مطلب الشُّورى في ظل الوضع الاجتماعي الرَّاهن


محمد أبو يوسف الحفظاوي

ليس المبدأ الاخلاقي في الاسلام في أساسه مجموع مؤسسات وأشكال وهياكل ابتداءً بل هو قبل ذلك وبعده شعور نفسي وانفعالات ومقاييس ذاتية فردية واجتماعية هي الأساس لما يلحقها من بناء اجتماعي وسياسي، لذلك يلاحظ مدى الخلل المنهجي وقدر الإصابة العقلية عندما نبتدأ من حيث يجب أن ننتهي في تعاطينا مع قيمنا من حيث التغيير للواقع ومن حيث التطبيق للمبدإ. إذ من الإصابات المنهجية في حياتنا الثقافية والفكرية ما نلاحظه من تناول للمبادئ والقيم في بعدها العام مع إغفال بعدها الخاص الذي منه يجب أن تكون الانطلاقة فعلا، فعلى سبيل المثال قد نطالب بالشورى في مضمونها السياسي والتنظيمي أو نتدارسها ونكتب عنها، لكن في مفهومها السياسي العام، ونغفل عن أهم أساس في الموضوع ألا وهو الاساس النفسي، لذلك تأتي هذه المحاولة لتتناول مبدأ الشورى كمطلب نفسي في ظل الأوضاع الراهنة حيث يلاحظ غياب هذا المبدأ بهذا المفهوم.

- أزمة السياسة العربية والحل الاسلامي الشامل :

إن الاستقرار هو أحد المقاييس الرئيسية للحكم على أي نظام اجتماعي أو سياسي، ولكي يتوفر هذا الاستقرار في المجتمع الديمقراطي لابد للأفراد الذين يكونونه من الاتفاق الجماعي على ما يسميه “لاسكي” “الغايات الكبرى في الحياة”(1) وهذا الاتفاق يعد من مقتضيات المنهجية الاستراتيجية لأنه يضمن توفير وتوجيه الجهود بثقلها المكثف في اتجاه معين ولأجل مقصد محدد، وهذا الاتفاق الذي هو السبب في الاستقرار رهين بانتشار الحرية ووجود الشورى وفي مقابل ذلك أي في ظل أوضاع اللاَّستقرار يسهل الحكم بفشل خيار أو أداء سياسي معين، كما يمكن الجزم بغياب عنصر الاتفاق على الأهداف والغايات الضرورية، وهذا ما يشهده الواقع العربي المضطرب، فالبلاد العربية التي تتشكل من عشرين دولة “مستقلة” باستثناء دولة فلسطين المغتصبة، لم تعرف في عمرها السياسي استقراراً، بقدر ما عاشت الأزمة في الحكم وفي غير الحكم، بسبب طغيان الحاكم سواء كان فردا أم حزبا أم قبيلة، وغياب مقومات المجتمع المدني المتمثلة في المؤسسات السياسية والديمقراطية الحرة والمستقلة والمؤثرة (الاحزاب، النقابات، المجالس التمثيلية، القضاء المستقل)  وشيوع الممارسات الاستبدادية والقمعية التعسفية التي تواترت من خيار سياسي إلى آخر ومن حاكم إلى آخر. لقد كانت السياسة العربية حقل تجارب لخيارات النخبة المتغربة التي فشلت في تحقيق المطالب والوفاء بالعهود والوعود، مما أصاب الوعي العام بخيبة أمل وصدمة عنيفة كان من ثمارها العودة إلى الذات وإلى الهوية بفهم شمولي “هذا الفهم الشمولي للاسلام- الذي ظل الفهم المترسب في ضمير الأمة الاسلامية الساري في بنيتها العقدية والثقافية حتى لما أتت عليها ظروف من الانحطاط فتعطلت جوانب من الشمولية في الواقع السلوكي”(2) فكان الرجوع إلى الهوية شعار الصحوة الاسلامية التي جعلت قضية الشمول القضية المركزية بيانا لها في بعدها التصوري العقدي وتبشيرا بها لتكون نهجا لواقع الحياة على أساس أن الهوية الاسلامية للأمة تتكون من العنصر العقدي والعنصر الأخلاقي والعنصر الاجتماعي والعنصر السياسي، وهذا العنصر الأخير بالذات كان عرضة للهجوم من الطرف العلماني لكن وُوجه بتصدٍّ شديد من طرف العلماء والمفكرين الإسلاميين الذين انطلقوا من الاصول الاسلامية التي تتسم بالشمول ليقرروا بعلم أن التعاليم الاسلامية كما جاءت لبيان حقيقة الوجود وقواعد التعامل والاقتصاد فإنها جاءت أيضا لبيان وإيضاح قواعد إدارة شؤون الأمة أي القواعد السياسية بأسلوب عام وصيغ كلية مما يفتح مجالا واسعا للاجتهاد العقلي لأجل تحديد الأشكال والأنماط الكفيلة بتنظيم العملية السياسية بحسب ما تقتضيه أوضاع الواقع وحيثياته وفق المبادئ الكلية العامة المقررة في هذا المجال. ومن بين قواعد الوحي في شأن السياسة والحكم هو وجوب قيام الأمة بتنظيم نفسها تنظيما سياسيا ينطلق من تشكيل مؤسسة رئاسية ويتسم بطابع جوهري وضروري هو مبدأ الشورى.

