انحسار اللغة العربية :
من المعروف في المخططات التربوية أنها تقوم على أسس ومبادئ تحفظ عقيدة الأمة وشريعتها وقيمها، وتراعي واقع المجتمع وثقافته واحتياجاته، وهذا ما سجلته الوثيقة التي أكد في ديباجتها كمرتكز أساسي :
“يهتدي نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمبادئ العقيدة الإسلامية وقيمها الرامية لتكوين المواطن”.. القسم الأول : المبادئ الأساسية ص 11 يستلزم توفر وسائل وشروط كفيلة بتحقيق هذا المبدأ السامي عبر مختلف الاختيارات والقرارات التي اختطها في سياقه العام باعتبار أن تثبيت العقيدة الإسلامية في نفوس الناشئة، وتعميق المفاهيم الدينية وتأصيل القيم الأخلاقية، من مرتكزات هذه الأمة التي يبقى الإسلام هو هويتها الأساسية الذي يرمز لوجودها وأصالتها وثقافتها، وهو الذي يطبع اختياراتها وتوجهاتها، ويرسم معالم نظرتها إلى الإنسان والكون والحياة، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي تتعرض فيها الأمة الإسلامية، -والمملكة المغربية جزء منها- لتحديات ومواجهات اقتصادية واجتماعية وثقافية.. بهدف اختراقها تربويا وأخلاقيا وعقديا، باعتبار ما للتربية والثقافة من اتصال وثيق، وارتباط متين بالمرجعية/الهوية، التي يقوم عليها كيان المتعلم منذ مراحل تعلمه الأولى تبنى على أضوائها شخصيته التي تمنحه الخصوصية والذاتية وجدارة الانتماء.
وهذا مع الاستنارة والاستعانة بكل ما يفيدنا من جهود الآخرين وعطاءاتهم، إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها وهي ليست ملك يمين المسلمين وحدهم.
إلا أن الوقوف على ما جاء في المجال الثاني من المشروع : التنظيم البيداغوجي ص 28 وما بعدها والذي يؤكد في المرتكز الثاني من المبادئ الأساسية على تربية مواطنين “متمكنين من التواصل باللغة العربية لغة البلاد الرسمية تعبيرا وكتابة” ص 11 مما يقتضي إيفاء اللغة العربية حقها على مستوى المناهج والمقررات الدراسية واستعمال الوسائل التربوية الديداكتيكية والدعم التربوي، الأمر الذي سيساعد المتمدرسين على إتقان أساسياتها، ومرتكزاتها بما يجعلها وظيفية لهم وييسر عليهم امتلاك ناصيتها استقبالا. والذي يرتبط تحقيقه بالمبدأ الأول الذي هو الاهتداء بالعقيدة الإسلامية وقيمها في تكوين المواطن، لن يتحقق، على الوجه المطلوب لاعتبارات أهمها :
-1 إدراج تعليم اللغة الأجنبية الأولى في السنة الثانية من التعليم الابتدائي في سلكه الأول بدلا من السنة الثالثة من التعليم الأساسي الحالي.
-2 تلقين اللغة الأجنبية الثانية ابتداء من السنة الخامسة الابتدائية، بدلا من السلك الثانوي كما هو الأمر حاليا.
-3 دعم تلقين كل لغة أجنبية باستعمالها في تلقين وحدات ومجزوءات ثقافية تكنولوجية أو علمية تسمح بالاستعمال الوظيفي للغة ص 45 ممايعني مشروعية التساؤل عن مدى إمكانية تحقيق الوسائل للمبادئ والأهداف.
خطورة التنويع اللغوي على ذهنية الطفل وتحصيله :
إن هذا التنويع اللغوي الذي جاء به المشروع يقتضي تعليم ثلاث لغات في السنوات الخمس الأولى من التعليم الابتدائي، الأمر الذي يخشى من انعكاساته على ذهنية الطفل المتمدرس وقدرته على التحصيل بسبب ما عليه أن يبذله من جهد عقلي في تعلم هذه اللغات التي تتنازعه باختلافاتها، وتباينها وتنوع أنظمتها الصوتية وتداخلها بصنفيه المعجمي والتركيبي وقواعدها النحوية والصرفية والإملائية، وإدراك معاني ألفاظها بما تحمله من مفاهيم وتختزنه من مضامين، الأمر الذي سيرهق الأطفال في سنواتهم الدراسية الأولى، ويخلق لهم صعوبات لغوية، وتعددا لسانيا وانشطارا ثقافيا، نعتقد أنه سيكون على حساب اللغة الوطنية التي ستضيع في خضم هذه التنويعات والتعدديات، مما سيعرض المتمدرسين لشبح التكرار والتسرب والرسوب ويحول بينهم وبين امتلاك أساسيات لغة دينهم ووطنهم ويعرضهم للاستلاب والاغتراب.
