إن أية دعوة لابد أن تتوفر على شروط ضرورية لنجاحها، وتقبُّلِ الناس لها، عن اقتناع ورضاً وطواعية، وهذه الشروط واللوازم تتخلص في الهدف الواضح، والثقة المطلقة، والمعرفة الشاملة بالبيئة المراد استنبات الدَّعوة بها. والدعوة الإسلامية وإن تميزت بأهدافها عن غيرها من الدَّعوات إلا أنها تحتاج الى دعاة واثقين من هذه الأهداف، مقتنعين بها، وعاملين على الإقناع بها بالأسلوب الحكيم والوسائل المناسبة للعصر والمصر. وسوف نتعرض لبعض هذه الشروط واللوازم -إن شاء الله تعالى- بإيجاز.
أ- الهدف الواضح للدَّعوة :
إن الله تعالى رسم لجميع رسله، وعلى رأسهم خَاتِمُهُم عليهم الصلاة والسلام الهدف الأساسي لدعوة الناس الى دين الله عز وجل، وهو تكبير الله وإخلاص العبودية له وحده، قال تعالى : >وَمَا أَرْسَلْنَامِنْ قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلاَّ يُوحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ<-سورة الأنبياء- ولقد ثبت بروايات متعددة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطوف بالأسواق على القبائل، ويقول لهم : >قُولُوا لاَ إِلََهَ إِلاَّ اللَهُ تُفْلِحُوا< انظر سيرة ابن كثير 1/462.
وهذا الهدف لم يَحِدْ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم >سواء كان يُخَاطِبُ العشيرة الأقربين، أو يخاطِبُ قريشاً، أو يخاطِبُ العربَ أجْمَعينَ، أؤ يخاطِبُ العَالِمِين، إذ كان يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطْلُبُ منهم الانتهاء الى هدفٍ واحدٍ، هو : إخلاص العبودية لله، لا مُسَاوَمةَ في هذا المبدإ ولا لِينَ، ثم يَمْضِي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد، في خطة مرسومة، دات مراحِلَ محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة<-الظلال 3/734- لأن الاسلام في حقيقته الكبرى دعوة الإنسان لكي يُسْلِمَ أمْرَهُ كُلَّهُ لله تعالىسواء في العقيدة، أو العبادة، أو المعاملات، إِذْ في إسلام المَرْءِ أمْرَه لربِّهِ أكْبَرُ تحرُّر من العبودية لغير الله عز وجل.
ونزل التَّشْرِيعُ لترسيخ هذا المبدإ وتطبيقه عمليا، ولهذا نجِدُ التشريعات الربَّانِيَّةَ تُخْتَم بما يُشْعِر أن تنفيذها هو العُبُودية الحقّ >يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ< وبعد تَبْيين أنْصِبَة الورثة يقول عز وجل >فَريضَةً من اللَّه< ثم بعد ذلك، >تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ<-سورة النساء- وفي الصلاة >وأُقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي<سورة طه، وفي الطلاق >ياأَيُّهَا النَّبِيءُ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّة واتَّقُوا اللَّه رَبَّكُمْ<-سورة الطلاق-، وفي الجهاد >فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ واتَّقُوا اللَّهَواعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ<-سورة البقرة- الى غير ذلك من الآيات في مختلف التشريعات إشعاراً للمُسْلم أن طاعة الله عز وجل بصدق وإخلاص فيما شَرَّع هو حجَرُ الزاوية في الدِّين الاسلامي، وأن جوهر الدَّعوة الإسلامية هو دعوة الناس وإقناعهم بِتحْوِيل الوِجْهة نحو هذا الهدف الذي به يحيون حياة طيبة في الدنيا، ويُجْزَوْن أحْسَنَ الجزاء في الآخرة، وبه يَتَرَابَطُون، ويُنْصَرُون، ويتميَّزُون.