- مطلب الشورى في بعده النفسي والسلوكي التربوي :

إذا كان من أمارات التخلف والانحطاط في العالم العربي، تفشي ظاهرة الاستبداد فإن من أهم نتائج هذه الظاهرة في واقعنا السياسي والاجتماعي وحتى الفردي حالة الانقسام والتشتت وغياب التواصل والاتفاق بين القوى والجماعات ومكونات المجتمع عموما، وفي ظل هذه الاوضاع العامة يجب ألا نغيب قوة التأثير الخارجي أيضا في خلق وتكريس هذه الاوضاع من خلال التحكم في السياسات الوطنية ومن خلال وسائل حزبية وثقافية. لكن يجب أن نقرر أيضا بحق أن التدخل الاجنبي في شؤوننا نابع من انقسام الواقع العربي وغياب أدنى مستويات الاجماع او الرأي العام الوطني، لذلك ما نحتاجه أمام هذه المشكلات هو عامل راتق وآلية للتواصل بين مكونات المجتمع، ليس في صورة هياكل ومؤسسات سياسية ودستورية بل في صورة شعور، شعور حر في نفس الفرد بما يمنعه من الوقوع في هاوية العبودية، كما يزرع نفس الشعور في نفس الرعاة والمسؤولين والحاكمين بما يمنع من الوقوع في هاوية الاستعباد. والسبيل لذلك الشعور ليس الهياكل والاشكال ولكنه مفهوم أوسع وأعمق ينطلق من النفس في صورة إرادة حرة لقبول الآخر والتواصل معه والتفاعل مع آرائه واطروحاته، من هاهنا نكون قد وقفنا على المفهوم النفسي والشعوري الأوَّلي لمصطلح الشورى كمبدإ واسلوب يسري في كل تفاصيل الحياة. إذ من خصائصه اتساع المفهوم حتى يصبح تقليدا ثقافيا متداولاً بين الناس في أمورهم الخاصة والعامة، فيستشير الصغير الكبير ويستشير الجاهل العالم وهكذا دواليك، وما لم تتحول الشورى عندنا إلى ثقافة عميقة في خلايا وتفاصيل حياتنا الاجتماعية فلا جدوى من الكلام عن تنظيم أو نظام سياسي شوري، إذ لابد من سريان هذا المفهوم في إدارة البيت وفي تسيير الادارة والقسم أو أي نشاط، وبحصول الانتشار لهذا الخلق يحصل الوعي وبامتداد الوعي في المجتمع يتأتى تفهم تعقيدات الحياة ويساعد على الإحساس بالمسؤولية في التعاون والتضامن لمواجهة التعقيدات.

صحيح أن مفهوم الشورى المراد تطبيقها مستقبلا هو كما في الاصطلاح السياسي اشتراك الأمة أو الشعب في اتخاذ القرارات المصيرية بطريقة منظمة وبكامل الحرية أو هو تنظيم السلطة والعلاقات السياسية على مستوى النظام السياسي وعلى صعيد الأحزاب بالطرق السلمية، لكن هل واقعنا المريض يحتاج إلى علاج سياسي ابتداءً أم إلى علاج نفسي تربوي؟ إن الحديث عن الشورى على صعيد النظام السياسي يبدو حديثا راقيا وذو بعد حضاري، لكن واقعنا لا يطالبنا بأطروحة سياسية ما دام الأساس منخورا وهشاً. إن حاجة الواقع إلى مفهوم دقيق إجرائي يتنزل بحسب الأوضاع والظروف والحالة، ذلك أننا في حاجة ابتداءً إلى البناء النفسي -والقاعدة السيكولوجية- الذي يتشكل من خلاله ويتخلق في رحمه البناء الاجتماعي والسياسي.

————

الهوامش :

1- الديمقراطية في الولايات المتحدة الامريكية لريتشارد سكوت ص 139

2- صراع الهوية في تونس د. عبد المجيد النجار ص 33.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>