تمر الشهور بسرعة ويعود إلينا رمضان المبارك، الشهر الذي شرفه الله تعالى بنزول خير الكتب السماوية على خير الرسل، محمد(ص)، قال تعالى {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 185) وقال عليه الصلاة والسلام : “أتاكم رمضان، شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم” ـ رواه النسائي والبيهقي ـ
وبقدوم شهر البركات، ومن خلال تأملي في واقع الناس وهم يستقبلون أو يصومون رمضان أطرح على نفسي السؤال التالي : هل الصوم عادة أم عبادة؟ ذلك أنه من خلال معاشرتي للعديد من الناس وجدت أن أغلبهم لا يعطون رمضان حقه كفريضة شرعية أمرنا الله تعالى بأدائها، نسوا خلالها قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}(البقرة : 183) وقوله (ص) “بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج البيت” ـ متفق عليه ـ ، وقوله عليه الصلاة والسلام كذلك “عرى الاسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الاسلام، من ترك واحدة منهن، فهو بها كافر حلال دمه : شهادة أن لاإله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان”(أبو يعلى في مسنده بسند حسن).
إن الواجب الذي تفرضه هذه الفريضة الاسلامية على أفراد الأمة هو أداؤها خير أداء، بدءا من استقباله في النفوس، الاستقبال الذي يبين الشوق إليه لما يتيحه من فرص لجلب الخير ودفع المفاسد والشرور عن النفس وزرع الحسنات والابتعاد عن السيئات، مرة في السنة، وانتهاء بإخراج زكاته والإحسان إلى الفقراء والمحتاجين. فكثير من الناس ينظرون إلى رمضان من غير هذه الزاوية، ينظرون إليه كإحدى العادات الاجتماعية التي تعاقد أفراد المجتمع على ممارسة شعائرها وطقوسها مرة في السنة، فتجد المرء يصوم نهاره ولا يستفيد من ذلك إلا العطش والجوع، لأن صيامه افتقد إلى العناصر الأساسية والضرورية التي تجعل من أدائه لهذه الشعيرة أداء متكاملا ومتفقا مع ما جاءت به الشريعة الاسلامية وليس مع تعاقد عموم الناس عليه وشاع بينهم، فما الذي يدفع بالمرء إلى عدم أداء هذا الفرض على الوجه الكامل؟ بالنسبة إلينا، ومن خلال محاورات في هذا المجال مع العديد من الناس تبين لنا أن السبب يعود لواحد من اثنين إما لعدم التزام المرء بالاسلام، الالتزام الواعي والشمولي، وإما لعدم فهمه الفهم العميق والصحيح لفريضة الصوم، كما لباقي الفرائض الأخرى. وإن كان السبب الأخير هو الطاغي علىالعموم، إذ نجد أن أغلب الناس يؤمنون بفريضة الصوم لكنهم لا يطبقونها على الوجه الصحيح، وكما أمرت بذلك الشريعة الاسلامية.
فما أمرت به الشريعة الاسلامية شيء، وما هو ممارس على مستوى السلوك اليومي شيء آخر، وبذلك يكون صوم الغالبية الساحقة صوم عادة اجتماعية أكثر منه صوم عبادة. وألا أدل على ذلك مظاهر التبذير والرياء والرفث والصخب التي تتفشى في كل رمضان، بل وفي كل شهر، متناسين ان الله تعالى لا يحب المسرفين، لأنهم إخوان الشياطين، كما يتناسوا الإحسان إلى الفقراء والمساكين، وحينما تمتلأ البطون وتخرج الوفود والجماهير إلى الشوارع والمقاهي والملاهي والشواطئ، يتناسى خلالها الناس أن الشهر شهر الطاعة والقيام، وأن الواجب يقتضي ترك الفواحش والمعاصي، حيث تتفشى خلال هذا الشهر ظاهرة تطلق عليها العامة (عبادة رمضان)، أي أولئك الذين يذهبون إلى المساجد إلا في رمضان، وحينما تنتهي أيامه، تعود النفوس إلى حالها، أغلبهم يذهبون لأنهم يسمعون بارتباط الصوم والصلاة، ومن لا صلاة له لا صوم له، في حين يذهب آخرون رياء. فهل أدوا حق الصلاة؟ كما فرضت؟ وهل سجدوا بالفعل لله الخالق المعبود؟ أم أنهم سجدوا لرمضان؟
إنها بعض الأسئلة التي تدعو للمزيد من ترشيد الأمة بموازاة مع غياب الوسائل الكفيلة بالترشيد والتوعية المطلوبة، في ظروف تخترق جسدها آفات ثقافة الاغتراب والتمييع، وهي ثقافة تستهدف الوصول إلى إحداث قطيعة شاملة بين المسلم المعاصر وبين دينه الحق، كما تسعى إلى جعل الدين الاسلامي مثله مثل باقي الأديان المحرفة.
إن الصوم عبادة فرضها الله تعالى، على عباده المؤمنين يوم الاثنين من شهر شعبان سنة اثنين من الهجرة المباركة، عساها تكون لهم جنة من النار، كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه أحمد وغيره “الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال”ز ولذلك لا بد من الوعي بهذه الفريضة الالهية، لأن في تركها كفر، ذلك أن الاسلام بني على أسس ومنها صيام رمضان كما أن من أفطر يوما في رمضان عمدا لم يقض عنه صيام الدهر كله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله (ص) : “من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه” (رواه البخاري وابن ماجة والترمذي). وقال الذهبي : وعند المؤمنين مقرر أن من ترك صوم رمضان بلا مرض، أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكون في اسلامه ويظنون به الزندقة والانحلال”.(فقه السنة للسيد سابق ـ ص 367).
ولتحقيق غاية الصوم لا بد من معرفة شروطه وأركانه وسننه ومكروهاته ومبطلاته وما يباح للصائم فعله، وما يعفى عنه فيه وكذلك الكفارات، وكلها من الأساسيات، وأن لا يكتفي الانسان بترديد ما يتداول في الشوارع والمقاهي وبين العامة والجاهلين، وأن يخلص النية لله، وهي عزم القلب على الصوم امتثالا لأمر الله عز وجل أو تقربا إليه لقوله(ص) “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” وقوله(ص) : “من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له”(رواه الترميذي). فكثير من الناس لا يبيتون الصيام من الليل،ن تراهم يسهرون، من بعد الفطور، في المقاهي أو قرب جهاز التلفزة يتابعون مغامرات الأفلام الساقطة حتى إذا ما انتهى اللعب واللهو والمسلسلات، انفضوا إلى الموائد يملؤون البطون ثم يناموا، وقد نسي البعض أن الرسول(ص) قال : “لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحر”(رواه أحمد). ذلك أن من فضائل تأخير السحور، قيام الليل وحضور صلاة الفجر. فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال : “تسحرنا مع رسول الله(ص) ثم قام إلى الصلاة فقلت : كم كان بين الآذان والسحور، قال : قدر خمسين آية”(متفق عليه) هذا بخصوص من يعجل سحوره، فما بالنا بمن لا يصلي بالبتة، وهو يسمع آذان الفجر شهر الخيرات يدعوه إلى ذكر ربه وإلى الفلاح. إن الشهر شهر البركات والغفران، فلنغتنم أيامه ولياليه حتى نكون من عباد الله المخلصين وما ذلك بعسير إذا ما فهمنا ديننا ومقاصده فهما عميقا يخرجنا من الظلمات إلى النور.