مشروع ميثاق التربية والتكوين وفلسفة التربية


لقد بات من الأمور البديهية في عالم التربية والتعليم، أن أي نظام تعليمي تربوي لابد أن يقوم على أساس رؤية للإنسان والكون والحياة، وهذه الرؤية هي ما اعتاد أو اصطلح علماء التربية في العصور الحديثة أن يطلقوا عليها “فلسفة التربية”، وهي لب كل نظام تربوي والإطار المرجعي الذي تُصاغ في ضوئه معالم النموذج البشري المنشود إخراجه، وتحدد معايير الضبط والتقويم الكاشفة عند مدى النجاح في تحقيق ذلك، أو عن عدم التوفيق في ذلك.

إن أول سؤال يَطرح نفسه على كل قارئ لـ”مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين” هو : أيُّ رؤية تربوية تحكم هذا الميثاق، وتنظم أجزاءه ومكوناته؟ وما مدى وضوح معالم هذه الرؤية الفلسفية؟ وإلى أي حد تتجلى تلك المعالم على مستوى مفاصل ميثاق التربية والتكوين، أو دعاماته ومجالاته -وهما المصطلحات المستعملات في “المشروع”- وإذا عبرنا بلغة أعضاء الجسد نقول : إلى أي حد تسري روح الرؤية المصرح بها، في أوصال مشروع الميثاق، وتجري دماؤها في شرايينه؟ وبأي نسبة أو مقدار؟

ü وقبل البدء في تقديم معطيات الإجابة على هذه التساؤلات، يقتضي مني المقام أن أؤكد على حقيقتين أساسيتين، تنبني إحداهما على الأخرى، وأن أكشف ثانيا وبتركيز، عن ملامح فلسفة التربية الإسلامية.

أمّا الحقيقة الأولى فمفادها أن تأسيس النظام التعليمي أو التربوي على الرؤية الفلسفية التي تعتنقها أمة من الأمم، وتنطلق منها في تفسير الوجود والتعامل معه، لابد أن يكون قوامها التميز والأصالة والتعبير الصادق عن شخصية تلك الأمة -وهذا على المستوى العادي السطحي- وإلاّ فإن منطق الحق يقتضي أن تكون الرؤية معبرة عن منطق الفطرة وجوهرها الموصول بحكمة خلق هذا الكون وتكليف الإنسان بأمانة الاستخلاف فيه -لأن ذلك التعبير هو عينه عنوان سيادة الأمة، وبدونه ينعدم معنى السيادة ويحل محله التلاشي والذوبان والضياع.

وأمّا الحقيقة الثانية فهي أن الرؤية الفلسفية المعبرة عن شخصية الشعب المغربي، هي فلسفة الإسلام، أو فلسفة التربية الإسلامية، التي إن وقع تجاوزها أو الإخلال بمقتضياتها -أصيبت السيادة في مقاتلها، وفقدت الأمة لُبَّها وجوهرها، وصارت تابعة لغيرها ملحقة به، وذلك هو الانتحار الحضاري إذا نسب إلى الذات والإبادة الحضارية إذا نسبت للقوى الخارجية المتربّصة بالذات.

وبناء فلسفة التربية الإسلامية يقوم على خمسة أركان تجسدها خمس علاقات تحكم حركة الإنسان الفكرية والسلوكية، وهي :

أولا : علاقة الإنسان بالخالق وهي علاقة عبودية.

ثانيا : علاقة الإنسان بالكون وهي علاقة تسخير.

ثالثا : علاقة الإنسان ببني الإنسان وهي علاقة عدل وإحسان.

رابعا : علاقة الإنسان بالحياة وهي علاقة ابتلاء.

خامساً : علاقة الإنسان بالآخرة وهي علاقة مسؤولية وجزاء(1).