ب- الثقة المطلقة :
وهذه النقطة تشمل :
1- الثقة في الله تعالى، لأن الله جَلَّ ذِكْرُهُ هو صاحب هذا الدين، ولذلك فهو الممُتَكَفِّلُ برعاية الممومنين العاملين لإعلاء كلمة الله من جميع الوجوه.
ينصر من نَصَرَ الله >إن تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ<-سورة محمد- >فدَعَا رَبَّهُ أنِي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرْ…<-سورة القمر-.
ويُُذْهِبُ الغم عن المَغْمومين المكروبين >وذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ من الظالِمِينَ فاسْتَجَبْنَا لَهُ ونَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وكَذَلِكَ نُنْجِي المُومنِين<-سورة الأنبياء-
ويرزق الولد الصالح للصالحين المحرومين من نعمة الولد >وزَكَرِيَّاءَ إِذْ دَعَا رَبَّهُ لا تَذْرَنِي فَرْداً وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثين فاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ<-سورة الأنبياء-.
ويتكفل بالمأوى والرزق والتأييد للمومنين المُسْتَضْعفين من قِبَل المستكبرين : >واذكروا إِذْ أنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعفونَ في الأرضِ تَخَافُونَ أنْ يتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأيَّدَكُمْ بنَصْرِهِ ورَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ<-سورة الأنفال-.
ويُدافع عن الذين آمنوا >إنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الذِينَ آمَنُوا<-سورة الحج-
ويستهزئ بالمستهزئين بالإسلام والمسلمين >اللَّهُ يسْتَهْزِئُ بِهِمْ ويَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِْ يَعْمَهُون<-سورة البقرة-
ويُثبِّتُ الخائفين من المومنين الصادقين المسْتجيرين به >إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى ورَبَطْنَا علَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبَّنَا رَبُّ السمَاوَاتِ والأرْضِ لَنْ نَدْعُو مِنْ دُونِهِ إِلَهاً<-سورة الكهف-
وباختصار فالثقة بالله تعالى تشمل التجرد من كل حول وطول والاعتماد عليه وحده في كل الظروف والأحوال، ولقد ترك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التضرُّع الخاشع الذي يُبْرِز العبودية الحق للأنبياء والمرسلين >اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أشْكُو ضُعْفَ قُوَّتِي وقِلَّةَ حِيلَتِي، وهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينْ، أنْتَ رَبُّ المسْتَضْعَفِين وأنتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يتَجَهَّمُني؟ أمْ إِلى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أمْرَ نَفْسِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ عَلَيَّ غَضَبٌ فَلاَ أُبَالِي وَلَكِّن عافِيَتَكَ أوْسَعُ لِي<-ابن هشام 1/420-.
2- الثِّقَةُ في الدين الذي يُدْعَى إلَيْهِ النَّاسُ :
وهذا يتطلَّبُ :
التيقُّنَ من مصدَريِّةِ هذا الدين حتى يكون الإنسان متيقنا من أنه يَعْبُدُ الله عز وجل، ودراسةُ القرآن تشريعا، وأخْلاقا، وأسلوباً، وقَصَصاً وإخْبَاراً بالمغَيِّبَاتِ الماضية والمستقبلية، …. وكذلك دراسة السيرة لمعرفة كيف ابتدأ الرسول صلى الله عليه وسلم الدَّعوة -وحده- من الصفر، وكيف انتهى في ظرف ثلاث وعشرين سنة إلى تأسيس أعظم دولة لأعظم حضارة إسلامية فريدة في التاريخ.. كل ذلك وغيره يعطى التيقن التام بأن هذاالدين مرتبط بالله عز وجل. ارتباطا وثيقا، الأمر الذي يعطي اطمئناناً للنفس وسكينة للقلب، وبيَّنةً للعقل ليس عليها من مزيد.
