حوار ساخن مع الإمام مالك رحمه الله في قضية النصح للحكام


المحجة : إمامَنا مالك، لقد غَمَرْتمونا بالفضل، ونوّرتم طريقنا بأجْوبتكم المصيبة في اللقاءين السابقين، لكننا في هذا اللقاء سنلقي عليكم بعض الأسئلة في موضوع حساس، نرجو ألاَّ يُسبِّبَ لكم إحْراجاً من جهة، ومن جهة أخرى نسأل الله تعالى أن يغفر لكم بمعالجته ويُنيلَكُم الدرجاتِ العُلَى. هذا الموضوع هو علاقة العلماء بالحكام الذين تسمُّونهم أنتم خلفاء وولاةً، ونُسميهم نحن حكاما لتحكُّمِهم في إرادة الشعوب ومصائرها وفق أهواء المغضوب عليهم والضالين عن الحق.

لقد عَلِمْنا أن بعض القانطين من انحراف أولي الأمر، واليائسين من اصلاحهم، عَابُوا عليْكُم دخولكم على الوُلاَّة وأولي الأمر، فماذا قلتُمْ لهذا العائب عليكم؟.

الإمام مالك: قلت له : يرحمك الله، وأيْن المتَكَلِّمُ بالحق؟ لأنه من حَقِّ كل مسلم جعل الله في صَدْره شيئا من العلم والفقه أن يدْخُلَ إلى سُلْطانٍ يأمره بالخير، ويَنْهَاه عن الشر، ويَعِظُه، حتى يَتَبَيّنَ دخول العالم من  غيره، لأن العالم إنّما يدخل على السلطان يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفَضْلُ الذي بَعْدَه فضل.

المحجة : إمامنا مالك، ما هي نوع المسؤولية الملقاة على عاتق الولاة وأولي الأمر؟.

الإمام مالك: مسؤوليتهم عامة وعظيمة تشمل الصغير والكبير من أمور الرعية، ولقد دخلت ذات يوم على أحد الولاة المفرّطين، فقلت له :

((افتقِد أمور الرعية، فإنك مسؤول عنهم، وإن عمر بن الخطاب كان يقول : والذي نفسي بيَدِه لو هلك جَمَلُ بشاطئ الفرات ضياعا، لظننْتُ أن الله يسألُني عنه يوم القيامة.

المحجة : إن الحكام من بعدكم كانوا يصطنعون الشعراء لمدحهم والثناء عليهم، وحكامنا نحن اصطنعوا لأنفسهم الجرائد والمجلات، والقنوات الإذاعِيَّة والتلفزية للثناء عليهم وتضليل الشعوب عن الأهداف والقضايا المصيرية، فهل حصلت لكم تجربة من هذا النوع مع بعض حكامكم؟.

الإمام مالك: نعم، لقد جمعتني الأقدار بوالي المدينة، وسمعت أحداً من الحاضرين بالمجلس يثني عليه، فَلَمْ أطِق صبراً، وقلت له غاضبا : ((إياك أن يَغُرَّك هؤلاء بِثَنَآئِهم عليك، فإن من أثْنى عليك، وقال فيك من الخَيْر ما لَيْسَ فيك، يوشِك أن يقول فيك من الشَّرِّ ما لَيْسَ فيك، فاتَّقِ التَّّزْكِيَة منك لنفسك، أو تَرْضَى من أحَدٍ يَقُولُها لك في وجهك، فإنَّك أنْت أعْرَفُ بِهَا مِنْهُمْ.

فإنه قد بلَغَنِي أن رجلا امتدح رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي ((قَطَعْتُمْ ظَهْره -أو عُنُقهُ- لو سَمِعَهَا ما أفْلَحَ)).

المحجة : وهل سبق لكم أن كتبتم رسالة في موضوع النصح لبعض الخلفاء؟.

