إن الهدف المحوري الإستراتيجي لحركات الدعوة عبر مسيرة دعوات الأنبياء جميعا هو “إقامة الدين”. ولتحقيق هذا الهدف العظيم لابد من التركيز على العمل التربوي الذي يعنى بصياغة الإنسان.
ولتوضيح ذلك أكثر لابد من إبراز معالم الرؤية التربوية الدعوية نظريا ومنهجيا، وذلك كما يلي :
أولا- التحديد المصطلحي للتربية الدعوية :
التربية الدعوية هي الصياغة القويمة لإنسان نشأ في بيئة تسودها قيم ومفاهيم وتصورات معينة، معتمدة في ذلك على الأصول الإسلامية وما تدل عليه، سواء من حيث المنهج أو من حيث الأدوات والوسائل، وتهدف هذه الصياغة إلى إشعار المربى بمسؤوليته وأمانته اتجاه دينه وأمته وبث روح الجهاد والتضحية فيه من أجل النهوض بها، وتزويده بما يلزم لذلك من علم وفقه (بالدين والدعوة والواقع) وإيمان وتقوى.
ثانيا- على المستوى المنهجي :
منهجيا لابد من الإقتناع بدور الإنسان في إقامة الدين وعليه فإن الضرورة المنهجية تقتضي أولا وقبل كل شيء إقامة الإنسان الذي يحمل لواء هذا المشروع، وإقامة هذا الإنسان إقامة من نوع خاص وإعداد من طراز عال يتطلب أن تكون الرعاية مستمرة، والإعداد شاملا ومتكاملا، حتى يوجد الإنسان القوي الأمين، فهو وحده -إن شاء الله- الأقدر على إقامة دين الله عز وجل، وهذا الإنسان ليس فردا بعينه، وإنما هو كل إنسان يحمل صفتي : القوة والأمانة بما تحملانه من معاني ودلالات علمية وتربوية وغيرها.
والمراد ههنا أن مسؤولية إقامة الدين تقتضي منهجيا إقامة قاعدة عريضة كافية من الناس الأقوياء الأمناء، في كل مكان، وفي كل قطاع ومجال داخل المجتمع، وهذا التكوين بهذه الشروط والمواصفات هو شرط التمكين والإستخلاف والشهادة على الناس والتي هي غاية هذا الدين وكمال إقامته، فلا إقامة للدين كاملة بدون تحقيق هذه الأبعاد كلها.
ولعل الدارس لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم المتأمل في القرآن حسب آيات النزول لا حسب ترتيب السور يدرك هذا البعد المنهجي في إعداد الله عز وجل لرسوله أولا ثم في إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته.
ثالثا- مراحل النهج التربوي الدعوي :
-1 المنهج الرباني في تربية الرسول صلى الله عليه وسلم وإعداده لحمل رسالة الإسلام والدعوة إليه :
إن رسالة هذه الأمة الخاتمة رسالة عظيمة وكبيرة، فكان من اللازم أن يكون بني هذه الأمة في نفس مستوى رسالتها، إنها رسالة الشهادة على الناس، قال تعالى : ((ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس)).
أ- مرحلة الإعداد والتأهيل التربوي الشامل :
على قدر الرسالة التي تؤدى يكون الإعداد والتأهيل، إعداد وتأهيل من طراز خاص لحامل الرسالة، لأن الإعداد الفوري للإنسان غير ممكن، فهو ليس إعداداً لجزئية بعينها، وإنما إعدادا كاملا وشاملا بكمال وشمول الرسالة الخاتمة الشاهدة.
إن هذا النوع من الإعداد الخاص الممتاز يتجه نحو بناء النفوس، وبناء عالم الأفكار، وبناء العواطف والإحساسات وصياغة العقول والقلوب…
وبهذا النوع من الإعداد، وبهذا المنهج التربوي كان إعداد الرسول صلى الله عليه وسلم وتأهيله، فأعد إعدادا شاملا وكاملا :
- إعدادا إصطفائيا في بداية الأمر، وكان ذلك قبل نزول الوحي، شمل مرحلة ما قبل الولادة وذلك باصطفائه من بني هاشم أشرف قبيلة وأحسنها، وبعد الولادة بالرعاية والحفظ عبر مراحل حياته الأولى إلى أن أُعِدَّ إعدادا لحمل الرسالة.
- ثم إعداداً آخر أثناء نزول الرسالة، ليستعد لتلقي القول الثقيل والرسالة العظيمة ((إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا))، فكان أول شيء نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ((إقرأ..)) الدعوة إلى القراءة والعلم باسم الله أولا.