وإذا كان المقام لا يتسع لتفصيل القول في كل هذه العلاقات، فإن تناول العلاقة الأولى ببعض البيان، يساهم في الكشف عن أبعاد ومقاصد العلاقات الأخرى، لأن العلاقة بين الإنسان والخالق كما يحددها الإسلام تمتد بظلالها على بقية العلاقات، على اعتبار أن العبودية أو “العبادة” في فلسفة التربية الإسلامية لها ثلاثة مظاهر رئيسية : مظهر ديني ومظهر اجتماعي ومظهر كوني”(2) وكل من هذه المظاهر، رُصد له ضمن النسق القيمي الإسلامي توجيهات وتطبيقات تعبر عنه وتعكس مضمونه ومقاصده، مما ينبغي لمنظومة التربية والتكوين أن تمرره إلى نفسيات المتعلمين وعقولهم بشكل فعال ضمن خطاب منهجي قوامه الخصوبة والتنوع والانفتاح على قدرات المتعلم وإمكانياته.

ويجدر التنبيه هنا إلى أن مما يهدي إليه النظر العميق الراشد أن علاقة العبودية و”هي كمال الطاعة للّه بسبب كمال المحبة والرجاء والخوف”(3) تظل صمّام الأمان في النظام التربوي الذي ينشد التنامي والتوازن والاستقرار، وإنّ ممّا أصبح معلوما لدى الدارسين بالضرورة -أيضا- أن تطهير البيئة بجميع أبعادها الفكرية أو المعرفية والسياسية والاجتماعية، يعتبر عنصراً ضرورياً ولازماً ضمن بنية المفهوم العام لفلسفة التربية التي تقوم على مذهبية الإسلام، أو أي مذهبية تلتقي معه في هذه النقطة، بفعل اعتناقها لحقائق مبرهنة كشف عنها البحث العلمي في مسيره الطويل.

ü إن هذه الحقيقة تدفعنا، ونحن نتناول بالتحليل نظام التربية والتكوين من منظور فلسفة التربية، إلى أن نطرح السؤال التالي : “ما واقع بيئة أولاد المسلمين (المستهدفين بالنظام التعليمي في المغرب) وما آثار هذه البيئة في نموهم العقلي والخلقي؟ ما آثار البيئة العائلية؟ أو البيئة السياسية؟ أو البيئة الاقتصادية الاجتماعية؟ ثم كيف يجب أن تتطور هذه البيئة في مجالاتها المختلفة لتكون أكثر ملاءمة للعقلية والخلقية الملائمة للفطرة؟”(4).

ويجدر التنبيه من جهة أخرى إلى أن النظام التعليمي، إمّا أن يكون أميناً لما التزم به من قيم وثوابت مصرح بها، وإمّا أن يخلّ بها جزئيا أو كلياً. وهذا بغض النظر عن مصداقية تلك القيم والثوابت وملاءمتها للفطرة. ونحن نتساءل في ضوء هذا المعطى عن طبيعة المبادئ والمرتكزات المصرح بها، ما مدى توفرها على شرط الصواب أولا، وما مدى انعكاسها وتجليها على مكونات الميثاق ثانيا؟

ü انطلاقا من مرجعية المقدمات السالفة الذكر، ومن كون المنظومة التعليمية ممثلة للرحم الثانية التي تتخلق فيها شخصيات أجيال الناشئين، سأقدم فيما يلي نظرات نقدية تحليلية للميثاق الذي نحن بصدد مدارسته، محاولاً كشف واستخلاص الرؤية النظرية التي تنتظمه ، وبعض مرتكزاتها المفاهيمية، ورسم صورة تقريبية عن المخرجات التي يسفر عنها تطبيقه بطبيعة مدخلاته وجهازه المفاهيمي وأهدافه المعلنة وغير المعلنة.

وسوف أنهج لذلك الخطة التالية :

-1 الميثاق والمرجعية.

-2 الميثاق واللغة.

-3 الميثاق والنظرة إلى الدين.

-4 الميثاق والنظرة إلى المحيط (البيئة).

-5 الميثاق والنظرة إلى التنمية.