الإمام مالك: نعم، لقد كتبتُ لبعض الخلفاء رسالة أقول له فيها : ((اجْعَل لله تعالى من نفسك نَصِيباً بالليل والنهار، فإن عُمرك ينقص مع ساعات اللَّيْل والنَّهار، أنت قَائِمٌ على الأرض وهو يَسِيرُ بك. فكُلَّما مضتْ منه ساعة، مَضَتْ ساعةٌ من أجَلك، والحَفَظَةُ لا يَغْفُلُون عن الدِّقِّ والجِلِّ -الصغير والكبير- منْ عملِك، حَتَّى تَمْلأ صحيفتك التي كتبَ الله عليْك، فعليك بخلاص نفسك، إن كنت لها مُحِبّاً، واحْذَرْ ما حَذَّرك الله تعالى، فإنه يقول: ((ويُحَذِّرُكم اللّه نَفْسَهُ)) ولا تَحْقِرْ الذّنبَ الصغير مع ما قَدْ علمْتَ من قول الله تعالى ((فَمَنْ يَعْمَل مِثْقَال ذَرّة خَيْراً يره، ومن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)) وقال : ((ما يَلْفِظُ من قَوْلٍ إلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)).

وحافظ على فرائض الله تعالى،  واجْتَنِبْ سخطه، واحذَر دعوة المظْلُوم، واتق يوماً ترجِعُ فيه إلى الله))والسلام.

المحجة : هل سبق لكم أن رأيتم بعض الخلفاء يمارس عملا منكراً لا يَرْضَى عنه الشرع؟ وكيف عالجت الأمر؟.

الإمام مالك: رأيت بين يَدَيْ هارون الرشيد الشَّطْرَنْجَ وهُوَ يَنْظُر إليه، فقلت له :

((أحَقُّ هَذاَ يا أمير المومنين؟)) قال : لاَ، فقلتْ له : ((فماذاَ بَعْدَ الحقِّ إلا الضلال)).

المحجة : وماذا كان ردُّ هارون الرشيد؟.

الإمام مالك: لقد استجاب للْحَقِّ، فرمَاهُ بِرِجْله، وقال : لا يُنْصَبُ بَيْن يَدَيَّ بَعْد.

المحجة : كان بعض الخلفاء في عهدكم على قَدَرٍ كبير من العلم الشَّرْعِيّ، عكس بعض حُكَّامِنا الذين تخرَّجُوا من الثكنات العسكرية ليقودوا الشعوب بالحديد والنار، فهل سبق لكُمْ أن ناظرتم بَعْض حُكَّامكم، وهل الْتَزَمُوا بآداب المناظرة؟.

الإمام مالك: لقد نَاظَرني أبو جعفر المنصور، إلاَّ أنه أثناء المناظرة رَفَعَ صوته بالمسجد النبوي، فقلتُ له : ((يا أمير المومنين، لا تَرْفع صوتك في المسجد، فإن الله تعالى أدَّبَ أقْواما، فقال : ((لاَ تَرْفَعوا أصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبيء ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بالقول..)) ومَدَح قومْا فقال : ((إن الذِينَ يَغُضُّونَ أصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ للتَّقْوَى)) وإن حُرمة النَّبِيِّ عليه السلام مَيِّتاً كَحُرْمَتِهِ حَيّاً)).

المحجة : كيف قابَلَ أبو جَعْفر هذا التوجيه؟.

الإمام مالك: اسْتَكَانَ لَهَا.

المحجة : نشكر إمامنا مالك على هذا الصبر، ونستسمحه ونسأل له الرحمة إذا كنا أتْعَبْنَاهُ في مِهْنَة المُعَانَاة.

——————–

أعد المادة العلمية لهذا الحوار : أبو زهرة، معتمدا على المراجع التالية : المدارك، الانتقاء، جامع بيان العلم. وأعد الحوار محررو الجريدة.

(*) ملاحظة : لقد وقع شيء من التصرف البسيط في بعض النصوص لإبراز فائدتها وجعلها مرتبطة بموضوع معين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>