ومما يستفاد من هذا منهجيا : ما ينبغي أن يستقر في نفس وعقل وفكر المُعَدِّ من معلومات أولها العلم بالله تعالى.
وفي هذا من الإعداد الداخلي للإنسان عموما وللرسول صلى الله عليه وسلم خصوصا على المستوى العلمي والروحي الشيء الكثير، واستقرار ذلك في النفس والفكر، ثم ليشع نوره في الناس بعد إشعاعه في قلبه وأثره في جوارحه وسلوكه، فيكون التأثير في الغير تأثيراً طبيعيا.
ومما يستفاد أيضا منهجيا في تربية الفرد من قوله تعالى في بداية الوحي : ((إقرأ..)) : حدوث اتصال مباشر بالله تعالى رب العالمين وخالق الناس أجمعين، لأن هذا الإتصال وسيلة لما يجب أن يُعْلم أولا، وهو العلم بالله كما تقدم، والعلم به سبحانه بهذه الكيفية يسهل وضع الأرباب في أماكنها كيفما كانت هذه الأرباب الزائفة أصناما أو أشخاصا أو نفسا أو هوى أو شيطانا أو غير ذلك، فيصبح الإنسان المتصل بالله العارف به محررا عقلا وقلبا، فكرا وسلوكا من جميع أنواع الإستعباد والإستذلالوالخضوع إلا لله وحده سبحانه وتعالى.
وبهذا النوع من التوحيد والتعبد للخالق عز وجل يشعر العبد بكامل وكمال حريته وإنسانيته، ويشعر أيضا بكامل استقلاليته، لأنه استغنى بالخالق عن المخلوقات كلها، فهو وحده سبحانه الذي يستحق العبودية الكاملة، فيزداد -هذا الإنسان- بخالقه ارتباطا واتصالا يقوى به إيمانه ويقينه.
إذن فالإتصال المباشر بالله تعالى بهذا المعنى يعني الإنقطاع التام له سبحانه بالعبادة، ويكون ذلك بالوسائل المقررة شرعا، والتي ذكرت معظمها في سورتي المزمل والمدثر.
والقصد من هذا كله عمارة القلب بالله تعالى ووصله به باستمرار، ولا يتم ذلك إلا بالدربة والمجاهدة والتربية الدائمة للنفس.
وبهذا الإعداد المتميز يصير الإنسان المؤمن ربانيا، والرباني هو العبد المتصل بالرب اتصالا كبيرا جدا، المتصف بصفاته من جود وكرم وعدل وإحسان وغيرها مما يجوز منها في حق الإنسان.
فإذا صار المؤمن ربانيا أصبح مؤهلا لحمل رسالة التكليف وتبليغها للناس.
ب- مرحلة التأثير والإشعاع التربوي الدعوي :
إن من المسلمات التي لابد من التذكير بها ههنا، أن النجاح والتوفيق في تربية الإنسان وتزكية نفسه والسمو بها إلى الدرجات العليا من الإيمان لا يكون إلا من الله عز وجل، فإذا حصل فهو نعمة وفضل منه سبحانه، قال تعالى : ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً والله يزكي من يشاء)).
إن واجب الإنسان في التربية لا يقتصر على تربية نفسه، فإذا ما تم له هذا التوفيق واجتهد في تزكية قلبه وجوارحه واستعان في ذلك كله بالله كان لزاما عليه أن ينتقل إلى تزكية غيره لشدة حلاوة تلك التزكية.
وحينئذ يصير المؤمن ربانيا داعية مجاهدا حكيما ذا قوة جاذبة يقتدى به في علمه وأخلاقه وسلوكاته، فيكون التأثير حينئذ أشد، لأن لسان الحال أقوى من لسان المقال، وقد اجتمع لديه هنا قوة لسان الحالوالمقال معا، فأعطيا نورا عظيما، وإشعاعا بليغا يؤثر في الناس فيستجيبوا لربهم، فيعم الفضل والخير المجتمع كله.
-2 أهم ثمار المنهج الرباني في التربية :
يمكن تلخيص هذه الثمار والفوائد التربوية فيما يلي :
أ- بلوغ الإنسان درجة اليقين والثقة الكاملة في الله تعالى وبنصره، وذلك ما حصل لأنبياء الله، كموسى عليه السلام الذي قال القرآن على لسانه : ((كلا إن معي ربي سيهدين)).
وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للصديق أبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار، في قوله تعالى : ((لا تحزن إن الله معنا)).
