مشروع خطة عمل وطنية لإدماج المرأة في التنمية، يقتضي تحديد خطين ايديولوجيين :
- الخط الأول : الليبرالية العلمانية المادية كبنية تشريعية ترى في الفرد حجر الزاوية في هذا الوجود وتدير مفهوماتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية حول الفرد وحرية الفرد بمعزل عن القيم الدينية والانسانية في بعدها الشخصي والاجتماعي من هنا يمكن أن نستنتج حجم الخسارات والمفاسد الآيل إليها واقع هذا الخط ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
إن الليبرالية تحصر دور الدولة في الحفاظ على آليات السوق وتمنع كل تدخل اقتصادي خارج هذا الإطار كما أنها تحارب الديانات والمعتقدات لكونها تؤثر على سلوك الفرد، وتريد الفرد منغمسا كليا في السعي المفرط في إشباع حاجياته حسب ما يعرضه المنتجون في السوق(1). وبالتالي فلا مجال للاخلاق والمعتقدات ولا لأدبيات الاجتماع من أسرة وجوار ووطن. وعلى هذا الأساس الفلسفي ترتكز المواثيق الدولية التي خضعت لها الخطة.
- الخط الثاني : النخبة اليسارية كأداة تنفيذية خادمة :
الخط الثاني يرتكز على المادة والاقتصاد في تقييم وتفسير الظواهر وفي التغيير ويذهب إلى أن النظم الطبيعية والاجتماعية لا تستقر على حال بل هي في تطور مستمر فلا مجال ولا موضع للدين ومقتضياته التشريعية في عملية التغيير وفي حركة التاريخ، لأن كل تغيير في العالم إنما هو نتيجة حتمية لتغير وسائل الانتاج، والفكر والحضارة والثقافة هي وليدة التطور الاقتصادي أما الأخلاق فهي نسبية وهي انعكاس لآلة الانتاج، والصراع هو منطق التعامل مع الآخر.
- المشترك بين الخطين : إن الرابط بين الاتجاهين الذي يجعلهما في خندق واحد ما يلي :
احتلال موقع القرار + تقديس المادة + تبني العلمانية منهج حياة + معاداة التدين والدين الاسلامي + الايمان بالتحرر الفردي بعيدا عن قيم الاسرة والجماعة والجوار والأمة + الاستبداد بالرأي.
إلا أن هذا التحالف المستهدف لهوية المجتمع وخصوصياته سيعاني من عقبة كبرى وهي مقاومة الوجه الاسلامي متمثلا في علمائه وهيآته ومؤسساته وقواعده، وهذا هو الواقع حاليا وهذا ما عبر عنه صراحة الكاتب والصحفي الأمريكي أوبيروت برانجير بقوله : وسيزداد تعقيد العلاقات بين السلطات الدينية والعلمانية في النظام العالمي الجديد مع سعي الناس إلى العثور على الأجوبة لمشكلاتهم انطلاقا من موقف القيم الروحية أكثر من الايديولوجيات السياسية(2).
هذا هو الاطار العام -إذن- لقضية خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، وسأتناول فيما يلي جوانبها المادية الاقتصادية من حيث المال الاجنبي/ المال الشرعي/ المواليد والموارد/ المال والقرار :
أ- المال الأجنبي :
جاءت أول إشارة اقتصادية لتعبر عن مصدر تمويل الخطة بكلام واضح جاء فيها :
“تم إعداد مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية تحت إشراف كتابة الدولة المكلفة بالرعاية الاجتماعية والأسرة والطفولة بمساهمة من البنك الدولي..” وهي مساهمة مادية مربوطة بضرورة التزام القرارات والتوصيات المسطرة، ذلك أنه من المعروف في عالم السياسة والاقتصاد أن المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وهيآت المساعدات، تربط مساعداتها للدول والحكومات بإلزامها باتباع السياسات التي في غالبها ليست في صالح تلك الدول. فالمسألة إذن دعم مالي في مقابل الاستجابة للضغوطات جاء في ديباجة الخطة : يعد المغرب من بين الدول القليلة التي لم تخضع بنيات مناسبة، تستجيب لضغوطات المجموعة الدولية من أجل مؤسسة برامج ادماج النساء في التنمية.
ب- المال الشرعي :
في نظر الخطة أن سبب تردي وضع المرأة هو الفقر، لذلك لابد من اتخاذ اجراءات لتحسين وضعية المرأة المادية منها توزيع ممتلكات الزوج بعد الطلاق.
ومعلوم أن ما يتم اكتسابه أثناء الحياة الزوجية إما أن يكون بسعي كل واحد منهما، والحالة أن الذمة المالية لكل واحد منهما مستقلة عن ذمة الآخر فلا سبيل إلى اقتسام أملاكهما وإما أن يكون الزوج عاملا مشتغلا بالكسب والمرأة لا مال لها فإذا طلقها فلا سبيل إلى اعتبار أموال الزوج مشتركة فتقسم، وإما أن يكون للزوجة مال أو عمل يدر مالا وانتفع به الزوج وأداره وقام بتنميته وخلطه بماله وتملك أملاكا فالمال بينهما مشترك ويقسم بحسب ما أسهم به كل واحد منهما(3).
