مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: 7


الهجرة إلى الحبشة : دلالات وعظات

استمر إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أتباعه الذين استجابوا له وآمنوا به -خصوصا المستضعفين منهم- قرابة سنتين، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لابد من التماس حل لهذه الأزمة، وأنه لابد من وسيلة لحماية الدعوة وجنودها المضطهدين من قبل المجتمع القرشي الكافر، فكان أن أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة، يقول ابن هشام : ((فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم  فيه من البلاء، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة كانت في الإسلام…)).

ولقد كانت هذه الهجرة متنفَّسا للإسلام والمسلمين يومذاك، ومحطة من محطات الانفراج التي عرفتها الدعوة في فترات المحنة والشدة من عهد النبوة، كما جاء حدث هذه الهجرة مليئاً بالدروس والعبر والعظات النبوية الراشدة البالغة، منها :

1- إنه صلى الله عليه وسلم لم يهنأ باله ولم يُرضه أنه يكون محميا وأتباعه المؤمنون يؤذون ويُستضعفون.. فكانت إشارته عليهم بالهجرة إلى الحبشة تنفيساً عليهم وتخليصاً لهم من أزمة الحصار والإيذاء،  وفي ذلك دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم حريص على مصلحة المسلمين، عزيز عليه أن يراهم في عنت ومشقة، رحيم بهم،  وهو بذلك يعطي القدوة لأئمة المسلمين وكل من يلي شيئا من أمور المسلمين أن يكونوا أرأف وأرحم بالمستضعفين، وأن لا يقصروا في تخليصهم من الأزمات والمحن ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

لقد كانت هذه الهجرة خلاصاً لأولئك المعذبين والمضطهدين، وخروجاً بهم من مأزقهم وضائقتهم التي ألقاهم فيها زعماء قريش وأنصارهم، والهجرة من دار الكفر إلى حيث السعةُ والمتنَفَّسُ والتمكنُ من إقامة دين الله هي الحل المناسب، والمخرج المؤقت الى أن يأتي الفرج والنصر، فقد هاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أرض قومه بعد أن دعاهم فلم يستجيبوا، قال الله في ذلك: ((وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم))(2) وقال أيضاً : ((وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين))(3).. ففي الهجرة إذاً متنفس للدعوة، ومتسع للذين ضاقت عليهم السبل في بلادهم من المسلمين المومنين، يصدق ذلك قوله تعالى : ((ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مُراغما كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ثم يدرك الموت فقد وقع أجره على الله))(4). وقد تكون الهجرة من دار الكفر أمراً مفروضاً اذا كانتهي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الدين، وكان الشخص قادراً عليها، قال الله تعالى  : ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الارض، قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها؟! فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفوراً))(5).

2- كانت هذه الهجرة أيضا تربية لتلك الجماعة المؤمنة المهاجرة، تربيةً إيمانية عقدية جهادية، تعلموا فيها الصبر والثبات على دين الله، وتقديم مصلحة الاسلام على كل ما عداه، من النفس والمال والولد والبلد والعشيرة، تعلموا فيها قيم الإسلام ومكارمه وفضائله بطريقة عملية في واقع هجرتهم، سواء في طريقهم الى الحبشة أو في مكثهم بها.

3- كانت هذه الهجرة تخطيطاً من النبي صلى الله عليه وسلم للبحث عن أرض أخرىصالحة لأن تستوعب الإسلام وتحتضنه وتهيئ له الظروف المناسبة لينشأ وتقوم قائمته، وهذا شيء تفرضه السياسة الحكيمة والفطانة العميقة، لأن الاسلام في مكة لم يصادف سوى قلوب صلبة كصلابة جبالها وأحجارها، جافة غليظة كجفاف وغلظة مناخها وجوها الجغرافي.. فكان لابد أن يلتمس صلى الله عليه وسلم أرضا غير هذه الأرض، ومناخاً غير هذا المناخ، وقوما غير هؤلاء القوم. فكان أن وقع الاختيار في المرة الأولى على الحبشة لأنها أرض صدق ولأن ملكها لا يظلم عنده أحد. وفي هذا الاختيار وتعليله دليل واضح على أنه صلى الله عليه وسلم كان أعلم أهل زمانه بواقعه وزمانه، وأفقههم بمحيطه العام والخاص، وأن نجاح الدعوة مفتقر إلى ذلك، ومن ثم كان لزاماً على الذين يباشرون أعمال الدعوة ووظائف التربية أن ياخذوا حظهم من فقه الواقع والعلم بأحوال الناس..

4- ملك الحبشة ورجاله لم يكونوا على دين النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا اهل كتاب، ومع ذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يهاجروا إليهم ويلجؤوا إلى ديارهم وحمايتهم، وهذا يدل من جهة الفقه والاستنباط على جواز احتماء المسلمين بغير المسلمين إذا كان هذا الاحتماء لا يمس شيئاً من دينهم فضلا عن أن يكون على حساب دينهم.

5- في قوله صلى الله عليه وسلم لمهاجري الحبشة : ((… حتى يجعل الله لكم فرجاً مما انتم فيه…))، تعليم المسلمين وتربيتهم على ضرورة ترسيخ الثقة بالله وبنصره. لأن ذلك من شأنه أن يقوي القلوب ويثبت الأنفس، ويهون الشدائد والمحن التي تعترض المومن في طريقه إلى الله عز وجل.

د. محمد الروگي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>