-6 الميثاق والتربية البدنية والرياضية.

-7 الميثاق ومراجعة البرامج والمناهج.

-1 الميثاق والمرجعية : ينص المشروع في القسم الأول : “المبادئ الأساسية” على أن نظام التربية والتكوين ((يستنير(…) بمبادئ العقيدة الإسلامية، إيماناً وعملاً لتكوين المواطن الصالح المصلح المتزن، المتصف بالاستقامة والاعتدال والتسامح، الشغوف بطلب العلم والمعرفة في أرحب آفاقهما، والمتوقد للاطلاع والإبداع، والمتسم بروح المبادرة الإيجابية والإنتاج النافع))(ص 3). لقد كان بإمكان القارئ لمشروع الميثاق -لو وقف عند حد هذه الفقرة الأولى-، أن يخرج بانطباع إيجابي يُخلف لديه اطمئناناً بأن فلسفة التربية الإسلامية، مجسدة في ركائزها الثلاث : الإيمان والعمل والخلق، هي التصور المحركُ والمتحكمُ في منظومة التربية والتكوين، الضابطُ لميكانيزمات اشتغالها ونشاطها. ولكن سرعان ما يتلاشى هذا الانطباع بمجرد التقدم في قراءة “المشروع”، إذ أنه سيجد دعوةً لتأصُّل ((النظام التربوي في التراث الحضاري والثقافي للبلاد، بتنوع روافده الجهوية المتفاعلة والمتكاملة))(ص 3) ودعوةً لانفتاح المجتمع ((على معطيات الحضارة الإنسانية العصرية وما فيها من آليات وأنظمة تكرس حقوق الإنسان وتدعم كرامته))(ص 3) فغير خاف ماتحمله العبارة من إمكانية للتأويل المتعدد الأوجه نتيجة لغموضها وطابعها الفضفاض، وما تحمله العبارة الثانية من نزعة ولائية لمرجعيات أخرى مع المرجعية الإسلامية، وفي ذلك ما فيه من اعتقاد ضمني بعدم كفاية المرجعية الإسلامية كمصدر لتمتيع الإنسان بحقوقه وكرامته، بما يستتبعه من نفي لقداسة الإسلام وكمال منهجه التشريعي. وممّا تحتمله هذه العبارة أيضا الشعور بالانبهار والدونية إزاء النموذج الغربي…

إنّ المشكل في هذه النقطة، المتعلقة بفلسفة التربية، ليس كامنا -فحسب- في غياب الانسجام بين تصورات ملتزم بها في ديباجة المشروع، وبين مكوناته وعناصره ومجالاته، وإنما هو كامن في مكونات التصور ذاته كما هو واضح، وستتبين أوجه التناقض بين أولى المرتكزات التي سميت بالمرتكزات الثابتة، وبين مضامين المشروع تباعاً، بشكل يبعث على الاستغراب والحيرة، بل وعلى الريبة -أيضا- تجاه من تواضعوا وتواطأوا على تقديم هذا المشروع للشعب المغربي مسربلاً بصفة الوطنية، ومرد هذه الريبة إلى وجود جيوب خطيرة تتخلل المشروع تؤول في نهاية المطاف إلى نسف الأساس الأول الذي يتربع في صدر المشروع، مما يقوم برهاناً على أن الأمر لا يتعلق بالتزام صادق وجادّ، بقدرما هو متعلق بتصريحعابر للاستهلاك، أو لتحقيق توازنات وهمية ليس إلاّ، فرضتها لعبة التنازلات، وهي حتى بهذا الحساب تعتبر قسمة ضيزى، على حساب فلسفة التربية الإسلامية التي من المفروض أن تمتد بظلالها وإيحاءاتها ومقتضياتها في هيكل المشروع ومفاصله جملة وتفصيلا.