إدراك الفرق الجوهري بين التشريع الذي تَضَمَّنَهُ الإسلامُ، وبين مختلف التشْرِيعاتِ البشرِيَّةِ ماضياً وحاضراً، إذْ في فهم الفرْقِ إدراك للإصلاح الشامل الذي حدث عندما سادَ الإسلام في عصرِ النبوَّةِ وبعْدَهُ في مختلف المحطَّاتِ التاريخية المُضِيئة، وإدراكُ للإصلاح الشامل الذي يتُوقُ إليه المسلمون في عصرالصحوة المباركة، وإدراك للعَجْزِ الشامل الذي تردَّتْ إليه مختلف الأطاريح العلْمَانِيَّة على اختلاف مصادرها وأشكالها وأساليبها.
إدْرَاك الفرق الجوهري بين العقيدة الإسلامية في بساطتها وانسجامها مع الفطرة، وبين مختلف العقائد البشرية الماسخة لكَرَامَةِ الإنسان وانسانيَّتِهِ، والمشوِّهَة لمصْدَاقِيَّة عقله، الذي به ساد الكون، وبه يستدِلُّ علىوجود رَبِّهِ واسْتِحْقَاقِهِ للعُبُودِية.
إدراك الفرق الجَوْهري بين الأخلاق الإسلامية في سمُوِّ غايتها، وأصالةِ منْطَلَقَاتِهَا، وشمولية مقاصدها، وعُمْقِ مراميها الحضارية… وبين القيم الجاهلية التي لا تتعدَّى الاعْتِزَازِ بالمال والولد والحسب، وبالتعبير العَصْرِي لا تتَعَدَّى الاعتزاز باللون والعرق، والقوة الاقتصادية والعسكرية، فمن يمْلِكُ هذه المقوِّمَات المادية له الحق في أن يُشَرِّعَ لنفسه وغيره ماشاء، وكيف شاء، ولا اعتراض على القيم والقوانين المُنْبَعِثَة من الأهواء المريضة بدون سَنَدٍ من عقْلٍ أو شَرْع.
وبالثقة بهذا الدين مصدراً، وعقدة، وتشريعا، وخُلقا ينْشأ الإنسان نشْأَةً جديدة، ويَسيرُ بين الناس بعقل جديد، وتوجُّه فرِيد، واهْتِمام خاصٍّ وأولَوِيَّاتٍ خاصة، وموازين خاصة،.. لينشئ حضارة خاصة تستحق أن تُسْتَرْخَصَ في سبيلها الأموال والأنفس، كما استرخصها المسلمون الأولون.
3- الثقة في المجتمعات الإسلامية التي تُكوِّن المادَّة الخام لاستنبات مبادئ الإسلام فيها، والثقة في الفِطَرِ البشرية السليمة التي لا تخلو أرض منها، فذلك يعطي الأمل في الإصلاح إذا تهيَّأتْ أسْبَابُهُ، وانْتَظَمَتْ قواعِدُهُ، وتَكوَّنَ رجاله، كما أنه يَطْرُدُ اليأْسَ الذي يسيطر أحيانا على النفوس الضعيفة، والهِمم الفاترة، التي تُشَلُّ قُدرتها أمام الجاهليَّة المُنَظَمَّة تنظيما مُبْهراً للعُيون الرُّمْدِ، والبصائر العُمْي، فيزدادُ المسلمون الضعفاء تفرقاً وتشتُّتا ليزداد الآخرون تكتُّلاً على حسابهم.. إنَّ الثقة في المجتمعات تدفع إلى الاقتحام والمبادأة اللازمة >التي تكون تارة بتكبير يُنبِّهُ، وتارةً برفع راية يُبْصِرُها أهل الخَيْرِ فيتَجَمَّعُون حَوْلها، إِذْ لا ينقص المسلمين اليوم في كثير من البلاد إلا رفع هذه الراية، فإنهم كثيرٌ عدَدُهم غزِيرٌ علمهم، جميل ذِكْرُهُمْ، إنَّمَا أضعفهم التشتُّتُ والضياع< -المنطلق/188-
