المشروع أمانةُ الأجيال ومستقبل أمة أساسات ومحاذير


إن وضع منهج تعليمي وتربوي يفوق في أهميته وضع استراتيجية حربية أو مخطط اقتصادي، لذلك كان من أوكد ما اضطلع به الاستعمار في الشرق والغرب الاهتمامُ بمناهج التربية والتعليم للبلاد المستعمرة ليضمن استمراريته ونفوذَه الاقتصادي والثقافي والفكري والروحي حتى ولو نالت تلك البلاد استقلالها، وقد شاهدنا كثيراً من البلاد المستعمرة التي استقلت أصبحت أكثر تَشبثاً بالتراث الاستعماري واستماتةً في الدفاع عنه وحمايته بالقوانين والحراب والسجون والمنافي..

ورحم الله الشاعر الجواهري الذي يُصور جوانبَ من التأثير الاستعماري في خُلَفائه إذ يقول :

ومُسلطون على الشُّعوب برغمتها

السُّوط يدْفعُ عنهمُ والنّارُ

وصِحَافةٌ صفرُ الضمير كأنّها

سِلَعٌ تُباع وتُشترى وتُعار

ومُبَصْبِصُون(1) كأنهم عن غيرهم

مِسْخٌ، ومِنَ آثامهآثارُ

يتهافتون على مواطئِ أرجل

يُومَى لَهُم بكُعُوبِها ويُشَارُ

—–

ألقى الينا المستعمرُون عِصابةً

كانَتْ تَضُمُّ شَتَاتَها أجْحارُ

من حاضني حُكم الدّخيل وناصري

سُلْطانِه إنْ عَزَّهُ أنْصارُ

تنهى وتأمُرُ في البلاد عِصَابةٌ

يَنْهى ويأمر فوقَها استعْمارُ

خَويت خزائِنها لما عَصفَتْ بها الشّهوات والأسباطُ والأصْهَارُ

يُلْوَى بِها عَصبُ البلاد وتُشْتَرى

ذِمَمُ الرجَالِ وتُحجزُ الأفْكَارُ

ولنحنُ أعرفُ مَنْ هُمْ وممن هُم

وبمن تُمثَّلُ هذِه الأدْوَارُ

ومَنِ المصرِّفُ مِنْ فضول عنانِهم

ولِمَن يَعودُ الوِرْدُ والإِصْدَارُ

لذلك كانت من أهم خطر السيادة : سيادة الدولة واستقلاليتها أن تضطلع بنفسها بكل ما يتصل بالحفاظ على هذه السيادة والاستقلالية ومن ذلك : مناهجُ التربية والتعليم وما سمعنا قط أنّ دولة مستقلة وذات سيادة تسمح لغيرها بأن تفرض عليها مناهجها ومقرراتها وثقافتها وأذواقها، وقد جاء في ديباجة للتقرير الذي وضعته لجنة أمريكية كُلفت بِدراسة مناهج التربية والتعليم بأمريكا ما يلي :

“لو حدثَ أن فرضت دولة ما على الولايات المتحدة منهجا دراسيا وتربوياً سَيِّئاً لكان ذلك مدعاة لإعلان الحرب عليها لأن الاعتداء التربوي والمدرسي هو كالاعتداء الفكري”.

إن الأمانة  الملقاة على عاتقنا ازاء أجيالنا وأمتنا تفرض علينا عند وضع مناهج التربية والتعليم والتكوين الانطلاق من تصور علمي وموضوعي شامل ولكي يكون كذلك فلا بد من مراعاة الأساسات والمحاذير التالية :

أساسات :

-1 أن المغرب دولة اسلامية منبثقة عن مجتمع مسلم اختار عن رضى وطواعية نظامه الفريد القائم على شؤون الدين والدنيا وتربط بين الطرفين : بيعةٌ شرعيةٌ لا يجوز الاخلال بها بأي حال من الأحوال والبيعة أسمى من الانتخاب لأن المؤمنين الذين يبايعون أميرهم إنما يبايعون الله وهذا المجتمع يدين بدين الاسلام لا يرتضي غيره ديناً ومنهاجا : كتابه القرآن ولغته العربية.