-2 الميثاق واللغة : وردت الإشارة الأولى بصدد موضوع اللغة في السطر الثالث ضمن المرتكز الثاني، حيث يُفترض من المواطنين أن يكونوا متمكنين ((من التواصل باللغة العربية لغة البلاد الرّسمية تعبيراً وكتابةً))(ص 3) غير أنّ هذه الإشارة لم ترد متلبسة بأي تعبير أو نعت يتعلق بحمولة اللغة العربية، الدينية وبمحتواها الحضاري، الأمر الذي لا يؤدي وصفها بـ”لغة البلاد الرسمية”. ألم يعتد المغاربة، وهم يتحدثون عن اللغة العربية أن ينعتوها بلغة القرآن؟ أو لغة الحضارة أو ما شاكل ذلك؟! ووردت الدعوة إلى ((تجديد تعليم اللغة العربية وتقويته)) في سياق عناصر الدعامة التاسعة تحت عنوان : ((تحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها وإتقان اللغات الأجنبية والتفتحُ على الأمازيغية))(ص 36)، إن الكلام الوارد في هذه الدعامة لا يجسد الطموح الوطني المزعوم لتعزيز اللغة العربية واستعمالها في مختلف مجالات العلم والحياة، كما هو مثبت في نفس الصفحة، وفي مستهل الدعامة بالذات، لأن محاصرتها وسط حشد من اللغات الأجنبية مُيزت في الميثاق باعتبارها لغات تعليم العلوم والتكنولوجيا، يجعلها في وضعية صعبة ويضيق مجال حركتها، ويشل قدرتها على النمو وتوسيع الآفاق.

إن اللغة العربية -ولست معنيا في هذه الورقة باستقصاء كل ما يتعلق بها من إشارات في الميثاق- بل بالنظر إليها من زاوية كونها عنصراً لازماً في نسيج الفلسفة التربوية الإسلامية، من حيث إنها مفتاح فهم الخطاب القرآني وكشف رموزه ودلالاته، قلت إن اللغة العربية كما هي متحدث عنها في المشروع لا ينظر إليها بتاتا -كما ينبغي ذلك- باعتبارها من لوازم التصور المبدئي أو الجهاز المذهبي الذي يخلق بالميثاق أن يقوم عليه ويستند إليه.

-3 المشروع والنظرة إلى الدين : إذا كان المفروض، بمقتضى البند الأول، الذي يتصدر المشروع ضمن القسم الأول الذي جاء تحت عنوان ((المبادئ الأساسية))، أن تصطبغ كل عناصره ومكوناته بصبغة الفلسفة التربوية الإسلامية، وتنسجم مع مقاصدها، فإن من باب الأولى، أن تحتل “التربية الإسلامية” كمادة دراسية، مكانة مرموقة وسط باقي مواد المنظومة التعليمية، خاصة وأنها تتكفل بنقل أساسيات المنهج الإسلامي من حيث الاعتقاد والتعبد والقيم، والنظم، إلى وعي المتعلمين، في جميع الشعب والمستويات، دون أي فارق أو تمييز. ولكننا -وللأسف الشديد- لا نجد أدنى أثر لاحترام مقتضيات البند المذكور.

