بعث جديد لرسالة العلماء


لا يستطيع الدارسُ لتاريخ تحرير الشعوب الاسلامية، أن ينكر الدور الطليعي والمهمة الكبرى التي قام بها العلماء ورجال الفكر الديني/الشرعي في تحقيق استقلال هذه الشعوب من سيطرة الاستعمار الغربي، واسترجاعها لسيادتها وحريتها، وذلك بما أيقظوه في نفوس المسلمين من حماس وطني، وأججوه من عاطفة دينية، وأذكوه من إيمان بوحدة الأمة الاسلامية ووجوب الجهاد في سبيل تحريرها، وإعادة تطبيق أحكام الشريعة في مختلف مناحي حياتها : الاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، بدلا من القوانين والنظم الوضعية التي تتحكم فيها، واستبعاد مظاهر الاستلاب والاغتراب التي سادت فيها لعقود من السنين، والتي تتنافى مع شريعة الله ووحي السماء.

ولكن ما الذي حدث بعد استقلال الشعوب الاسلامية من ربق الاستعمار؟ هل فسحت القيادات السياسية والقوى الحاكمة التي استأثرت بالسلطة، للعلماء ومؤسسات رجالات الثقافة الشرعية الاسلامية، مجالات الاستمرار في استنهاض شعوب المسلمين من غفلتهم التي كانت السبب في استعمارهم، وتبصيرهم بأمور دينهم، وما هم فيه من انحراف عقدي، وتفسخ أخلاقي، وانصراف عن شريعة الله تعالى بسبب ما يطبع حياتهم من ثنائية وانشطار، بين شؤون دينهم ودنياهم؟ هل أخذ العلماء ومؤسساتهم وهيآتهم، مواقعهم ومسؤولياتهم في القيادات السياسية الحاكمة كمحررين ومثقفين ورجال فكر وشريعة وسياسة، بحكم التداخل في ما هو سياسي وثقافي، وباعتبار أنه لا علمانية في الاسلام؟

لقد كان دون ذلك فَرْطُ القتاد، إذ اعتبر عدد من الحكام والقادة السياسيين أن مهمة العلماء والمثقفين الاسلاميين لا تتجاوز التوعية الدينية والخلقية، والوعظ والارشاد من منطلق أن ما يملكونه من معارف وثقافة إلى مستوى المساهمة في إعادة بناء المجتمع الاسلامي، والتخطيط لمستقبله والمشاركةالفاعلة في مشاريع التصحيح والتطوير والتجديد، بَلْه إدارة شؤونه وقيادته، بل إن منهم من أنكر على العلماء أن يكون لدورهم وما قاموا به للثورة على المستعمر أثر فاعل في تحرير الشعوب واستقلالها، بحجة أن ما كانوا يحملونه من شعارات ويرفعونه من أصوات ويذكونه من حماس ديني ودعوة للجهاد في سبيل الله واعزاز ديار الاسلام، كان مهيأ للفشل لولا تدارك أنصار التيارات القومية ذات النزعة اليسارية التقدمية للأمر وحسمها للموقف!

وتحت تأثير هذا التيار العصراني التحديثي.. القومي التقدمي، الذي لا يقيم وزنا للثقافة الشرعية وعلومها المعيارية، ثم استبعاد العلماء والرواد الاسلاميين عن المشاركة في تصحيح مسار المجتمعات الاسلامية، والمرجعية الربانية في تجديد أمور دينها ودنياها، وتجذرت -بسبب ذلك- الثنائية بين ما هو ديني مقدس، ودنيوي زماني، وثم تحجيم دور العلماء واشعار الطبقات الشعبية الاجتماعية بأن مسؤولية هؤلاء محدودة في المسائل الدينية العقدية والعبادية وما يربط العبد بربه من عبادات ومناسك، مما جعل العلماء يجدون أنفسهم محاصرين فكريا وثقافيا، وسياسيا وحركيا في تسيير الشأن العام وتوجيهه من منظور اسلامي، وجعلهم في موقف الدفاع عن ثقافتهم وضرورة حضورهم كفاعلين ومساهمين في مشاريع التصحيح والبناء والاصلاح ومختلف الخطط المجتمعية التي أخذت تترى على المجتمعات الاسلامية اجتماعيا واقتصاديا وتربويا، بل وشرعيا، كما هو الشأن عندنا في المغرب حاليا : خطة ادماج المرأة في التنمية.. والبقية تأتي.

ولقد استكان عدد من العلماء في كثير من البلادات الاسلامية، الى هذا الواقع المرير المرفوض دينيا واجتماعيا، وسياسيا، وضمرت مؤسساتهم ومجالسهم وهيآتهم، وأصبحت لا تتحرك ولا ترفع صوتها إلا تحت الطلب، وبعد تلقي الاشارات الخضراء، وساد الاعتقاد في الطبقات الشعبية من كثرة صمت العلماء وطول العهد به -عكس ما كانوا عليه أيام التحرير- أنهم أصحاب وعظ وإرشاد فقط، ولا دراية لهم بشؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وأصبحت المقولة الكنسية الكاذبة : “اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” سائدة في الأوساط، ضدا على قوله تعالى : {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون}(الشورى : 38) في الدفاع عن شريعة الله والنهوض بالواجب مهما كانت الصعوبات والعوائق، وحالت دون ذلك المثبطات والعوائق.