ب- أن يصير وليا لله تعالى : وحينئذ فإن الإنسان الرباني إذا وصل إلى هذا المستوى من اليقين والثقة في الله تعالى حلت ولايته، فكان وليا لله تعالى، وإذا حلت الولاية الإلهية، كان النصر من الله لأوليائه قال تعالى :((ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون..))، وفي الحديث القدسي : ((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب)).
والولاية ههنا بهذه المعاني التي لا يفهمها إلا الربانيون، لا تكون إلا للمتقين، والتقوى درجة إيمانية عالية، قال تعالى : ((إن أولياؤه إلا المتقون)).
جـ- استحقاق رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة : وهنا لابد أن نشير إلى ثمرة التقوى من أعظم ثمار التربية الدعوية الربانية، ولهذا فإن رحمة الله تعالى إذا كانت تسع كل شيء في الدنيا فإنها لا تسع يوم القيامة إلا صنف المتقين قال تعالى : ((ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للمتقين..)).
والوصول إلى هذه الدرجة من التقوى التي يستحق معها المؤمن رحمة الله دنيا وأخرى لا يتأتى إلا بالمجاهدة والمصابرة، والإتصال الدائم المباشر مع رب العزة.
د- ومن أهم ثمار هذه التربية : أنها تربي النفس على احتمال المكاره وعدم اتباع الشهوات، والأصل في هذه الثمرة قوله صلى الله عليه وسلم : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))، فالطريق إلى الجنة ترويد النفس وحملها على الطاعات وصبرها عليها، وفي ذلك احتمال للمكاره، والطريق إلى النار اتباع شهوات النفس وهواها.
ولتربية النفس وحملها على المكاره، ومنها من الشهوات فائدة عظيمة، قال تعالى : ((وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)) (النازعات : -40 41)، ونهي النفس عن هواها جهاد يتقدم جهاد الأعداء بجميع وسائل الجهاد، كلمة كانت أو قتالا أو غيرها.
هـ- إن هذه التربية لا تقتصر على تربية النفس وإنما تتعداها كما تقدم إلى تربية جوارح الإنسان كلها، وتربية عقله وفكره، إذن فهي تربية تمد العقل بالنور والرشد والنضج، وتكسبه علما وتجربة، لأنه حينئذ يكون قد تزود بزاد الإيمان والتقوى.
خاتمة :
وخلاصة الأمر فإن تربية الإنسان وإعداده الخاص يحتاج إلى وقت، ويحتاج إلى علم ومنهاج واضح يستمد من المنهج الرباني الذي تربى في أحضانه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، لأن هذه التربية الممتازة هي التي تخرج لنا العالم، الداعية، المجاهد الحكيم، المتبصر بنور الشرع، الناقد للأمور المتفحص لها، الموقن بنصر الله الذي وعد به المؤمنين، فيكون بذلك كله ربانيا من طراز عال، يؤثر بسلوكه الرفيع وعلمه الراسخ، وخلقه الكريم في الناس، يقبلون على الإسلام إقبالا، ويلتزمون بتعاليمه التزاما.
ولعل حالة التردي التي يعيشها الواقع الإسلامي اليوم والتي عمت كل الجوانب : علميا، ومنهجيا، وأخلاقيا، وسلوكيا، ثقافيا وفكريا، اجتماعيا واقتصاديا، وسياسيا، هي السبب في إعراض الناس عن الإسلام، ويوم كان المسلمون الأوائل قرآنا في العلم والأخلاق والسلوك كان الإقبال على الإسلام، ودخول الناس فيه أفواجا، وكان الفتح الرباني على المسلمين بالخير والبركات.
إن الضعف التربوي العام، الشامل لكل الجوانب هو الذي أفرغ الدعوة الإسلامية من محتواها الحقيقي، وعمقها الإستراتيجي، فدب ذلك الضعف في أبنائها بسبب ضعف الصلة والعلم بالله تعالى، فحل الفراغ الروحي والخواء القلبي محل الزاد الإيماني، وحل سوء الاخلاق واعوجاج السلوك محل مكارم الأخلاق وأفضلها، وحل الجهل بالدين والدعوة والواقع محل العلم والفقه، وحل القصور المنهجي محل القوامة والرشادة المنهجية ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)) يهدي للتي هي أرشد وأقوم في كل شيء وفي الحياة كلها، ومن ثم حلت السطحية في التحليل والتنظير محل العمق فيهما، وكل هذا يعتبر من أهم أسباب تأخر الدعوة الإسلامية وعدم احتلالها الصدارة وتضييعها لكثير من المكتسبات.
ذ. محمد الأنصاري