في ضرورة المناصحة بخصوص
الخطط الوطنية
لابد من القول ،في البداية، أن مناقشة مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، جزء من السجال الدائر في المرحلة الراهنة بالمغرب حول مجموعة من القضايا والخطط التي تمس، في مجموعها، هوية المغاربة ووجودهم، بل وتحاول قدر المستطاع استشراف مستقبل هذا البلد الذي دخل قبيل نهاية القرن الماضي، منعطفات جد خطيرة، كان للمنظمات والهيئات غير الوطنية دورها في التأثير على مجموعة من الفاعلين السياسيين والثقافيين والاقتصاديين والتربويين، لقبول فكرة التغيير والتسريع باحداث المجتمع المدني المطلوب، الذي ينبغي أن تتماشى هياكله ومرافقه الاجتماعية، وتستجيب مؤسساته العامة والخاصة للمفهوم الجديد للبناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي والثقافي، تحت رعاية وحراسة أصحاب القرار في النظام العالمي الجديد، الذين تحكمهم فلسفة تذويب الهويات وصهر الحضارات وصناعة أجيال جديدة تحكمها القابلية للاستعمار والاختراق المتعدد الوسائل، يتحول خلالها الانسان إلى أداة مستهلكة عوض أن يكون أداة مبدعة ابتداء.
وبموازاة مع هذا التحول العام الذي تشهده بلادنا في الوقت الحاضر، صاغت اللجنة المكلفة بملف التربية والتكوين بالمغرب مشروعاً حُشدت له الطاقات والجهود، وخُولت له كل الامكانيات والتسهيلات، لجعله واقعا ملموسا، عليه سيتأسس مسار التربية والتكوين ببلادنا، وقد أثار هذا المشروع مجموعة من ردود الافعال، خاصة وقد تضمن العديد من النقط التي تمس هوية المغاربة وواقعهم الاقتصادي والاجتماعي ومستقبل أبنائهم. وقد تناول العديد من الباحثين والعلماء والمهتمين بالشأن التربوي والتعليمي هذا المشروع، تقويما وتصحيحا وتصويبا. ولتعقدد الزوايا التي يمكن مناقشتها في هذا الاطار، ارتأيت أن أسهم ببعض الملاحظات الأولية حول موقع البحث العلمي في هذا الميثاق، خاصة، وأنا واحد من الذين يعانون ،من أسرة البحث العلمي بالمغرب، من اشكالاته، وصعوباته وعوائقه، وكذا أحد الذين لا ينظرون إلى التقدم والنهضة المنشودة إلا من خلاله، مع العلم أن النظر إلى واقعه، في علاقته بنماذج كثيرة للبلدان التي استطاعت أن تنفذ إلى عالم التقدم والاستقلالية من خلاله، بعدما تم القضاء على الهوة الموجودة بين ما هو ثقافي ومعرفي، وبين ما هو سياسي، لا يبشر بالخير المرجو.
البحث العلمي بالمغرب بين الخطابات السياسية والواقع الملموس
إن الحديث عن البحث العلمي بداخل المشروع هزيل جداً، مع العلم أن استراتيجية الميثاق تهدف وكما ورد في القسم الأول عند الحديث عن المرتكزات الثابتة، إلى امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا، تقول المادة الخامسة من الميثاق : “يروم نظام التربية والتكوين الرقي بالبلاد إلى مستوى امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والاسهام في تطويرها، بما يعزز قدرة المغرب التنافسية، ونموه الاقتصادي والاجتماعي والانساني، في عهد يطبعه الانفتاح على العالم”.
ويضيف الميثاق وهو يتحدث عن الغايات الكبرى في المادة العاشرة : “على نفس النهج ينبغي أن تسير الجامعة، وحري بها أن تكون مؤسسة متفتحة وقاطرة للتنمية على مستوى كل جهة من جهات البلاد، وعلى مستوى الوطن ككل:
أ- جامعة منفتحة ومرصداً للتقدم الكوني العلمي والتقني، وقبلة للباحثين الجادين من كل مكان، ومختبراً للاكتشاف والابداع، وورشة لتعلم المهن، يمكن كل مواطن من ولوجها أو العودة إليها، كلما حاز الشروط المطلوبة والكفاية اللازمة.
