قال تعالى : ((ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً))-الإسراء الآية 79-، رعاك الله يا مدارسنا، لقد تعددت وسائل التربية في الإسلام وتعددت المؤسسات التكوينية مما جعل تاريخنا عامراً بالعظماء الأتقياء عمالقة الدنيا ورجالات الحياة، الذين يحملون في ضميرهم عبء هداىة البشرية ومسؤولية ترشيدها، ومن بين هذه المدارس مدرسة قيام الليل حيث الخلوة بالله في سكون الليل وخشوعه، والتنعم بمناجاة الله في هدوء الليل وصفائه، والأنس بالله في وحشة الليل وظلامهِ، إنها فترات انقطاع عن شواغل العيش تتصل فيها روح المسلم بعالم السماء تعانق أرواح الملائكة الأطهار الصفوة الأخيار لتكتسب إشراقة ملائكية، والسيد الرسول صلى الله عليه وسلم إمام هذه المدرسة وقائدها، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان ينام أول الليل ويقوم آخره فيصلي))-متفق عليه-، وليس هذا القيام سهر وتعب كما يبدو وإنما هو نعيم ولذة، قال أبو سليمان الدراني : ((أهل الليل في ليلهم أشد لذةً من أهل اللهو في لهوهم))، وقال بعضهم : ((ليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة فحلاوة المناجة ثواب عاجل لأهل الليل)). وقيام الليل فيه انتصار على تلبيس إبليس والتخلص من عقده، قال صلى الله عليه وسلم : ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدةٍ: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان))-متفق عليه-.
نعم إنه انتصار على النفس والذنوب، جاء رجل عند الحسن فقال : ياأبا سعيد إني أبِيتُ مُعافى وأحب قيام الليل وأعد طهوري، فما بالِي لا أقوم؟ قال : ذنوبك قيدتك، فليحذر العبد في نهاره ذنوباً تقيدهُ في ليله. والحبيبُ المصطفى يقرر ذلك فيقول : ((عليكم بقيام الليل فإنَّه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى ربكم، ومنهاة عن الاثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد))-رواه الترمذي-، وإليك أخي هذا النموذج من الذين تخرجوا من مدرسة القيام، كان دِينار العيَّار إذا جنه الليل أخذ في البكاء ويقول لنفسه ويحك يادينار! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟ وذلك إلى الصباح، فقالت لَهُ أمه في بعض الليالي : أرفق بنفسك، فقال: دعيني أتعب قليلاً لعلي أستريح طويلاً، يا أمي إن لي موقفا طويلا بين يدي رب جليل، ولا أدري أيؤمر بي إلى الظل الظليل، أو إلى شر مقيل، إني أخاف عناءً لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه، قالت : فاسترح قليلاً، قال : الراحة أطلب أتضمنين لي الخلاص؟ قالت: فمن يضمنه لي؟ قال : فدعيني وما أنا عليه (من كتاب التوابين لابن قدامة الصفحة 256)، إنها مدرسة عظيمة تنتج من يملأ الأرض صدقاً واستقامةً.