قال عبد الوهاب عزام رحمه الله في الشوارد : >لا يَخْدَعَنَّكُمْ الفَسَادُ الظاهر، والشر المسْتَشْرِي ولا يُهَوِلَنَّكُمْ ذِكْرٌ فُلان وفلان من المفسدين، ففي الامة أخيار أكثر مِمَّنْ تَعُدُّون من الأشرار، ولكنها رايةٌ رُفِعَتْ للشَّرِّ فأوى إليها أشرارها، وهُرع نحوها أنصارها، ونفر منها الأخيارُ فلم ينحازوا إليها، ولم تُسْمع أصواتهم حَولَها، ولو رُفِعت للخير راية لانحاز اليها الأخيار وحَفُّوا بها وسكنتْ أمة الأشرار وقَلَّ جمعُهُمْ وخفَتَ ذكرهم. إن في الأمم خيراً وشراً، فإن رُفِعت رايةُ للخير انضوى إليها الأخيار في كل طائفةٍ، وغلب بها الخيْرُ في الأنفس التي يَغْلِبُ شَرُّهَا خيْرَها، ونَبَتَ خيْرٌ في نفوس لا خير فيها، فإن الإنسان لا يخلو من نَزْعَةٍ للحقِّ كامنة، وعاطفة للخير مسْتسِرَّة<-المنطلق/189-
4- الثقة في الدعاة : هذه الثقة هي رصيد ضروري في سِجِّلِ الدعاة لكي يُسْلِمِ النَّاسُ زمَامَ القيادة التوجيهية إليهم، ويتفاعلوا مع النداءات الإصلاحية المنطلقة أساساً من الدَّعوة إلى التعاون على البر والتقوى، وإلى تضافر الجهود -داخل الاعتصام بحبل الله المتين- من أجل إنهاض الأمة وإرجاعها إلى أصالتها ليستقيم أمرها وتَعْلُو رايتُهَا، وتتفجَّر طاقتها. وتَستأنف دورَهَا الحضاريَّ بإِحْيَاءِ رِسَالَةِ الشَّهَادَةِ على الناسِ >وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ<-سورة البقرة-
هذه الثقة لا تحصُل بين عشية وضحاها، ولا تعْتَمد على قرار يُسْتَصْدر من جهات عُليا أو وُسْطى أو دُنْيا، ولكنها تحْصُل وتتأكَّدُ وتترسَّخُ من خلال أوْصَافٍ مُعَيَّنة، ومواقف خاصة يتميَّزُ بها الدُّعاة، على رأسها : الإخلاص والتجرُّد والصدق، يضاف إليها العِلم الضروريُّ بالشرع ومقاصده، والفهم الدقيق لقضايا العصر ومشاكله، ومسارب النفوس والتواءاتها، والفقه العميق للسُّنن الكونية والطبيعة البشرية، مع ما يصاحب ذلك من حكمة الأسلوب والقول والتوجيه والتصرُّف في المواقف الحرجة…
لأن الدَّعوة ليست مذهبا فكريا بشرياً، ولاتياراً حزبيا لطائفة معينة، ولكنها صبغة ربانية تستهدف إصلاح الإنسان أينما كان أبيضه وأسوده، يمينه ويساره ووسطه، مستقيمه ومُعْوجِّهِ… فهي رحْمة يرْفع الدُّعاة الى الله عز وجل رايتها ليفيئ إليها من في قلْبه ولو مثقال ذرة من خير لنفسه وللناس جميعاً، فإذا ما حَاوَلَ أحدٌ تحجيمها، أو احتكارها، أو تسخيرها لخدمة أغراض خاصة، أو امْتِطَاءَها لتحقيق زعامة أو اكتساب جاه.. نَزَع الله عز وجل منها البركة وصَرَف قُلُوب الناس عَنْهَا لأنه لا فرْق آنذَاك بين حِزْبِ عِلماني سياسي بشري، وبين حِزْب تدَثَّر بالربانية ولَمْ يَلْتَزم بمبادئها وشروطها وبتحمَّلْ تبعاتها وتكاليفها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم >إن اللَّهَ تَعَالَى إذا أحبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ، فَقال : إنَّي أُحِبُّ فُلاناً فَأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاء، فيَقُولُ : إنَّ الله يُحِبُّ فُلاناً فأحِبُوهُ ، فَيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاء، تمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأرْضِ. وَإذَا أبْغَضَ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ : إنِّي أبْغَضُ فُلاناً، فأبْغِضْهُ فَيُبْغِضُهُ جِبريلُ ثُمَّ يُنَادِي في أهْلِ السَّمَاءِ، إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فلاناً، فأبْغِضُوهُ فَيُبْغِضُهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ البَغْضَاءُ في الأرْضِ<-رواه مسلم رياض الصالحين 164-
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قُدوة المسلمين في الدَّعوة وغيرها يحْتلُ في قُلوب كل الناس المكانةالعليا، وإنْ كانوا من أعدائهِ، وشواهد هذه المكانة كثيرة نشير إلى طرف يسير منها :
1- أن قريشا بأكابرها وأصاغرها أطلقوا عليه لقب >الأمين<.
2- أن القرشيين كانوا يضعون عنده >الودائع< ولو لم يومنوا بدعوته.
3- أنهم حكموه في وضع الحجر الأسود ورضوا بحكمه.
4- اختارته خديجة رضي الله عنها زوجا لما تحلى به من صفات لا توجد في غيره.
5- أن قريشا شهدت له بالصدق عندما قال لها : إذا أخْبَرْتُكُمْ أن خَيْلاً بِالْوَادِي تُرِيدُ الإغَارَةَ عَلَيْكُمْ فَهَلْ أنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا : نعم ما جربنا عليك كدباً قط.
6- أبو سفيان يشهد له بالصدق -وهو خَصْمُه-أمام هِرَقْل، عندما سألهُ : هل كنتم تتهمونه بالكذب؟ قال : لا.
7- أبو جهل وهو مَنْ هُوَ في عدواته يشْهَدُ له بالصدق، حيث قال للأخْنَسِ بن شريق عندما سأله هذا الأخير : أخبرني عَن محمد : أصادق هو أم كاذب؟ قال أبو جهل : هل يوجد هنا أحد غيري وغيرك؟ قال : لا فقال له : >واللَّهِ إنَّ مُحَمَّداً لَصَادِقٌ ومَا كَذَب مُحَمَّدٌ قَطُّ<-كما جاء في أسباب النزول للواحدي ص 211، انظر الدعوة الإسلامية في عهدها المكي 195- .
ولقد حاول المناوئون بمختلف الوسائل تشويه سمعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان الواقع يكذبهم، والله عز وجل يفضحهم، فقالوا : ساحر، وكاهن، ومجنون، وكذاب، وشاعر، فقال الله عز وجل له : >مَاأنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بمَجْنُونٍ وإنّ لكَ لأَجْراً غَيْر مَمْنُون وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ<-سورة القلم-
وهو نفس المَنْحَى الذي يسلكه خصوم الدَّعوة اليوم، وهؤلاء لا يُخشى بأسهم، لأن الله تعالى يكذبهم ويدافع عن المومنين، ولكن المشكلة الكبري تَكْمُن في اهتزاز الصف الاسلامي من الداخل، حيث يَبْقى المسلمون يكفِّرُ بعضُهُمْ بعضاً، ويلعن بعضُهُمْ بعضاً، ويسفِّهُ بعضهم بعْضاً، لاختِلافاتِ في قضايا اجتهادية، أو فُروعٍ فقْهِية، لا تُوجِبُ صدّاً ولا إعْراضاً ولا تعاديا وتَدابراً. وهذه هي الحالِقة التي نسأل الله تعالى أن يقي الدعاة شرَّها وسُمومها.
أ. الفضل الفلواتي