ولعل أول ضربة موجعة في هذا الصدد، تتمثل في التنكر لمادة التربية الإسلامية بعدم إدراجها ضمن المواد الأساسية التي يُختبر فيها التلميذ في الامتحان الوطني الموحد الذي يتوِّج مَسْلك التعليم العام (ص 22). فهل هناك مادة أكثر أساسيةً من مادة تحمل على عاقتها بناء روح المتعلمين وتقويم سلوكهم وإمدادهم بمنهج الإصلاح الدنيوي والخلاص الأخروي؟! أما الطعنة الثانية الموجهة إلى التربية الإسلامية كتخصص ينبغي تعميقه وترقيته وإعداد الأئمة فيه، فقد تمثلت في استثنائها من التخصصات التي ستضاف -بمقتضى المشروع- إلى أنواع الأقسام التحضيرية، ذلك أن نية واضعي المشروع متجهة إلى إحداث ((أقسام تحضيرية في الآداب والعلوم الإنسانية والبيولوجيا والاقتصاد))(ص 40)، فهل هذه التخصصات أشرف من تخصص العلوم الشرعية التي تمثل روح الأمة ومناط استمرارها ورصيدها النفيس الذي تقوم عليه شهادتها على الناس؟! بل هل بإمكان الأقسام التحضيرية في الآداب والعلوم الإنسانية والبيولوجيا والاقتصاد، أن توتي أكلها المنشود، إلاَّ وهي في رعاية حس شرعي دقيق يكتسبه رواد تلك الأقسام بفضل معاشرتهم لعلوم الشرع بشكل وبآخر، أو استلهامهم لخلاصة الثقافة الإسلامية التي تلقوها مبثوثة في صميم وثنايا المواد الدراسية التي شكلت غذاءهم العلمي. أما ما تنوي سلطات التربية والتكوين القيام به ممّا سمته ((تجربة رائدة لإحداث ثانويات نموذجية يلجها المتفوقون من التلاميذ الحاصلين على دبلوم التعليم الإعدادي، حسب مقاييس تربوية محضة))(ص 40)، فإن قيم العدالة والإنصاف، فضلاً عن واجب النفرة للتفقه في الدين من قبل طائفة من الأمة، يحتِّم أن يكون إحداث ثانويات نموذجية في العلوم الشرعية، قائمة على نسق فريد ومتطور من حيث المناهج والطرق، يحتّم أن يكون ذلك على رأس الأولويات، لأن ذلك مدخلٌ قويٌّ ومتين لتجديد الذات، وإعادة صياغتها وفق مراد الله عز وجل. يضاف إلى الطعنات السالفة الذكر، استخفاف المشروع بالتعليم الأصيل، الذي لا يستحق في نظر واضعيه أكثر من سبعة أسطر، وليتها كانت منصفة له، مقرة بفضله، رافعة لرأسه بين أنواع التعليم التي يتسع لها صدر المنظومة التعليمية، أو منظومة التربية والتكوين -في التسمية الجديدة- ولكننا -ويا للحسرة- نرى المشروع يحط من قدر “التعليم الأصيل”، فهو لا يرقى في تصوره إلى أبعد من تكوين قيِّمين دينيين من مستوى متوسط، تتكفل بذلك مراكز متوسطة.. غير أن أمرا إيجابيا جاء به المشروع، من العدل أن نشير إليه منَوِّهين، ألا وهو الهيكلة المتكاملة لنظاماه، والتي تنطلق من المدرسة الأولية في اتجاه التعليم العالي، بالإضافة إلى العناية بـ((المدارس العتيقة وتطويرها وإيجاد جسور لها مع مؤسسات التعليم العام(((ص 29) ففي ذلك ما فيه من خلق حركية فاعلة وتلاقح نافع، وإزالة لمظاهر الحيف والتهميش والإقصاء التي ظلت تلاحق رواد وخريجي تلك المدارس، وتؤثر سلباً على علاقتهم بالمحيط الذي يتحركون فيه..

-4 المشروع والنظرة إلى المحيط : يختزل مفهوم المحيط في المشروع تقريبا، في المحيط الاقتصادي، وهو ما تعبر عنه الدعامة الثالثة: ((السعي إلى تلاؤم أكبر بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي))(ص 15) وإذا كان السعي إلى تحقيق التلاؤم، ممّا يؤكد البعد النفعي في النظر إلى وظيفة النظام التربوي، فإن المشروع رغم تركيزه عليه تحت هاجس العلاقة بعالم الشغل أو سوق الشغل، يلتفت إلى عناصر أخرى في المحيط، حيث يدعو إلى انفتاح مؤسسات التربية والتكوين على عالم الثقافة والفن والرياضة والبحث العلمي والتقني، ونحن نتساءل : أيُّ ثقافة أو فن أو رياضة يقصدون؟ دون أن ننتظر الجواب، لأننا نعلم أن المقصود هو هذا العالم الذي يكتنفنا بأمراضه وانحرافاته، بأضوائه الزائفة وألقابه الخادعة، وبطولاته المصطنعة، بمفاهيمه السقيمة والمغلوطة للثقافة والفن والرياضة. فأي نتاج ننتظر من انفتاح مؤسسات التربية والتكوين على عوالم، تلك أجواؤها وتلك مظاهرها؟!