وما ينبغي أن نغتر بما نلحظه في بعض البلادات الاسلامية من اقدام بعض القيادات السياسية على ضم بعض العناصر من العلماء والفقهاء اليها لمشاورتهم -مع عدم الاخذ برأيهم- اضراء لهم ولفئة عريضة من الشعب على الرغم من أن مشاورة أهل الحل والعقد من العلماء واجبة يلزم الأخذ بها والعمل بمقتضاها، لا أنها مستحبة مندوبة، دليلنا علىذلك أن الله تعالى خص الشورى بسورة في القرآن سميت بها، وذكر سبحانه الشورى في سياق مجموعة من الفرائض الشرعية كلها تعتبر واجبة على المسلمين {..للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون}(الشورى : 38)، حيث إن كل ما ورد في هذه الآية الكريمة يعتبر واجبا، ومن عجب أن نجد في زمن الانحطاط وانحسار دور العلماء -وحتى في زماننا هذا- من يقول بأن الشورى مندوبة، مما يجعل الخلف يكتوي بنار السلف.

إن استبعاد العلماء والفقهاء من مراكز القرار وتهميش سلطتهم الشرعية، وحصرها في بعض شؤون العبادات، بحجة أن ثقافتهم وتخصصاتهم لا تساعدهم على ابداء الرأي وتقديم المشورة والمشاركة في التسيير، يذكرنا بالانفصام النكد الذي حدث بين القيادتين السياسية والفكرية بين العلماء والفقهاء والمفكرين من جهة، وبين الحكام من جهة أخرى(1).

إن هذا الواقع المرير الذي نعيشه في هذا الزمن الرديئ لا يتفق ورسالة العلماء، ولا يعكس التصور الاسلامي لموقعهم في المسؤولة ومكانتهم في القيادة، وتصحيح ذلك لا يتم إلا بتوفر جملة من الأسباب اجتزئ بذكر بعضها :

أ- احياء جامعة القرويين بما يعيد لها عزها ومركزها الاسلامي واشعاعها العلمي الشرعي، والثقافي بعامة، على غرار ما عليه جامع الأزهر وغيرها من منابر الاسلام.

ب- دعم مكانة العلماء والاستماع إليهم وجعل كلمتهم نافذة باعتبار أن ما يمتلكونه من نفوذ في قلوب الناس وتأثير في حياتهم، من أكثر الوسائل وأشدها أثرا في تصحيح الأوضاع وتغيير المنكرات والقضاء على الانحراف، والفساد السياسي والاجتماعي وانعدام الشعور بالمسؤولية.

ج- أن يعمل العلماء والفقهاء وأنصار الثقافة الاسلامية بعامة على استرجاع المكانة والاحترام في أوساط الطبقات الشعبية والرسمية، بمواكبتهم للتطورات العلمية والمستجدات المعرفية والإلمام ببعض العلوم الحديثة.. وما تمور به الساحة الاسلامية من أحداث ومستجدات لمناقشتها والبحث عن حلول لها في ضوء الشريعة الاسلامية ومتغيرات العصر وتطوره دونما تفريط أو انفراط.

د- الانخراط في الحياة العامة بكل ملابساتها، والخروج من دائرة الظل التي استكان إليها عدد من العلماء، ورفع أصواتهم عالية في الدفاع عن الشريعة المستأمنين عليها بمفهومها المتكامل : عقيدة وعبادات ومعاملات وقيما وأخلاقا وسلوكا ومعاملات، إذ “العلماء ورثة الأنبياء” وبذل قصارى الجهود لاقامة مجتمع الفضل والخير في هذه الأمة، وتجاوز منطقة ردود الأفعال التي يتحركون في دائرتها، بعد اتخاذ القرارات وتطبيق الخطط والمشروعات، حتى لا يصدق علينا قول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ((في آخر الزمان يكثر الخطباء ويقل الفقهاء)). باعتبار أن الفقيه أو العالم الحق هو الذي يدرس ويحلل ويقارن ويوازن ويستوعب ويستنتج ليصحح المفاهيم والتصورات ويرشد الخطط والمشاريع، ويعرف كيف يواجه التحديات والصعوبات، ويغرس في النفوس المضطربة، القيم والمثل، ويرسخ العقائد الصحيحة وينفي البدع الضالة..

وفي حدود تصوري فإن المناخ السياسي والثقافي لبلادنا في ظل ملكنا الشاب المثقف حفظه الله، يساعد على ذلك ويشجع عليه ويفتح الآفاق رحبة في وجوهنا، فما علينا إلا أن نتحلى بروح التجديد، وننخرط في سلك التغيير والانفتاح في إطار الشرعية الاسلامية، لتجديد مؤسساتنا وبعث الحياة والنشاط في مجالسنا وهيآتنا : رابطة وجمعيات، بما يكسبها مزيدا من المصداقية والفاعلية والدينامية، ويفسح المجال للقدرات الفكرية العلمية التي تتحرق شوقا إلى العمل الاسلامي المنظم في إطار المشروعية، مبتعدين عن تكريس أخطاء الماضي، منتهجين في تشكيل مكاتب وهيآت مؤسساتنا النهج التشاوري الاسلامي، فالشورى التي ندعو إليها نحن العلماء، علينا أن نمارسها في مجالسنا مستحضرين قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري في صحيحه : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى ياتيهم أمر الله وهم ظاهرون)) متفق عليه.

ذ. عبد الحي عمور

————–

(1) انظر في هذا مزيدا من التفصيل في كتابي : النظرية الاسلامية للعقل ص : -103 .106

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>