وبناءً على ذلك فالميثاق التربوي والتعليمي والتكويني يجب أن يستجيب لمقتضيات هذه الخصيصة الثابتة والمقدسة ديناً ولغةً وثقافةً لضمان استمرارها وتعميقها وحصانتها من التفتت والضياع.

-2 للمغرب بُعدُه الاسلامي فهو يعيش ضمن حضارة اسلامية تمتد في الزمن من بداية ظهور الاسلام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتمتد عبر المكان إلى جميع العالم الاسلامي دولاً وجاليات وأقليات. لذلك كان على الميثاق العمل على تمتين روابط المغرب بزمانه ومكانه وخريطته الاسلامية.

-3 المغرب مكون من شعب وهذا الشعب من طبيعته في الظروف العادية والاستثنائية الرحلةُ والارتحال والتحرك عبر المكان لا تمنعه حدودٌ ولا تحول بينه بحارٌ ولذلك فسُدس هذا الشعب يوجد في الخارج، ومن المنتظر إن بقيت نسب الاغتراب أو الهجرة كما هي الآن أن تمثل جالياتنا بالخارج الربع على الأقل مثل لبنان، لذلك كان على الميثاق الوطني أن يعمل بالحاح وجدية وصواب على تمتين العلاقة بين الوطن الممتد في الخارج والوطن الأم ولا سبيل إلى ذلك إلا بالدين واللغة والتاريخ أي  بالثقافة والحضارة وأيّ تقصير في هذا الجانب فإن وطننا المغترب سرعان ما قد يُصيبه الضياعُ والذوبان والقطيعةُ بالوطن الأم!! إن الجالية المغربية المسلمة بالخارج ثروةٌ عظيمة للمغرب يجب ألاّ يُفرّط فيها ونعمة كبرى يجب شكرُها وتنميتها وتقوية الروابط والعلاقة بها وجعلها واسطة خير تخدم دولتها ومجتمعها وقد تصبح مركزاً هامّاً للضغط لصالح المغرب وأن تأسيس وزارة ثم مؤسسة الحسن الثاني للجاليات المغربية بالخارج لم تكن عبثاً وإنما هو مشروع عظيم يجب أن يكبر ويكبر ويعظم ويعظم حتى يصبح صرحاً ضخماً وجهازاً كبيراً يعودُ على المغرب بالخيرات والمكرمات ويحقق له السعادة والهناء والوحدة والرفاه.

-4 والمغرب بلد افريقي ولكنه متميز بكونه منارة الحضارة الاسلامية العربية المغربية والاندلسية التي شعت أنوارها على افريقيا التي هي مدينة إلى الآن للمغرب الذي نشر فيها الدين والمذهب والعلم والكتاب والكتابة والألبسة والتقاليد، وافريقيا تعتز بذلك وحيثُما جلت بها ألفيت الآثار الحضارية المغربية بارزة.. لذلك على الميثاق أن يستثمر هذا الكنز الذي خلفه لنا أجدادنا عن طريق تمتين العلاقات بالشعوب الافريقية عن طريق الثقافة والحضارة المتمثلتين في العلوم الاسلامية واللغة العربية والألبسة والطبخ والعادات الطيبة؛ والسياسة امتدادٌ لهذا الرصيد، لذلك فإن السياسة التي تُهمله ولا تلتفت إليه تُصادف الفشل الدائم والمتوالي!!

-5  والمغرب بلد مغاربي وأهم الروابط المغاربية : الدين واللغة والتاريخ والقومية والعادات والجغرافية والمصالح المشتركة التي تنمو كلما وقع التكامل والتعاون والتآزر لذلك على الميثاق مراعاة ذلك.

-6 والمغرب بلد اشعاع حضاري أو هكذا كان ويجب أن يكون لذلك على الميثاق أن يرعى هذه الخصيصة ليحافظ على استمرارية هذا الاشعاع في الخارج، وما الاشعاع إلا للحضارة الاسلامية التي يعتبر المغرب من أبرز حماتها ودعاتها ودعائمها.

