إن المقصد الأصلي للشريعة الإسلامية هو تحقيق المصلحة في كل أحكامها، أو ما يعبر عنه بجلب المصلحة ودرء المفسدة. ومن الأمور البدهية : أن التعرف على هذه المصلحة يقتضي استفراغ الجهد من قبل المجتهد سواء على مستوى فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها، أو على مستوى التطبيق والتنزيل.
ويبقى الاجتهاد على مستوى الفهم والاستنباط نظريا ما لم يرق إلى مستوى التطبيق العملي، لأن المجتهد الذي يحصر مهمته في إعطاء الحكم للمسألة المعروضة دون تقدير لعواقب هذا الحكم يعتبر قاصرا عن درجة الاجتهاد أو مقصرا فيها ـ كما قال الدكتور أحمد الريسوني (1). وللجمع بين المستويين ـ مستوى النظر ومستوى التطبيق ـ فإن الأمر يتطلب دراسة الواقعة أو الحالة المعروضة دراسة وافية ترتكز على التحليل الدقيق لعناصرها وظروفها وملابساتها “إذ التفهم للنص التشريعي يبقى في حيز النظر، ولا تتم سلامة تطبيقه إلا إذا كان ثمة تفهم واع للوقائع بمكوناتها وظروفها، وتبصر بما عسى أن يسفر عنه التطبيق من نتائج وآثار، لأنها الثمرة العملية المتوخاة من لاجتهاد التشريعي كله”(2).
ومن جانب آخر، فالعلاقة الجامعة بين الحكم التشريعي ومقصده في الشريعة الاسلامية علاقة تلازم على مستوى التجريد، بيد أن مقاصد بعض الأحكام الشرعية ـ وإن كانت لازمة لها في ذاتها لزوما منطقيا مجردا ت قد تؤول إلى مقاصد وغايات أخرى أثناء التطبيق. وليس ذلك بسبب الأحكام الشرعية ذاتها، إذ هي رامية إلى الحق، معصومة عن الخطأ، ولكنه بسبب الخصائص الواقعية للفعل، أو بسبب الأعراض والملابسات المختلفة التي حفت الأفعال أثناء التطبيق العملي.
وفي سبيل التوفيق بين الأحكام الشرعية المجردة، وبين الوقائع الجارية بما يدفع حياة المسلم إلى ما يحقق المصلحة المرجوة والثمرة المتوخاة، ويدرأ المفسدة الطارئة، ينبغي صياغة الأحكام بالنسبة لكل وضع واقعي صياغة تراعي فيها انعكاساته على مختلف جوانب ذلك الوضع بحيث تتكامل المصلحة فيها، ولا يؤدي تحقيق نفع في بعضها إلى حصول ضرر في بعضها الآخر قد يفوق ذلك النفع. وحاصل الأمر ـ كما قال الدكتور حسين حامد حسانـ “أنا لا نقف عند ظاهر الأمر فنحكم بمشروعية الفعل في جميع الحالات، وتحت كل الظروف، حتى في الحالات التي لا يحقق فيها الفعل المصلحة التي شرع لتحقيقها، أو كان تحقيق الفعل لهذه المصلحة يترتب عليه فوات مصلحة أهم، أ حصول ضرر أكبر، وبالتالي فإننا لا نقف عند ظاهر النهي فنحكم بعدم مشروعية الفعل في جميع الحالات، وتحت كل الظروف حتى إذا أدى ذلك إلى حصول مفسدة أشد من المفسدة التي قصد بالمنع من الفعل درؤها، بل الواجب تحصيل المصلحتين، ودرء أشد الضررين”(3).
إن كل ما سبق ذكره حول ضرورة التوفيق بين أحكام الفقه المجردة، وبين الوقائع الجارية للوصول إلى تحقيق ا لمصلحة، يتطلب استشراف مآ ل الحكم قبل تنزيله على واقعه لمعرفة عما إذا كان سيحقق الغرض منه فيقع إجراؤه، أو لا يحققه فيقع تأجيله أو تحويله إلى حكم آخر.
وهكذا فالنظر إلى نتائج التطبيق ومآلاته يعتبر من أصول التشريع التي لا غنى للمجتهد عن مراعاتها أثناء تنزيل الأحكام الشرعية. يؤكد ذلك الإمام الشاطبي رحمه الله بقوله : “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالاقدام أو بالاحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأن عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من اطلاق القول بالمشروعية، ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”(4)
إن الإمام الشاطبي ـ من خلال هذا النص ـ فضلا عن كونهن يعتبر النظر في المآلات أصلا من أصول التشريع، فهو رحمه الله يحدد لنا المعنى الإجمالي لهذا الأصل، الذي مفاده : النظر إلى ما سيترتب عن تطبيق الحكم الشرعي من مصلحة، أو مفسدة.
فمهمة المجتهد إذن تتمثل في بذل الوسع قصد التوصل إلى معرفة المصلحة التي من أجلها شرع الفعل، أو المفسدة التي من أجلها منع، بمعنى أن مشروعية الفعل رهينة بتحقيق المصلحة المقصودة، لكن إذا كان الفعل غير محقق لهذه المصلحة، او كان مع تحقيقه لها مفوتا لمصلحة أهم أو مؤديا إلى حدوث مفسدة أعظم، فالمجتهد يمنعه، كما أنه يحكم بالمنع من الفعل دفعا لمفسدته إذا كان هذا المنع لا يؤدي إلى حدوث مفسدة تساوي أو تزيد. أما إذا كان العكس فإنه لا يمنع من الفعل.
ويبقى مجال النظر في المآل بالنسبة للمجتهد صعب المورد ـ كما قال الامام الشاطبي ـ ومن مظاهر هذه الصعوبة ما يتطلبه من شروط يأتي في مقدمتها شرط معرفة الواقع الذي لم يحظ ـ في نظري ـ بشيء من الدراسة الجادة، والبينان الشافي، والتأصيل العلمي.
عموما، إن العمل على تطبيق الأحكام الشرعية في الواقع، أو نقلها من صفة التجريد إلى مرحلة التطبيق العملي، يحتاج إلى منهج مبني على فقه تطبيقي ولا يكتفي بالتجريد المنطقي. ونحسب أن افتقارنا إلى هذا النوع من الفقه (فقه تنزيل الأحكام) هو السبب المهم في تأخر اثمار الجهود المضنية التي بذلت من قبل فقهاء الأمة المخلصين. لذلك فالضرورة أضحت ملحة أكثر من أي وقت مضى لقيام فقه منهجي يراعي مكونات المكلفين، وعوامل تشكيل شخصياتهم… أو بعبارة جامعة يراعي المآلات الشرعية كما سبق بيان معناها ـ من خلال كلام الامام الشاطبي .
ذ. عمر جدية
—————————
1- نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي : 353
2- الدكتور فتحي الدريني : المناهج الأصولية : 5
3- نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي : 194-195
4- الموافقات : 4/195
بارك الله فيكم وبكم