فإذا أضفنا إلى ما سبق :
أ- الصراع بين العامية والفصحى وما ينشأ عن ذلك من تباين لغة التخاطب، ولغة التعليم التي تبقى محاصرة في المؤسسة التربوية لا يجد لها المتعلم استعمالا خارجيا في المعاملات الرسمية والمواصلات والإعلانات والحياة اليومية إلا لماما، عكس ما عليه الحال في البلاد الأوربية التي تفرض لغتها على كل تلك المجالات.
ب- أن بعض الأطفال في البوادي والأرياف يلتحقون بالمدرسة وهم يجهلون الدارجة العربية المغربية ويتكلمون بدلها بلهجاتهم المحلية المتباينة مما يزيد من الصعوبة اللغوية.
ج- ما جاء في المشروع من أنه يمكن للسلطات التربوية الجهوية اختيار واستعمال الأمازيغية أو أية لهجة محلية للاستئناس، ص 33 من المشروع، عرفنا ما ينتظر الطفل المغربي من تعدد لغوي وتنويع لهجي.
وهذا لا يعني إنكار ما للطفل من استعدادات وقابليات لتعلم لغة أجنبية أو أكثر، ومن المناسب استغلالها في سن مبكرة للطفل، وتعليمه لغة ثانية قد يصعب عليه تعلمها بيسر فيما بعد، ولكن ذلك غالبا ما يتم على حساب اللغة الوطنية التي يقرر علماء اللغات أن امتلاك أساسياتها ومهارتها يتطلب تعلمها لوحدها دون ازدواجية مدة أربعة أعوام.
إن تعلم أكثر من لغة أجنبية ضرورة علمية وثقافية وحياتية للمتمدرسين لتوسيع آفاقهم المعرفية وانفتاحهم على الثقافة الإنسانية والتكنولوجية المتطورة والقدرة على البحث العلمي -وهذا متوافر الآن حيث تدرس اللغة الأجنبية الأولى عشر سنوات- ولكن ذلك ينبغي أن يتم في تناسق وترتيب بيداغوجي يساعد على التقبل والاستفادة، وهذا حتى لا تبقى قضية اللغة الوطنية والحفاظ على الهوية، أهم عقدة تعاني منها النظم التعليمية المطبقة عندنا منذ الاستقلال.
تعريب التعليم إلى أين؟
إن التأكيد على دعم كل لغة أجنبية باستعمالها في تلقين وحدات ومجزوءات ثقافية تكنولوجية، وعلمية تسمح بالاستعمال الوظيفي للغة والتمرن على التواصل بها كما جاء في المشروع ص .45
مع الاعتقاد بأن “توفير حظوظ النجاح الأكاديمي للمتعلمين، عبر تدريس الوحدات والمجزوءات العلمية والتقنية الأكثر تخصصا من سلك الباكلوريا باللغة المستعملة في التعليم العالي” ص .44 كل ذلك يوحي بأن التعريب أصبح موضع تساؤل إن لم نقل هناك تراجع عنه وهو الذي ظل لعقود من السنين وعبر مختلف الإصلاحات التربوية المغربية مبدأ أساسيا ينبغي العمل على استمراره وسيادته وفق استراتيجية مدروسة تضمن له الإفادة والنجاح.
وإذا كان هذا المشروع قد حاول تبرير هذا المسلك بموقع المغرب الجغرافي وارتباطاته الأوربية واحتياجاته الاقتصادية وغيرها كما جاء في الدعامة التاسعة ص 43 فإن هذا :
أ- لا يتفق مع المنظور التربوي السليم والهادف والذييرى أن التربية التي يجب أن تسود في مجتمعنا، هي التي تهدف إلى تربية أجيال على أساس النظرة الشاملة للفرد والمجتمع، والكون، وخالقه، بحيث تكون شمولية المبادئ والغايات لا جزئية المقاصد والأهداف، ذات بعد واحد تنظر إلى الفرد والمجتمع من زاوية المعيار الاقتصادي والمردود الإنتاجي فقط “والسعي إلى أكبر تلاؤم بين النظام التربوي والمحيط الاقتصادي” المشروع ص .21 مما يزلق بالتربية عن معناها السامي ويجعلها في خدمة الجانب المادي لحياة الإنسان.
ب- يكرس نظرية الثنائية للتعليم القائمة على التفريق بين العلوم الإسلامية : علوم الدين، وما اصطلح عليه بالعلوم العصرية، الكونية علوم الدنيا مما يكرس الفصل بينما هو ديني ودنيوي، ويتنافى مع النظرية الإسلامية للمعرفة التي تقوم على الوحدة والتكامل، لا التجزيء والتفتيت، وعدم التناقض والتضاد بين مختلف العلوم : بين النقل والعقل، ذلك أن نظرية الاسلام للمعرفة -والمناهج والمقررات الدراسية والوحدات التعليمية من المعرفة- تمتاز بالشمولية والكلية عكس النظرة الأروبية التي تقوم على التجزيء والتفتيت.
ج- يقوي الشعور لدى المتعلمين والطلاب في مختلف مراحل التعليم بأن اللغة العربية لغة العبادات والوجدانات ولا صلة لها بالعلم والحياة.
ذ. عبد الحي عمور