في حقيقة التغيير


بأقلام القراء عبد الحق الطاهري

مقدمة :

لعل المتأمل للخطابات الدعوية والكتابات الحركية، التي تهدف إعادة بعث الحياة الإسلامية من جديد وجعل روح الإسلام دما يجري في شرايين المجتمعات المسلمة اسما ونسبا وتاريخا، يجدها تخص فكرة بل موضوعا هو موضوع “التغيير” وقد كثرت فيه الكتابة، بحثا في المنطلق والأصل  ثم الوسيلة، فالهدف والغاية. ومعظم هذه الكتابات لم تغفل مستويات الفقه، سواء تعلق الأمر بفقه الدين أو فقه الواقع أو فقه التنزيل.

غير أنه -شأن كل موضوع- لم يخل موضوع “التغيير” من التباسات تخص الجانب المفهومي للمصطلحات المستعملة في هذا الحقل من المعرفة بل في هذا العلم، لأن أبواب كل علم مصطلحاته. ومفهوم التغيير وإن كان أصيلا في اللغة العربية والمرجعية الإسلامية وذلك لوروده في القرآن الكريم في قوله تعالى >إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا مابأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال<-الآية 12 من سورة الرعد- وقوله تعالى >ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم<-الآية 54 من سورة الأنفال- ليس هاهنا يكمن اللبس لكنه يظهر من خلال رصد علاقته بمجموعة مصطلحات تستعمل في نفس الحقل. فالعلاقة الأولى هي بين مفهوم “التغيير” ومفهوم “الإصلاح” في حين العلاقة الثانية هي بين المفهوم الأول ومفهوم (الاستخلاف/التعمير).

إن “التغيير” في هذه الكتابات استعمل بمفهوم واحد هو تحول الأوضاع من حال إلى حال أحسن منه وفق مثال لا يكاد يفارق الكتاب في هذا المجال هو مثال الحياة النبوية والراشدية وحياة السلف الصالح، ولعل الاقتصار على فهم المصطلح في اتجاه واحد (الاتجاه الإيجابي) أملته في رأيي طبيعة الرؤية التي تحكم الكتّاب في هذا الموضوع وهم طبعا من جيل الصحوة وأبناء حركة البعث الإسلاميالحديث، إذ أنهم يهدفون إزالة الموْجُودِ وإيجاد الأنموذج المفقود بالنية الصالحة والعمل الصواب الإيجابي.

لكن مصطلح “التغيير” لا يوحي بالمعنى الإيجابي فحسب بل يؤدي عكس المعنى تماما  إذ يمكن أن يعبر به عن (التحول من الحسن إلى السيء) والمتأمل للآيتين السالفتي الذكر يكاد يجد أن مفهوم “التغيير” سلبي بل هو الراجح لأن الآية 12 من سورة الرعد تنتهي بقوله تعالى : >وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له…< وتبتدئ الآية 54 من سورة الأنفال بقوله تعالى : >ذلك أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم…< فالتغيير في الآيتين يوحي بالسلبية. وحتى وإن لم يكن “التغيير” قرين المفهوم السلبي فهو بالتأكيد ليس قرين المفهوم الإيجابي بل يمكن أن  يستعمل في كليهما مع التمييز، شأنه في ذلك شأن مفهوم (التطور) عند فلاسفة التاريخ. فالمصطلح يظهر لأول وهلة ذا معنى إيجابي هو معنى الرقي والإزدهار. لكنهم لم يفهموه كذلك بل جعلوه يؤدي معنى الحركة والتحول والتغيير من حال إلى حال آخر قد يكون أحسن منه وقد يكون أسوأ. فإن كان في اتجاه الحسن كان التغيير ذا مضمون إيجابي وعبر التطور عن التقدم والرقي وإن كان العكس عبر به عن التخلف والتقهقر وهو الأصح لأنه إذا استعمل مفهوم التطور في فلسفة التاريخ للتعبير عن التقدم فقط كانت كل حركة التاريخ إيجابية وكانت الأمور تسير من حسن إلى أحسن. وهو غير صحيح في تفسير حركة التارخ. وإلا ما كان لحركة البعث الإسلامي الحديث بل لكل الحركات الإصلاحية مبررا في الوجود، فما التاريخ إلا انعكاس لأفعال العاملين فيه إن خيرا فخير وإن شراً فشر.

وعليه فإن المصطلح الأنسب والأليق والذي يؤدي المعنى المراد (التحول نحو الإيجاب) هو “الإصلاح” ضد الإفساد، فالمغير إيجابا يسمى مصلحاً، والمغير سلباً يسمى مفسداً، قال تعالى : >ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوافي الأرض مفسدين<-الآية 84 من سورة هود- وقال بعدها >وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنها كم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله<-الآية 88 من سورة هود- وقوله تعالى على لسان الفرعوني الذي أراد أن يبطش به موسى : >إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين<-الآية 18 من سورة القصص-. وقوله تعالى : >وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون<-الآيتان 10/11 من سورة البقرة-. وقال تعالى في سورة هود الآيتان 116، 117 : >فلولا كان من القرون قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم وأتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون<. فالإصلاح يؤدي معنى التغيير الإيجابي، ولكن الذي يجعل هذا اللبس في نظري هو الاستعمال السياسي المبتذل والمختزل للإصلاح حتى أصبح يعني الترميم والترقيع فقط، وكثر الحديث عن القوى الإصلاحية المهادنة السطحية والقوى الثورية التغييرية الجذرية. لكن القرآن الكريم سماه إصلاحا فهو إصلاح ولن تكون حركات البعث الإسلامي الحديث إلا حركات إصلاحية تهدف إصلاح الأوضاع العامة للواقع المعيش، ثقافيا، اجتماعيا، اقتصاديا وسياسيا. ولعمري ذلك هو التغيير الجذري بل الحضاري الشامل.

وفي ما يخص العلاقة الثانية، علاقة “التغيير” بمفهوم (الاستخلاف/التعمير) فإن السؤال هنا هو: هل (الاستخلاف/التعمير) معطى أصلي و”التغيير” معطى إنتزاعي أم العكس؟ أو بعبارة أخرى هل (الاستخلاف/التعمير) مطلب أصلي و”التغيير” مطلب تبعي أم العكس؟

فالتعمير من العمارة قال تعالى >هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها<-الآية 59 من سورة هود- والاستخلاف يقتضي أن يكون المسلم خليفة الله في الأرض بكل ما تعنيه الخلافة من معنى قالتعالى >وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها…<-الأيتان 29/30 من سورة البقرة- وجعل من شروط الاستخلاف العلم، ومقتضيات هذا الأخير ثلاث (الدليل، الخشية والعمل) قال تعالى : >وعد الله الذين ءامنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم…<-الآىة 52 من سورة النور-. فالواضح أن مهمة المسلم في الكون هي مهمة عبادة قال تعالى >وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون<-الآية 56 من سورة الذرايات، وهي مهمة استخلاف وعمارة، وبتعبير أدق هي مهمة إقامة الدين. قال تعالى >شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه<-الآية 10 من سورة الشورى-. ولكن لما كانت هناك عقبات تحول دون إقامة الدين وجب إيجاد المناخ الملائم والأرض الخصبة لتحقيق هذا الهدف ولن يكون ذلك إلا بالإصلاح، ولهذا “فالتغيير” ليس هدفا في ذاته وأصله ولكنه تابع يدخل في القاعدة الأصولية (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). فالاستخلاف/ التعمير مطلب أصلي والتغيير/الإصلاح مطلب تابع.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>