بداية يقسم كاتب هذا المقال إنه مستنير، وليست له أي جذور رجعية بالمعنى المفهوم لدى الخطاب العلماني، بل إنه يدعو إلى تحرير كل شبر من عقل المرأة العربية ومن كامل الخطاب العربي!!
.. في مؤتمر قاسم أمين أو (مائة عام على تحرير المرأة العربية) الذي عقد بالقاهرة في الفترة من 23 إلى 28 أكتوبر 1999م بالمجلس الأعلى للثقافة، ألقى الدكتور جابر عصفور أمين عام المجلس هذه العبارة الجدلية قائلاً : ((أذكركم أننا أمام دولة مدنية، هذه الدولة هي التي تسمح بأن تقفوا على منابرها ومنتدياتها ومؤتمراتها وتتحدثوا عن تناقضاتها، فهل إذا سمح لكم بإقامة دولة دينية سوف تسمحون لأحد أن يحاور أو يناقش أو ينقد!!..)).
وبعيداً عن طرح هذه العبارة للنقاش أو التحاور حول مفهوم الدكتور عصفور للدولة المدنية أو الدينية -فهذه قضية قديمة سأخيب أمل المنتفعين ولن أتحدث عنها- بل أعود إلى المؤتمر الذي لا شك رغم عدم خروجه ببيان واضح وصريح فقد بذل فيه من الجهد في الإعداد والتنفيذ وما أنفق في سبيله من أموال طائلة ما يجعلنا نمسك الخشب ونحن على أبواب الألفية الثالثة!!
فانه كان لابد ألا يستمع المؤتمرون إلى أنفسهم فقط دون إظهار الأصوات المعارضة للمؤتمر حتى يحدث التميز والحداثة -كما يقول الشاعر السلفي- وبضدها تتمايز الأشياء!!.
وقد التقيت ثلاث نساء من المعترضات على المؤتمر، احداهن أستاذة في السينما والثانية أستاذة في جامعة الأزهر والأخيرة ناقدة سعودية كبيرة، وتحدثن لي على هامش المؤتمر بعد أن تم تغييب خطابهن بقاعات المؤتمر!!
تبدأ الدكتورة أسماء أبو طالب أستاذة السينما بكلية الفنون حديثها قائلة : ((إنني لا أحب أن يهاجم حجابي، فأنا تخصص سينما وأخذت دكتوراه في هذا المجال، أي وصلت إلى أعلى مراتب العلم. وأقول لكل النساء الحاضرات في المؤتمر أنا لا أعاني من الاضطهاد إطلاقا بأي صورة من الصور ولم يقف الحجاب مانعاً لي في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، فراجعن موقفكن ثانية قبل الهجوم على الرموز الإسلامية!!)).
وتعلق الدكتورة عبلة الكحلاوي الأستاذة بجامعة الأزهر على هذا المؤتمر قائلة : ((هو اتجاه نحو العولمة واللغة الأحادية، إن الحرية لها سقف ولا يجب أن نتعداه، فنحن أصحاب عقيدة، ولدينا تراث زاخر، وأنا سعيدة جداً بالقوامة من جانب الرجل وأقول لك بصوتٍ عالٍ : سحقاً لك يا من تريد أن تغتال جنتي!!)).
بينما حدثتني الناقدة السعودية سهيلة زين العابدين بمرارة قائلة : ((أنا متألمة جداً من هذا المؤتمر، وأتعجب كيف تطالب النساء بإلغاء أشياء تمس تراث الإسلام، وغيرها من المطالب التي لن تحقق الصلاح في أي مجتمع بل ستدمر كيان الأسرة المسملة!!)).
ثم تختتم حديثها بانفعال بالغ قائلة : ((لو رجعت المرأة إلى أمور دينها لكانت أسعد امرأة في العالم!!)).
وبيعداً عن جلسات المؤتمر، وعن أصوات المعارضات المهمشة، كنت خارج مبنى المجلس أتابع الكتب المعروضة باهتمام، بينما سعت فتاة سويسرية تتحدث العربية بطلاقة إلى الحوار معي وعرفت منها أنها تعلمت العربية في سويسرا وجاءت لتعمل كمستشارة ثقافية لاحدى المؤسسات في مصر، وأخذت ترغبني في الأدب السويسري وتحدثني عن أدباء سويسرا وعن إبداعاتهم الرائعة، وحدثتني أيضا عن أدباء عرب ومصريين قرأت لهم، ثم تركتها على وعد اللقاء مرة أخرى!!
إن هذه الفتاة محددة الهدف، قطعت آلاف الأميال، لتبشر بثقافتها وتدعو بحماس إلى ضرورة الاطلاع على إبداعات أبناء بلدها!!
بينما نحن نسعى بكل ما نملك من أدوات الى التخلص من ثقافتنا والانخلاع عن تراثنا بدعوى التحرير والمدنية والانفتاح على الآخر!!
إذن مرحباً بالعولمة والهيمنة والأمركة، ولتتحول ذاكرة الأمة إلى رماد!!
وقبل أن يتحقق فيّ قول المتنبي العظيم :
ولكن الفتى العربي فيها..
غريب الوجه واليد واللسان
خرجت من هذا العالم إلى الأزهر حيث تطل حجارته العتيقة وأنا أردد في نفسي : الله يعطيك العافية!!.
محمد ثروت
آفاق عربية ع 99/11/18