ويُطالعنا في المجال الثاني ((التنظيم البيداغوجي)) دعوة صريحة إلى تلاؤم المتعلمين التام ((مع محيطهم الوطني والعالمي))(ص 22) وإذا كان مطلب التلائم مع المحيط الوطني هو في حدّ ذاته محطّ تساؤل ومراجعة، بسبب ما يكتنفه من طفيليات وعوامل التلوث، فكيف بالدعوة إلى التلاؤم مع المحيط العالمي، وهي لا تعني في جوهرها غيرَ الخضوع والإذعان، لسلطان العولمة القاهر، ويتم ذلك بفعل ما يُسَرّب أو يُهَرَّب إلى شخصيات المتعلمين من تعاليم وأفكار وإيحاءات، من قبل وُكلاء النظام العالمي الجديد. إنها مناقضة صارخة لمقتضيات الركن الأول من أركان الفلسفة التربوية الإسلامية، وهو المتعلق بعلاقة العبودية بين الإنسان وخالقه ورازقه، علاقة تتحطم بإزائها سائر العبوديات وسائر الولاءات. فواضح إذن أن المشروع يرمي -ولا يهمنا إن كان ذلك بوعي أو غير وعي- إلى إبطال إمكان تربية وتكوين الإنسان المسلم الرِّسالي المعتز بدينه الحامل لهمّ التغيير ورسالة الهداية للعالمين. وتتأكد هذه الدعوة الغريبة -وقد وردت في سياق أهداف التعليم الابتدائي- بأخت لها في سياق التعليم الثانوي، حيث يستهدف المشروع ((تنمية قدرات التعليم الذاتي والتأقلم مع المتطلبات المتغيرة للحياة العملية، ومع مستجدات المحيط الثقافي والعلمي والتكنولوجي والمهني))(ص 25).

إنّ هذا الهدف يصب هو أيضا في مجرى تربية الكائن الانهزامي الذي يكيف ذاته مع أي مستجد كان، بغض النظر عن ملاءمته للفطرة أم لا. وكان الأولى أن يستبدل بالكلام السابق هذه العبارة مثلا ((تنمية قدرات التعلم الذاتي والتفاعل الإيجابي البناء مع الواقع، بامتلاك القدرة على التحليل والنقد والتقويم والتمييز بين البدائل في ضوء مطالب الفطرة)). إن الحكم الذي أصدرته على الأهداف المشار إليها، مما يدعو إليه المشروع، لا يكاد يخرج من ما صدقه حتى ما يتعلق بالمحيط التكنولوجي، لأن هذا المحيط نفسه قد يكون ممّن يحصل به الاختلال في عالم الإنسان، لقد ذهب إلى ذلك أحد أبرز علماء هذا القرن المشهود لهم بالنظرة الثاقبة والحس الدقيق، “ألكسيس كاريل” صاحب الكتاب الشهير “الإنسان ذلك المجهول”! يقول : “وهكذا يبدو أنّ البيئة التي نجح العلم والتكنولوجيا في إيجادها للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت اعتباطاً، كيفما اتفق، دون أي اعتبار لذاته الحقيقية”.

