4- الأخوة الإسلامية قوة للتماسك وحالة للصمود والثبات:
لقد أعطت هذه الخطوة الرسالية -المؤاخاة- من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمارها المتجلية في تركيز الواقع الإجتماعي وخلق روح القوة التي تداعت أمامها كل القوى الأخرى رغم تفوقها المادي والعددي، ولعل المتتبع للسيرة النبوية يلاحظ أن المسلمين كانوا يتحركون من خلال الدافع الأخوي الإيجابي الذي حقق وحدتهم فكراً وهدفاً وأسلوباً، مما كان يخلق قوة التماسك وحالة الصمود والثبات مهما كانت قسوة ظروف الدعوة والجماعة المسلمة الأولى.
إذاً، إن الهدف البارز من المؤاخاة هو خلق روح القوة في الجماعة المؤمنة -رغم قلتها- هذه القوة التي ترتكز أولاً وأخيراً على الإيمان بالله وإعلاء كلمته، والتي كانت تتدعم بِسَنِّ مجموعة من “المنشطات” الإيمانية المتجلية في الدعوة للتزاور واللقاء، وتحديد نوعية التحية فيما بين المؤمنين، والشعور بالمسؤولية فيما بينهم في مواقع الشدة والرخاء، وتحمل مسؤولية إصلاح ما فسد من أحوالهم وعلاقاتهم ومخاصماتهم، وخلق روح الوحدة بينهم، وإثارة حالة الصفح فيهم بالعفو عن أخطائهم وتجاوزاتهم، والتناصح بينهم، واللطف والتراحم، وحسن الظن بهم والتعامل بينهم بروحية الإيثار، والشعور بمسؤولية التوعية في المجالات الروحية والثقافية والسياسية.. كل هذه النماذج والصور تصب في اتجاه واحد هو خلق روح القوة والوحدة والانسجام، والتي أصبحت سمة من أبرز خصائص الحياة الفكرية والثقافية والتنظيمية في فجر الدعوة الاسلامية.
ولا يفوتني -في هذا المقام- أن أشير إلى أن أوضح خصائص العلاقات التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع المسلم علاقة الرحمة والتراحم المُرَكِبة لجميع الصور “المعاملاتية” السابقة الذكر، علاقة تعتبر علاقة مميزة من علامات العلاقة الشعورية التي يحملها كل مؤمن حامل للإيمان كحقيقة في تفكيره تعكس أسلوباً وطريقة في حركته اليومية، ويتجلى ذلك من خلال قوله تعالى في سورة الفتح الآية 29: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ والذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ على الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)).
ولعل سريان هذه الروح التراحمية في جسم الجماعة المسلمة هو الذي ساهم في تحول واقعها إلى واقع محبة وسلام، بل كانت الكلمات الأولى في أي لقاء بين أفرادها هي كلمة السلام.. التي توحي بالراحة والطمانينة من أي اعتداء على النفس أو العرض أو المال مما يجعل العلاقة بينهم قائمة على الثقة والمحبة المتبادلة، وقد يكون الحث على جعل التحية “السلام عليكم” والتي أوجب الله ردها حتى في حالة الصلاة التي يمنع فيها الكلام بغير ذكر الله، في قوله تعالى في الآية 86 من سورة النساء : ((وإذاَ حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً))، ولتزكية حالة التراحم هذه، حث الله عز وجل على التزاور الذي يحقق التلاقي ويفتح آفاقاً جديدة للمؤمنين على المستوى الفكري والإيماني الذي يفرضه لقاء الإخوان والذي كثيراً ما يؤدي إلى تحقيق مكاسب دعوية وبالتالي اجتماعية وروحية… ما أحوج رجال الدعوة والعمل الاسلامي -خصوصاً- إليها في هذه الفترة العصيبة من حياة أمتنا الاسلامية التي تعيش في كنف “نظام دولي” جائر يخطط لإبادتها من خلال إبادة الحركات الاسلامية العاملة على واجهة الحدث اليومي المناهض لهذا النظام المستكبر وعملائه من أبناء جلدتنا.
ومن أروع التوجيهات الرسالية في هذا المقام هو وضع شروط لهذا التزاور والتراحم لضبط واقع الإخوان ضبطاً يستجيب لأهداف هذه التشريعات -التزاور والتراحم..-، يقول تعالى في الآية 26 من سورة النور : ((وإن قيل لكم ارجعوا، فارجعوا، ذلك أزكى لكم)) إنها منهجية سامية في التعامل بين الإخوان… منهجية تمثل حالة البراءة والصراحة المراعية لواقع وظروف الإخوان النفسية أو العملية… إنها دعوة إلى خلق الانتظام داخل الصف الإيماني الواحد.. إنها حالة لا تسقط في خلق حالة الاحراج والتعدي على خصوصيات المؤمنين، وبالتالي تتفادى خلق حالة التذمر أو إحراج تحد من حركة الفرد اثناء قضاء حاجاته الشخصية.
والاسلام وهو يؤسس لمفهوم الأخوة الإسلامية يضع لها سياجاً يحميها من الترهل والإنكماش، سياجاً مادته الأساسية الإيثار التي تمثل أروع صور الإخاء والتعاون والتكافل الإجتماعي الذي ترسمه الآية 9 من سورة الحشر ((والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) ذلك أنه عند الإيثار على النفس تتبين جواهر الكرماء على حد قول الإمام علي رضي الله عنه.
إن الأخوة ليست مجرد العيش بالمشاعر والأحاسيس مع من تشعر أنه أخوك في الدين والمعتقد -وإن كان ذلك مطلوباً- إن الأخوة الحقيقية هي التي تدفعك بخلفياتها وآدابها -التي سنتحدث عنها- المنطلقة إلى الوقوف مع أخيك في ضرائه قبل سرائه، بل في حزنه قبل فرحه وشدته قبل فرجه، لأن هذا النوع من التعامل هو المحك الحقيقي والكاشف الصحيح عن الشعور بالأخوة، مدفوعاً إلى كل ذلك من خلال إيمانك بالله الذي يريد لنا أن نكون رحماء كما هو رحيم ورحمان حتى تظهر صفاته الجميلة في أخلاقنا فكراً وسلوكاً، وحتى نلامس عظمته سبحانه وتعالى من خلال تشريعاته.