ب- قاطرة التنمية، تسهم بالبحوث الاساسية والتطبيقية في جميع المجالات، وتزود كل القطاعات بالأطر المؤهلة والقادرة، ليس فقط على الاندماج المهني فيها، ولكن أيضا على الرقي بمستويات إنتاجيتها، وجودتها بوتيرة تساير ايقاع التباري مع الأمم المتقدمة”.
إن القراءة العميقة لهذا الكلام، تمكن القارئ، وخاصة الذي تهمه القضية المطروحة، من استعادة العديد من الخطابات والمذكرات والمراسيم الخاصة بالبحث العلمي، توصيفا وتفريعا واستشرافا وتدعيما، كما تجعله في النهاية يشكك في مصداقية هذه التصريحات، التي نعتبرها من جهتنا من مثل ذر الرماد في العيون، حتى تغطي على مجموعة من النقط المرغوب تحقيقها والمصادقة عليها. ولعل تقويمنا لموقع البحث العلمي بداخل الميثاق نابع، بالاضافة إلى ما ذكرناه سالفا، مما نحس به من إعاقات تعرقل مسيرته ببلادنا، إذ لا يكفي أن نتحدث عن مفهومه ومنطلقاته وأهدافه وسبل تحقيقه، بقدرما نحتاج إلى تحويل القول الى فعل ملموس، يتقدم معه البحث العلمي الرصين في كل الميادين، فكيف يمكن للدولة أن تمتلك (( ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والإسهام في تطويرها))، ما لم نتوفر على الشروط والقواعد الضرورية المشكلة لأرضية البحث العلمي الرصين، الذي سيعزز “قدرة المغرب التنافسية ونموه الاقتصادي والاجتماعي والانساني في عهد يطبعه الانفتاح على العالم”.
في بعض المقتضيات العملية لتأسيس البحث العلمي المطلوب
اننا مع الدعوة إلى هذا الامتلاك الذي بدونه سنظل على هامش التاريخ الحضاري، وستزداد الفواصل الزمنية بيننا وبين العالم المتقدم. لكن التقدم يقتضي جملة من الأمور لابد من أخذها بعين الاعتبار، نذكر على رأسها :
-1 رعاية الدولة المستديمة للبحث العلمي، حتى يحقق ويخدم مطلب الوطنية ويدعم مفهوم الهوية الحقة، فلا سبيل إلى الحديث عن التقدم وامتلاك ناصية التكنولوجيا باعتماد القروض والمساعدات الدولية، أواللجوء إلى المؤسسات غير الوطنية، لما تشكله هذه الأخيرة من عوامل للاعاقة واستدامة التبعية.
-2 التمويل الكافي والمستمر للبحث العلمي، وذلك بتخصيص ميزانية خاصة به، تكون رهن اشارته في أي وقت .
-3 إعتماد الخبرات الوطنية بالأساس، وتشجيع الأطر المهاجرة للعودة إلى البلاد، ولن يتأتى هذا المطلب إلا بتوفر عاملين متكاملين، أولهما : توفير جميع التجهيزات الضرورية التي لا حديث عن البحث العلمي بدون توفرها. وثانيهما : تقوية الحوافز المادية والمنح التشجيعية الكفيلة بتوفير الاستقرار المادي والاجتماعي الذي يطلبه الباحثون.
-4 التكامل بين مختلف التخصصات العلمية والمعرفية، إذ لا يعقل أن يُدعم البحث العلمي في قطاع دون آخر، وفي مجال بحثي دون غيره، ولعل هذا ما نعانيه نحن في مجالات العلوم الانسانية والآداب، إذ أصبح من الصعب في الوقت الراهن تنظيم ندوة أو أيام دراسية أو مؤتمر وطني، بله دولي. فغياب الدعم المالي يتسبب بالتدريج في اجهاض كل المشاريع العلمية والدراسية التي ترومها المؤسسات الجامعية ببلادنا.