-5 الميثاق والنظرة إلى التنمية : إن مفهوم التنمية الذي يسود المشروع مفهوم مادي صرف، فما من إشارة -في أي سياق وردت- إلاّ وتحمل هذه الصبغة المادية. فعلى سبيل المثال تقول المادة 80 ما يلي : ((تستجيب الدراسات الجامعية للشروط الآتية : تلبية الحاجات الدقيقة وذات الأولوية في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية))(ص 27). إن هاجس ربط الجامعة بعالم الشغل يعتبر هاجسا براغماتيا مفرطاً يُخشى منه على التنمية الحقيقية في نهاية المطاف، لأن العلم، أداة الكشف وفهم أسرار الكون وارتياد آفاقه الواسعة، يصبح وسيلة مبتذلة، وهذه وضعية مهينة في منظور فلسفة التربية الإسلامية التي تعتبر العلم عبادة يُتقرب بها إلى واهب العلم، معلم الإنسان بالقلم، معلم الإنسان ما لم يعلم. إنّ المشروع يطرح المعادلة بشكل لا يخلو من مغالطة، لأنه يوهم القارئ بأن “مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية” مجال صحي وسليم، وقادر على استيعاب الإمكانات وتوظيفها، الأمر الذي لا وجود له في الواقع، فالقضية ينبغي أن تعرض بشكل مغاير تماما، يمكن ترجمته إلى السؤال التالي : هل يستجيب مجال “التنمية” (بين قوسين) للطاقات التي تخرج من جوف الجامعة؟ إن الأزمة الحالية التي تخنق المجتمع، خير جواب على هذا التساؤل. ولن يعود لطرح “المشروع” وجاهتُه ولو في سياق نظرته المادية، إلاّ إذا تم تصحيح هذا الوضع المأزوم، وفك عقده المتراكمة عبر الأجيال.

-6 الميثاق والتربية البدنية والرياضية : يقول “المشروع” ((تحظى التربية البدنية والرياضية بنفس القيمة والاهتمام الممنوحين للمواد الدراسية الأخرى، وتحدد حصص تدريسها بكامل العناية على أساس تخصيص جزء منها للدروس النظرية التي تمكن التلميذ من اكتساب المفاهيم الأساسية المرتبطة بالمجالات المعرفية لهذا الميدان))(ص 43) لقد خصص لهذه المادة دعامة قائمة بذاتها هي الدعامة الثانية عشرة.

إننا لا نمانع في إعطاء التربية البدنية ما تستحقه من اهتمام، فبناء الأجسام وصحة الأبدان لها في الإسلام شأن كبير، لأن الأبدان مطايا لتحقيق أهداف الإنسان، ولكن ما نرفضه، هو أن يتضخم عُضو التربية البدنية والرياضية في جسم المنظومة التربوية، وأن يعامل في معزل عن النظرة الشمولية للإنسان، والتي تعتبر البدن عنصراً واحداً في إطار كيان منسجم مكون من جسم وعقل وروح، ويقدم خدماته لعقل راشد وروح وثابة، مُسارعة للخيرات، إن الصورة التي يقدمها المشروع تمثل مقتلا من مقاتله، ومفارقة خطيرة على مستوى الوعي والإدراك لمصلحة المستهدفين لمنظومة التربية والتكوين، فالأمة لا تتقدم بأجسام ذات عضلات مفتولة، أو بما تملكه من رصيد الأرقام القياسية في مختلف الرياضات، وما تجلبه من ميداليات، وإنما تتقدم وتسود بما لها من قوة الروح وسلامة الأخلاق، بما لها من رجال أسوياء ينطلقون في حياتهم من رؤية مسدَّدة بالوحي، ومن موقف رسالي صادق، يحدوه التطلع إلى إنقاذ المجتمع الإنساني مما يرسف من أغلال ويغرق فيه من أزمان، إن خضوع التربية البدنية لفلسفة التربية الإسلامية، يفرض عليها أن تنضبط بإطار الآداب والقيم التي تحفظ للإنسان آدميته وتعصمه من التفسخ والانحلال.