أما إطلاق الاقتسام عاما فلا يخلو من جور وأكل لأموال الناس بالباطل وتحريض على الطلاق وتنفير من الزواج.
وقد اطلعت على فتوى في الموضوع للفقيه عبد الكريم بن عبد السلام الحضري نقلتها بنصها وهي في مسألة : عدم استحقاق امرأة زرعا لم تقم بخدمته : ومن بني يزيد الخمسية امرأة طلقت بعد حرث الأرض ولم تقم فيها بأي عمل بعد ذلك، ولما جمع مطلقها غلة تلك الأرض قامت تطالب بحقها فيها، وفي ذلك قال : الحمد لله، الجواب، والله الموفق بمنه إذا لم تخدم زوجة السيد عبد السلام ابن الحسن الزكلي الزرع الذي حرثه زوجها المذكور، فلا تأخذ منه الآن -وهي مطلقة- شيئا ولا يأخذ نصيبه منه إلا من حرثه ونقاه، وحفظه من الرعاية وحصده ونقله للأندر، ودرسه، هذا الذي عليه نصوص أئمة المذهب. وعليه تجري النازلة المذكورة(4).
نفهم من هذه الفتوى أن الاقتسام والاستفادة من الثروة مقيد بالعمل وبذل الجهد. وهذا الحكم ينطبق مع روح الشريعة وفلسفتها في تدبير الشأن المالي من حيث جعل الحصة أو الأجرة أو النصيب المالي في مقابل جهد وليس بالبطالة وبغير عمل، وهذا كما ينطبق على سائر الناس في المجتمع ينطبق أيضا على المرأة والرجل الزوجين.
جـ- إشكالية المواليد والموارد :
أشارت الخطة إلى مسائل تتعلق بالصحة الانجابية خصوصا ما جاء في الصفحة 172 :
المسألة الأولى : تنويع وسائل منع الحمل، الحث على استعمال وسائل ذات المفعول على المدى الطويل، التوزيع المجاني في الوسط القروي، ضمان تموين وتمويل قارين لوسائل منع الحمل.
المسألة الثانية : ضمان وسيلة التمويل القار لتوزيع العازل الطبي بأرخص الأثمنة. إن هذه الاجراءات لا يمكن فهمها إلا في سياق المرجعية الحداثية الغربية بالأساس والتي تتحرك بدافعين في اتجاه الحد من النسل في غير بلادها أي دول العالم الثالث خاصة الاسلامية منها.
الدافع الأول : اعتماد نظرية مالتوس التي تربط بين عدد السكان والموارد الغذائية في العالم، ذلك أن عدد السكان يتزايد وفق المتوالية الهندسية (-1 -2 -4 ..8) في حين أن زيادة الموارد الغذائية تتم بموجب المتوالية الحسابية (-1 -2 -3 ..4) مما يدل على وجود خلل بين الزيادتين يهدد ساكنة الكرة الأرضية، ودعا القس روبرت مالتوس إلى اتخاذ اجراءات للحد من النمو السكاني بما يحقق التوازن من خلال تأخير سن الزواج وضبط الاتصال الجنسي، ومما يساعد على ذلك أيضا الحروب والكوارث الطبيعية، وهذا ما يفسر ما قامت به الأمم المتحدة من نشر لمعلومات احصائية تؤكد أن جداول القياس أشرت لخمسة بلايين وخمسمائة مليون انسان حتى نهاية عام .1993 وأن هذا الرقم يرتفع مع نهاية القرن العشرين ليصل إلى 6 بلايين و250 مليون انسان تضمهم المعمورة. وبرغم الاجراءات التي يمكن القيام بها لضبط التزايد فإن العدد مرشح لأن يتضاعف خلال العقود الخمسة المقبلة مرة ونصف وسيشكل هذا التطور “كارثة” لعدم ايجاد التوازن المطلوب بين البشر فوق الأرض والموارد الطبيعية فوقها وفي الباطن(5) لكن هذا الطرح يتناقض مع الرؤية الاسلامية ويكفي أن نشير إلى ما ذهب إليه العلامة المسلم ابن خلدون من أن زيادة حجم الجماعة القبلية أو الأمة يزيد من فرص التخصص ومن ثم استغلال الموارد بصورة أفضل واقامة علاقات تبادل أوسع. ونشير هنا إلى أن مضامين تقارير التنمية البشرية في العالم تحدد الأسباب الحقيقية للفقر في الدول النامية فيما يلي :
-1 عدم قدرة الدول النامية على التحكم في مجريات التجارة الدولية.
-2 مشاكل أكثر خطورة كالحروب الأهلية والمجاعات والأوبئة والتصحر والجفاف.
-3 مشاكل خاصة بعدم استخدام الموارد الاستخدام الأمثل.