-5 بالإضافة إلى ما سبق، يقتضي امتلاك ناصية البحث العلمي المؤدي إلى امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والاسهام في تطويرها، توفير المنح الضرورية والكافية، التي تشجع الطلبة منذ السنوات الأولى من دراساتهم الجامعية على الأقل، على متابعة تحصيلهم العلمي والمعرفي بشكل مثمر للغاية. إذ كيف يعقل لطالب باحث لا يتوفر على المنحة أن يسهم في التحصيل العلمي المؤدي إلى امتلاك ناصية العلوم والاسهام فيها؟ وإلا فإننا سنتحدث هاهنا عن النخبوية والطبقية في هذا الجانب، بحيث لا يكون من الممكن متابعة الدراسة في المجالات العلمية المتصلة بالتقدم التكنولوجي، إلا بالنسبة لذوي الدخل المرتفع. ولعل تحقيق هذه الطبقية والنخبوية هي المقصودة من هذا الميثاق، إذ كيف يعقل للأسر الضعيفة، وحتى المتوسطة أن يتابع أفرادها، خاصة وأنهم الأغلبية، التحصيل العلمي العالي بدون المنح،خاصة إذا أخذنا الأسر القروية بعين الاعتبار؟ مع العلم أن الميثاق يكرِّس هذه الآفة من خلال تدعيمه لبرنامج تشجيع التفوق والتجديد والبحث العلمي، دون مراعاة مجموعة من المقتضيات الجوهرية المتصلة بالدخل والمستوى الاجتماعي لغالبية المتمدرسين والطلبة الباحثين.
يضاف إلى ما سبق أن الميثاق، وهو يتحدث ويستشرف آفاق البحث العلمي لا يركز في تصوره لاشكال الدعم، إلا على البحث العلمي المرتبط بالمقاولات إذ يذهب في المادة 129 إلى أن الأولوية في مجال منح الاعتمادات من لدن الصندوق الوطني لدعم البحث والابداع، وهو مكون من معونات الدولة واسهامات المقاولات العمومية والخاصة، وهبات الخواص، والمنح الواردة من التعاون الدولي،تعطى (للمشاريع الداعمة للتعاون بين الجامعات والمقاولات، ومن ذلك تمويل مشاريع البحث والتنمية التي بادرت الى انشائها المقاولات وتشارك فيها مختبرات البحث العلمي الجامعي،وتمويل اطروحات الدكتوراه تخص المقاولات التي عليها أن تشارك في هذا التمويل) . وبهذا يتم التهميش التدريجي لكل أشكال الدعم الذي يتطلبه البحث العلمي والمعرفي في مجال الآداب والعلوم الانسانية، ناهيك عن العلوم الشرعية.
إستنتاج عام
وقد لا أكون مخطئا إن قلت في نهاية هذه الورقة، أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين وهو يتحدث عن البحث العلمي ومسالك دعمه، يسعى الى تحقيق هدفين اثنين :
أولهما : تدعيم مسار الطبقية في التربية والتكوين.
وثانيهما : التركيز على كل ما له علاقة بالمحيط الاقتصادي دون غيره، وكأننا بهذا وذاك، نهيء، من خلال مؤسسات التربية والتكوين، انسانا لا ثقافة لديه سوى ثقافة السوق والاستهلاك. أما ما يبشر به الميثاق من كونه ينشد امتلاك ناصية العلوم والتكنولوجيا المتقدمة، والاسهام في تطويرها، فأشك في هذه الرؤية التي إما أنها تضخم من مستقبل الميثاق حتى تمرر خطابها السياسي المعروف، وإما أنها لا تمتلك فقه الإبصار الحضاري المؤسس على فقه الواقع، والذي لا يتمكن من امتلاكه إلا من يتصفون بنوعين من الصفات :الوطنية الخالصة والهوية الأصيلة.
ذ. عبد العزيز انميرات