وابتدات عملية التنصير الجماعي الاكراهي بمجرد وصول الكاردينال Cisneros إلى غرناطة، ومما يجدر ذكره أنه كان راهبا خاصا بالملكة ايزابيل لازمها في سائر مراحل حياتها، يتولى مراسم اعترافها أمامه..
وهو الذي وضع خطة عمليات الإكراه على التنصير الجماعي بتأييد من ايزابيل وبتعاون مع الاسقف Fray Hernando de Talavera وذلك في أواخر القرن الخامس عشر وبالتحديد سنة 1499، أي بعد مرور نحو سبع سنوات فقط من ابرام شروط التسليم، وإلى ذلك الوقت لم تكن عمليات التنصير تكتسي القسوة والارغام، بل كانت تسير بطريقة الاغراء والترغيب، وهي الطريقة التي كان يسير عليها اسقف غرناطة Talavera .. وكانت نظرية Cisneros تقول : ما دمنا لم نصل للوحدة الدينية فإن الوحدة السياسية التي وصلنا إليها بحرب الاسترداد ستبقى مهددة.. لذلك فلابد منالتنصير.
وهكذا وجه مذكرة إلى السكان تتضمن وجوب التخلي عن جميع الشعائر الاسلامية، كالصلاة والصوم والحفلات الدينية والشعبية والاعراس، والموالد، والعقيقة، والختان، والاستحمام في الحمامات وغير ذلك.. وعوضا عن ذلك يجب تعلم الموريسكوس للطقوس المسيحية وارسال أبنائهم إلى الكنائس لتلقي مبادئ المسيحية، ونَصْب الأيقونات في منازلهم، وتقليد النصارى في اللباس والأكل والطبخ والكلام ونسيان كل ما هو عربي، وحضور القداس، ودفن الموتى على طريقة الكنيسة، والاعتراف، وتقديم الهبات للكنيسة إلى أوامر أخرى يطول ذكرها..
وصدرت تعليمات إلى رؤساء الكنائس وإلى السلطات العامة لتتخذ التدابير اللازمة وتطبق عمليات التنصير في أسرع وقت وعلى أوسع نطاق، كما صدرت أوامر باقفال المساجد وتحويلها إلى كنائس والحاق أملاكها الحبسية بأملاك الكنيسة.
وبطبيعة الحال، ثار الناس لخرق نصوص الاتفاقية، ولارغامهم على التخلي على أعز مقدساتهم ومعتقداتهم، فكانت هناك ثورات وانتفاضات، سنجملها فيما بعد ولكنها لم تستطع أن تقف في وجه القوة والكفر الصراح.
وقد كانت هناك أيضا تدخلات وأوامر أخرى معاكسة، ترمي إلى تهدئة الرأي العام، أو إلى تأجيل بعض الأوامر القاسية، ولكن كل ذلك لم ينفع من تنفيذ خطة Cisneros الموضوعة، الأمر الذي حدا بالكثير من الناس إلى الانصياع للأمر الواقع، فأقبلوا على حضور عمليات التنصير في جموع متلاحقة حتى أن كنيسة البيازين بغرناطة ضاقت بالجموع الغفيرة ولم يجد الراهب وقتا كافيا لتعميد المتنصرين فردا فردا.. فكان يكتفي برشهم جميعا بواسطة أنبوب طويل، بماء التعميد، كما ترش النباتات في البساتين.
وكان حضور القداس في أيام معلومة واجبا محتما.. فمن تخلف عنه من النصارى الجدد (الموريسكوس) توبع وأجري التحقيق معه، وعليه أن يبين الأسباب وإلا عوقب أشد العقاب، وإذا اعتذر بمرض توجه إليه راهب ليتحقق من شأنه.
وللموريسكوس أساليب كثيرة في رفضهم الديانة المسيحية، منها أن بعضهم عند وجوده في الكنيسة كان يختبئ وراء الأعمدة أو في الأركان، ففرضوا عليهم أن يجلسوا في الصفوف الأمامية.. كما فرضوا على الموريسكيات أن يجلسن قبالة الرجال سافرات الوجه، ولا يختبئن وراء الحجاب والجدران.
وكان هناك استعراض ديني فرض على النصارى الجدد المشاركة فيه وأن يسيروا حاملين الشموع والأعلام الدينية، ومن تخلف تعرض للعقوبة الشديدة.
وجامعة غرناطة القائمة الآن، أسست في الأصل لتكون جامعة خاصة بالموريسكوس وذلك لتعليم شبابهم علم اللاهوت المسيحي، كما أسست مدرسة بجانبها لتربية أبنائهم تربية مسيحية، وهذا كله مسجل على لوحة رخامية داخل الجامعة الى اليوم.