-4 دور المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في السيطرة على اقتصاديات هذه البلدان من خلال ربط مساعداتها بإلزامها باتباع السياسات الاقتصادية التي قد تكون في أغلب الأحيان في غير صالح البلدان النامية، والتي ينتج عنها خلل في توزيع الموارد الداخلية وضآلة الاستثمارات الخارجية العمومية والخاصة(6).
الدافع الثاني : الخوف من خطر “الأسلمة”، فيعمل الغرب جاهدا لفرض رؤيته الخاصة بالقضية السكانية على البلاد الاسلامية بالضغط والاغراء من خلال طرح القضية في سياق التنمية، وربط التقدم الاقتصادي والازدهار بانخفاض النمو السكاني وتقليل عدد السكان، في حين أن الخلفية الحقيقية تتحدد في قصد نسف المرتكز البشري الاسلامي وإضعافه باعتباره محل المشروع الحضاري الذي يشكل تحديا للغرب. ولقد كان مدير المركز القومي للدراسات السكانية في باريس كلود شيز نيز صريحا للغاية إذ حذر من أن أوربا يتهددها خطر “الأسلمة” و”الأفرقة” في اشارة إلى تزايد عدد المسلمين والافارقة، فالمسلمون وفق تقرير مكتب الدراسات السكانية في واشنطن، يمثلون 25% من سكان العالم في العام 2025م(7)، وهذا ما يفسر سياسات الحد من النمو السكاني.
د- المال والقرار :
أشارت الخطة إلى أن حالة التردي لأوضاع المرأة سببها الرئيسي “الفقر المتزايد الذي يؤثر على حياة أغلبية سكان العالم ولاسيما النساء والأطفال، والناشئ عن أسباب وطنية ودولية”، لذلك لابد من “ضمان وصول المرأة على قدم المساواة إلى الموارد الاقتصادية” لأن ذلك أساس التنمية المستديمة. وهذا ينسجم مع الرؤية العامة للخطة إذ جعلت من الأهداف الاستراتيجية في المجالات ذات الأولوية : الاندماج في التنمية الاقتصادية. ربما أن الوضع الاقتصادي يتحكم في القرار السياسي فلِمَ لا تصل المرأة إلى موقع القرار الذي هو رهين بارتفاع وضعها الاجتماعي الاقتصادي المادي أساساً. وهذا الربط واضح في هذا النص “إن تغييب بعد أهمية الموارد اللامادية (الاستقلال الذاتي، القدرة على أخذ القرار على مستوى الأسرة والجماعة) يؤدي إلى فشل هذه المشاريع وإلى تقليص احتمالات استمراريتها وديمومتها. ويمكن تسطير هدفين لهذه المشاريع : الرفع الحقيقي من مداخيل النساء (مقاربة السوق). وتدعيم استقلاليتهن ومركزهن في مجال اتخاذ القرار على مستوى الاسرة والجماعة (مقاربة التمكين الذاتي للنساء)”. إن المسكوت عنه فيما يبدو لي هو المطالبة بمجتمع نسائي إذ القضية هنا هي قضية ذوات نسوية لا قيم ومعارف سامية، بما يتجه وجهة عنصرية. إن تذويب الفوارق الطبيعية أمر خطير في عملية توزيع الأدوار، كيف لا تراعى الخصوصيات النفسية والفسيولوجية في تقسيم الأعمال والتخصصات، ولا أجد لذلك إلا تفسيرا غربيا يرى أن الانسان الأمثل والنموذج هو الرجلفلابد لكل أجناس المجتمع من السير على هذا المقياس والمعيار. فالمرأة يجب أن تنحو منحى رجوليا، كما يمكن تفسير هذا المعطى تفسيرا طبقيا عنصريا صراعيا يرنو تفجير خلية الأسرة بإحداث التنازع على موقع القرار بين الرجل والمرأة ولا توجد مؤسسة تسير برأسين، وهكذا دواليك.
ذ. محمد الحفظاوي
——–
(1) موضوع إدماج المرأة في التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر للدكتور لحسن الداودي من كتاب المرأة والتنمية بين الأصالة والتغريب، اصدار حزب العدالة والتنمية الطبعة الأولى رجب 1420هـ/أكتوبر 1999 ص : -45 .49
(2) جريدة عكاظ، عدد 10242 بتاريخ .1994/8/23
(3) المرأة بين أحكام الفقه والدعوة إلى التغيير : د. عبد الكبير العلوي المدغري ص .197
(4) فتاوى تتحدى الاهمال، محمد الهبطي المواهبي : 305/1، .306
(5) المؤتمر الدولي للسكان والتنمية.. لحسن آل بلال من مجلة العالم ع 523 ص 23 : أكتوبر 1994، جمادى الأولى .1415
(6) قضايا دولية، عدد : 251 سنة 1994، ص .23
(7) مؤتمر السكان ونصيحة الشيطان للانسان د. زيد بن عبد المحسن الحسين.