الـدعـوة الاسـلامـيـة و”النُّـسْـكُ الأعوجـمـي”


في دنيا ما انفكت تستبدل قيم الدين بمستهلكات الطين بأشكالها السحرية السرابية المتعددة ومنها رايات العولمة والشرق-أوسطية والعرقية والحزبية والطائفية… وفي عالم كان ولا يزال وسيبقى لا يعرف لغير منطق القوة بديلا سواء كانت هذه الأخيرة زوجاً للحق أو خليلة باطل.. وفي أرض ضاقت على الناس بما رحبت وعجزت فيها آلات “الخبراء” عن إدراك وإحصاء -فكيف بعلاج- ما ينتاب النفس البشرية في طبقاتها الأرضية السفلى من حيرة وتقلب وعبث وانهيار وتناقض وصعود إلى قِمم المآسي ونزول إلى جحيم اليأس وما بين هذه الحالة وتلك من مسافات وأودية وصحار وساعات مخضرمة تجمع بين الضياء والظلام والشمس والمطر والعنف واللطف.. وفي عالم يترجم لسانه الإعلامي بعض ذلك بأرقام صامتة وعناوين جامدة عن الفقر واستئصال قوم آخرين وإحلال ثقافات محل أخرى ناهيك عن الإيدز والسرطان ومستويات التلوث والطلاق والانتحار والعنوسة والأمية والتصحُّر.. المتزايدة الارتفاع.

في وضع دنيوي وضيع كهذا كان لزاما أن تكون الدعوة الاسلامية -حيثما وجد مسلمون- رحمة مهداة للناس وبلسما لجراحهم ومناعة لأجسامهم وأرواحهم وجبراً لمنكسرهم وتطبيبا رفيقاً لمريضهم ومرافقاً حنونا نحو الرفيق الأعلى للمزمن من مرضاهم، تُعلّم الجميع كتاب الله وتَبْلُغ في بيانها لَهُ مبْلَغَ إفْهَامِ العامَّةِ مَعاني الخَاصَّةِ.. فتملأ أعين الناس جمالاً، وآذانهم بياناً.. ولعل السبيل الوحيد للتحليق بالدعوة وأمتها نحو هذه الآفاق الواسعة الرحبة هو تجاوُز كل الاشكالات السياسية أو “السياسوية” كما يرد في اللغة المستعملة، ورَفْعُ الآذان بجميع المكبِّرات البشرية والتكنولوجية أن :

- حيّ على التربية والتعليم والتكوين والتهذيب.

- حي على العمل الخيري في أوساط المستضعفين.

فهما خير العمل، وهما الأساس، وهما الأصل، وهما “الصناعة المصَنِّعة” وهما القاسم المشترك بين عقلاء أهل القبلة، وبهما يتم إلجام الغلاة والمقصرين، ممن اشتغلوا وشغلوا غيرهم بالتكفير والتفسيق والتبديع وإحياء جدل الفرق والإفتاء بسيرة ذاتية أمية C.V. d’analphabète وإضاعة الطاقة البشرية في الجزئيات وتقديم ما حَقُّهُ التأخير وتأخير ما حَقُّهُ التقديم والنظر إلى الأمة والبشرية بنظرة الداعية الرحيم، البعيد النظر، المستعلي الفهم، الذي يفهم هو وحزبه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بـ”فهم السلف” دون غيره من المخالفين، وكأني بالوحي الإلهي تجمَّد فهمه وعطاؤه منذ القرن الأول ولم يعد متجدداً متفاعلا مع كل عصر ومصر بما يناسبهما من أسئلة وتحولات وتغيرات وفتن وابتلاءات..

إن واقع الناس اللامحدود من حيث إدراك حقائقه وظواهره وأبعاده ومظاهره وتطوراته والمؤثرات فيه لا يمكن أن تسمعه مقولات قوم أفضوا إلى ربهم سبحانه وأصبح بذلك مجالُ انتاجهم محدوداً بحَدِّ الموْت، محصوراً في تاريخيته Historicité محشوراً في ماض لا يتكرر مهما ادّعى المدّعون خلاف ذلك.. وحين نقول هذا الكلام فاننا نميز تمييزاً حاسما جازما حازما بين تراث الاسلاف المحدود على غزارته وفوائده والوحي الالهي الذي يتجاوز ويستوعب كل الزمان والمكان والانسان..

في مجلس من المجالس الإيمانية حضرتُهُ بديار الافرنج سألني شاب من الجيل الثاني عن الشيخ السعودي الراحل محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، وكان في سؤاله بعض الحدة وفي يده ترجمة رسمية سعودية بالفرنسية لحياة الشيخ وسيرته.. فقلت له بهدوء وسكينة إن الحديث عن أبناء الجيل الأول من المسلمين وهم من هم بصحبتهم الصحيحة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى حدّةٍ أو تشنج أو دفاع في غير محله فكيف بمن جاء في القرون المتأخرة.. ثم إن “الجيل الثاني” هنا أحوج ما يكون إلى معرفة القرآن والسنة ولغتهما فإذا تمَّ له ذلك وتحقق ونبغ في دراسته الجامعية وتعمَّق جاز له الاطلاع على مسيرة حركات وأئمة الإحياء والنهضة والتجديد وهم أحيانا بالعشرات في كل قرن وفي كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي الكبرى (العالم العربي، الدائرة التركية، الدائرة الفارسية، المجموعة الهندية..الخ..).. وقلت له بأن “المنهج السلفي” يقتضي دراسة قصص الأنبياء عليهم السلام وسيرة خاتمهم أولا ثم سيرة الأئمة من الصحب والتابعين ثم الذين يلونهم إلى أن نصل إلى عصر محمد بن عبد الوهاب.. وعكس ذلك نُسك أعجمي.. قال : وما النُّسك الاعجمي؟ قلت: “قال الأصمعي : قيل لسعيد بن المسيَّب رضي الله عنه : ها هنا قومٌ نُساك يعيبون إنشاء الشعر، قال : “نسكوا نُسْكا أعجمياً”(1).. وكل منهج مقلوب في فهم الدين واتباعه فهو “نسك أعجمي” قد تسلم نوايا أصحابه من النقد دونأعمالهم، “ولله عاقبة الأمور”.

د. أحمد البدوي

——————–

(1) ذكره أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في “البيان والتبيُّن” الجزء الأول، ص .202

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>