-7 المغرب بلد عريق وأصيل وقد استمد أصالته وعراقته منذ أن تجاوب الامازيغ مع الاسلام وامتزجوا به عقيدة وحضارة وثقافة وسلوكا وتقاليد. وقد صمد كدولة وكيان وقوة عبر التاريخ لذلك فعليه أن يستعيد مكانته تلك ولن يتحقق له ذلك إلا بالتفتح الواعي واليقظ على وسائل التقدم العلمي والاقتصادي والصناعي والتكنولوجي والمهني وأن يستفيد استفادة العقلاء الرشداء من محيطه المتقدم وهذا يقتضي تطوير المناهج والأساليب والوسائل في التكوين والتعليم والإمتهان، ومن مفاتيح ذلك اللغة ولاسيما الانجليزية والألمانية، ولنا في اليابان والصين قدوة في ذلك إذ حافظت هاتان الدولتان العظيمتان على شخصيتهما ولم تضحيا بنظامهما وتقافتهما وثقاليدهما في سبيل الحصول على التقدم التكنولوجي!! إن للمغرب ثروة هائلة من الأدمغة العلمية لكنها متشتتة في الخارج : بأوربا وأمريكا وكندا وبين الخمود في الداخل لا يُستفاد منها إذ لم يهيأ لها المناخ المناسب فهي الآن تضيع إلا قلة قليلة لها ارتباطات بمجالات البحث بالخارج!! فعلى الميثاق أن يكون في المستوى الذي يجعل المجتمع المغربي قادراً على استيعاب التقدم التكنولوجي واستيعاب أدمغة علمائه بالخارج والداخل!!

-8 والمغرب ينْعَمُ بثروات طبيعية وسياحية عظيمة من بحار وجبال وسهول ومعادن وبصناعة تقليدية أصيلة ومشهورة.. فعلى ميثاق التكوين والتعليم والتربية أن يعمل على حسن استثمار هذه المصادر والموارد والنعم بإعداد الأيْدي والأدمغة والادارة والقلوب والأذواق للتفاعل مع هذه الثروات والافادة منها إلى أقصى الحدود.

-9 وللمغرب ثروة هائلة في الموارد البشرية ولاسيما الشباب وهذا عنصر أساسي في أي تقدم أو نهضة فيجب على الميثاق أن يكون في مستوى التكوين والتوجيه والإعداد واستثمار هذه الطاقات العظيمة التي لو كانت في دولة أخرى متقدمة لازدادت تقدما ونهضة بدل أن تكون أعداد كبيرة منها عاطلة ومشردة ومشرئبة بأعناقها إلى عبور مضيق جبل طارق في مغامرات انتحارية ومُزْرية!!!

محاذير :

أما المحاذير فأهمها :

-1 ألاَّ نسند أمر القيام بوضع المشروع التربوي والتعليمي والتكويني لغير أهله من المتخصصين والخبراء الممارسين المشهود لهم بالقوة والأمانة، إذ من أكبر الفساد أن يُسند الأمر إلى غير أهله.

-2 أَلاَّ يَتم وضعُ المشروع ودراسته بالاستعجال والارتجال لأن الأمر يتعلق بمصير أجيال بل بمصير أمة.

-3 ألاّ يقع المشروع في شرَك التراضي والتنازلات بين الأطراف المشاركة لأسباب ودواعي لا علاقة لها بالمقاصد العليا والأهداف المتوخاة منه.

-4 ألا يخضع المشروع للقرارات السياسية التي قد تفسده إفساداً يعود بالوبال على المستقبل.

-5 ألاّ يتخذ المشروع صفة القداسة لا يجوز المساس به أو تعديله أو إعادة النظر في بعض بنوده وتفاصيله أثناء التطبيق بل أن تكون هناك لجنة الخبراء المتخصصين تحرص على المتابعة والمراقبة لتحقيق حسن الأداء والتطبيق.

-6 ألاّ يهمل الأستاذ والمفتش والمدير والتلميذ والطالب والأب فلا يستشار ولا يؤخذ برأيه إذ إن إهمال هؤلاء العناصر المعنية كفيل بأن يصادف المشروع حظاً غير قليل من الإخفاق، فكفانا علاج الأمور من (فوق).

د. عبد السلام الهراس

——–

(1) بَصْبَص الكلب حرك ذيله وبصبص الجرو فتح عينيه وتبصص : تمَلَّق والمِسْخُ والمسيخ الذي حُوّلت صورته إلى أخرى أقبح مثل : مسخه الله قرداً.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>