وتجدر الإشارة إلى أن عمليات التنصير كانت تخف أحيانا وذلك إما بالأموال التي كان يقدمها بعض الأغنياء الموريسكوس لرجال الكنيسة ولأصحاب النفوذ والسلطان، وإما لأوامر ملكية عليا، يحاولون من ورائها كسب مودة الموريسكوس واخلاصهم في الولاء والطاعة، غير أن عامة الرهبان كانوا دائما بالمرصاد، يحاولون دائما تأكيد قرارات التنصير وتنفيذها.
وفي أيام كارلوس الخامس، أمر بإجراء تحقيق حول ما يشتكي منه الموريسكوس، فاجتمعت لجنة بغرناطة في ديسمبر 1526، وكان من نتائجها الاتفاق على اجراءات مشددة وعقوبات أشد مما كان.. وتقديم المشبوهين والمخالفين والمرتدين إلى محاكم التفتيش، كما اتفقوا على اجراءات أخرى تتعلق بمنع الموريسكوس من حقوق مدنية اقتصادية، ومنها منعهم من اتخاذ العبيد.
ومن الرهبان الذين ضربوا رقما قياسيا في التعصب الديني، الاسقف Ayala، وكان عضوا في المجمع الكاثوليكي المشهور الذي عقد بايطاليا سنة 1545 لاصلاح الكنيسة داخليا، وقد أثيرت في هذا المجمع قضية الموريسكوس فاتخذت في شأنهم قرارات قاسية، فكان ذلك بمثابة اتحاد جميع المسيحيين بالعالم ضد الموريسكوس وتزكية كل ما تقوم به محاكم التفتيش.
وهو صاحب فكرة انعقاد المجمع الرهباني الذي عقد باسقفية وادي آش سنة 1554، والذي اتخذت فيه قرارات المنع الجديدة وأكدت الممنوعات السابقة، وتعتبر قرارات هذا المجمع فاصلة لا تراجع فيها.
محاكم التفتيش :
إن محاكم التفتيش لم تكن بدعا من نوعها، إذ كانت معروفة في جهات كثيرة من أوربا من القرون الوسطى، لمحاكمة المناوئين والمرتدين عن المسيحية، وقد ظهرت في جنوب فرنسا في القرن الثالث عشر حيث كانت موجهة ضد الملحدين عن الكنيسة، وأما في اسبانيا فإن ملك قشتالة استأذن البابا في احداثها بمملكته لمحاكمة اليهود المتنصرين ظاهرا، وقد أذن له بانشائها سنة 1478(البابا Sixto IV).
وقد انشأت محاكم التفتيش بمملكة غرناطة سنة 1484 في مدينة جيان، وفي سنة 1526 نقلت إلى مدينة غرناطة.
وهذه المحاكم، وإن كانت فيأول الأمر موجهة ضد اليهود والملحدين عامة، فإن أمرها قد اشتهر في التنكيل بالموريسكوس، ولم ينته أمرها بالجلاء الأخير عن الأندلس بل استمرت على أشدها طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ودليلنا على ذلك ما كتبه سائح انجليزي سنة 1724 يصف هذه المحاكم “بأنها مازالت تباشر عملها”، ويذكر سائح آخر “أنه في سنة 1726 حوكمت 360 عائلة غرناطية متهمة بالديانة الاسلامية.. وزاد بأنه إلى اليوم، لا يزال كثير من الموريسكوس واليهود في اسبانيا على ديانتهم، غير أنهم يتقنون التمثيل، وقال : حتى إن بعض أعضاء محكمة التفتيش الذين يظهرون الغيرة على المسيحية يظن أنهم يهود..”.
وأشهر محاكمة مرت في غرناطة كانت بتاريخ ماي 1593، 10 أشخاص أحرقوا أحياء، و87 حكم عليهم بأحكام مختلفة، وكان من بينهم مسلم، وملحد ينكر البعث، واثنان من البروتستانت..
يقول Manrique de jorquera عندما يتحدث عن أحداث غرناطة في أوائل القرن XVII “إنه في سنة 1606 و1608 و1609 أقيمت محاكم التفتيش واتهم فيها أشخاص بالديانة الاسلامية، وفيهم من كان يتولى مناصب مهمة في المدينة (أي غرناطة).
وفي القرن الثامن عشر، وبالضبط 9 ماي 1728 وقعت محاكمة بغرناطة حوكم فيها 46 شخص متهمون بالديانة الاسلامية ومن بينهم 21 امرأة”.
ولا ننسى أن الخوف من “العدوى الثقافية العربية” يظهر أيضا في هذه المحاكم، فقد حوكم أمامها كثير من النصارى القدماء المعروفين بـ(amorixados) وقد كان عددهم كثيرا، وفي هذا الصدد يقول Ceznar Cardona “إن النصارى القدماء باراغون الذين كانوا يجتمعون بالموريسكوس أخذوا عنهم كثيرا من العادات الخاصة”.
ولا ننسى الكوندي الذي أحرق أيضا لدفاعه عن الموريسكوس.
دة. آمنة اللوه