-7 المشروع ومراجعة البرامج والمناهج : ممّايؤسف له أن البرامج والمناهج وهي الشفرة التي تحمل أسرار التشكيل لعقول المتعلمين، وتختزن بين ثنياها ملامح النموذج المأمول، يقع تصميمها وبناؤها ومراجعتها والتحكم في معايير المراجعة في غياب ضوابط محكمة، وفي ظل تغييب المعنيين الحقيقيين بأمر تربية الأجيال، وهم العلماء المربون الذين يؤرقهم مصير الأمة ويضعون مصلحتها وعزها وسيادتها فوق كل اعتبار.

إن المفروض في البرامج والمناهج أن تجسد أسس وملامح فلسفة التربية الإسلامية، وتكون أمينة لمقاصدها العليا، وأن تتم أية مراجعة أو تطوير في ضوء تلك المقاصد. ومن المؤسف أن المشروع لم يعر هذه المقاصد أي اعتبار، لأن بناءه لم يتأسس عليها في الأصل، ففاقد الشيء لا يعطيه.

إن إخضاع الأهداف التكميلية عند مراجعة البرامج والمناهج والكتب المدرسية، لهيمنة الشركاء ((بما ينتظره الشركاء من التربية والتكوين))(ص 33) هل يمكن تحقيق انسجام وتلاؤم بين الاستجابة لحاجات المتعلمين من جهة، ومتطلبات الحياة المعاصرة(ص 33).

إنّ المشروع ينظر إلى البرمجة من منطلق فوقي مبتوت الصلة بأي سبب من الأسباب التي يمكن أن تربطه بسلطان الفلسفة التربوية الاسلامية فينضبط بها ويلتزم بمقتضياتها، فمن الغريب أننا نجد ضمن قسم المبادئ الأساسية الذي يحتوي على المرتكزات الثابتة، ما يلي ((تحترم في جميع مرافق التربية والتكوين المبادئ والحقوق المصرح بها للطفل والمرأة والإنسان بوجه عام، كما تنص على ذلك المعاهدات والاتفاقيات والمواثيق الدولية المصدق عليها من لدن المملكة المغربية، وتخصص برامج وحصص تربوية ملائمة للتعريف بها، والتمرن على ممارستها وتطبيقها واحترامها))(ص 5).

إن هذه الفقرة ملغومة ومشحونة بالتناقض مع الالتزام الذي أخذه الميثاق على نفسه باحترام المرتكزات الإسلامية، فالمفروض أن يقال ((تحترم جميع المبادئ والحقوق التي نصت عليها الشريعة الإسلامية)) ففي ذلك ما يغني عن المواثيق التي إن كان فيها ما هو صالح، فلا يمكن أن تكون قد أهملته الشريعة الإسلامية، لأنها صادرة من عند اللّه الذي يعلم من خلق، ووجود هذه الفقرة قد يكون مبرراً في مشروع ميثاق صيغ لشعوب أدغال أفريقيا، أو في أي شعب لا يملك ميثاقاً ربانيا شاملاً، منزها عن النقص والقصور. لاشك إذن أن هذه الفقرة تشكل هي أيضاً، مدخلاً وتمهيداً لإسقاط المنظومة التربوية ومستهدفيها في فخ العولمة على حساب الميراث الحضاري للأمة وموقعها كشاهدة على الناس.

وخلاصة القول : إنّ المشروع الذي كنا بصدد دراسة بعض محتوياته، لا يعدو أن يكون أشتاتاً وتفاريق، لا يشدها تصور رابط، ومن ثم فهو -المشروع- لا يحتوي على ملامح الشخصية المراد تخريجها، وإذا جاز لنا أن نتصور كائنا حياّ يخَرِّجه المشروع، فهو كائن يأكل ويشرب وينام، ويأتمر بأوامر دهاقنة العولمة ويتبع شرعتهم ويلهج بالثناء عليهم، إننا بحاجة إلى ميثاق حقيقي يحيي موات الأمة ويعيد إليها الأمل ويصنع المعجزة، التي قضى في سبيلها أجيال المخلصين وما ذلك على الله بعزيز.

ذ. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>