ذ. أحمد البدوي
قرأت في العدد رقم خمسين من جريدة “المحجة” مقالا عن رجاء غارودي(*) انتهى فيه صاحبه إلى ان غارودي ما كان يهوديا ولا نصرانيا ولا مسلما… واحتج عليه فيما احتج عليه به بقول من أقوال الحافظ بن حجر في شرحه للحديث 349… إلخ.
ولا يهمني شخصيا ما آل إليه أمر الفيلسوف الفرنسي المشهور بقدر ما يهمني ما في الصف الاسلامي أو المحسوب على الإسلام من اصطناع للمعارك الدونكشوطية الخاسرة كـ”أم المعارك” في الحجم الكبير والتنقيب عن عقيدة غارودي أو الأشاعرة في الحجم الصغير… وهذه أمراض في التكوين العقلي – الوجداني، وترتيب المراتب والرتب والأولويات يجمعها بعض أهل المعرفة في كلمة “المنهج”، وعلى سبيل المثال لا الحصر كان الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- من أكبر حملة وحفظة هذه الإشكالية حيث حمل رحمه الله -ما استطاع الى ذلك سبيلا- على كل الذين يدخلون ويُدخلون الأمة في المعارك التي يستوي فيها الشيء وضده كأداء الركعتين والإمام يخطب يوم الجمعة، وعدد ركعات التراويح، وطول القميص -بالسنتيمترات- واللحية ومستوى استواء الظهر عند الركوع، ومدى اقتران الكعب بالكعب عند القيام والركوع، وتحريك السبابة أو عدمه عند التشهد، ومعارك السبكي وابن تيمية حول التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المرأة بالنقاب عوض الحجاب… الخ
ولا يخامرني شك قط في أن القضية، قضية منهج أولا وأخيراً، ولا شك عندي كذلك ان المنهج لا يُكتب بتكديس أقوال الحفاظ في الرأس خارج إطار الزمان والمكان والانسان والسياق والممكن وغير الممكن والحسن والأحسن والسيء والأسوء… وهي مقاييس، فتيسر له فتح نصف العالم في نصف قرن… ونحن لم نستطع حتى المحافظة على ذلك التراث الضخم الفخم، فكيف باكتساب مساحات جديدة إلى عالم الهداية… وأصبح همنا هو إلهاء الأمة بالمعارك التي يستوي فيها الشيء وضده، في الوقت الذي أتى ويأتي فيه الغرب على العالم الإسلامي ينقصه من أطرافه بل يحتل قلبه احتلالا للإرادات السياسية وضبطا للحكومات والمعارضات وتحديداً للمسارات حتى أصبحنا كما قال شاعر النيل رحمه الله :
لم يبق شيء من الدنيا بأيدينا *** إلا بقية دمع في مآقينا
كنا قلادة جيد الدهر فانفرطت *** وفي يمين العلا كنا رياحينا
كانت منازلنا في العز شامخة *** لا تشرق الشمس إلا في مغانينا
فلم نزل وصروف الدهر ترمقنا *** شزراً وتخدعنا الدنيا وتلهينا
حتى غدونا ولا جاه ولا نسب *** ولا صديق ولا خل يواسينا
لقد بلغ إلى علمي أن أهل الدعوة الاسلامية في فلسطين المحتلة سنة 1948 منقسمون اليوم الى نصف يقول بالمشاركة في الانتخابات إلى جانب شمعون بيريز ضد نَتَنْيَاهُو” ونصف آخر يقول بالمقاطعة، ومثل هذا الإشكال المشكل موجود عند مسلمي الديار الأوروبية والروسية ومثله في بلاد “التوحيد الخالص” التي تمنع الانتخابات الحرة وتضيق على الجمعيات إن لم تمنع تأسيسها أصلا… فما قول الحفاظ والقراء -العِلمي- في مثل هذا البلاء؟؟؟
ومعايير وملكات تكتسب -بعد توفيق الله تعالى- بالتدبر والتأمل والتفقه في الكون المقروء -القرآن- وفي الكون المنظور بعلومه الإنسانية والتجريبية… وعندي -وقد أكون مخطئاً- أن المشتغلين بالمعارك الدونكشوطية الهامشية التي تزيدنا تهميشا قوم بضاعتهم في هذا المجال قريبة من الصفر أو دونه… وإلا فأخبروني عن كتاباتهم الأكاديمية في أبواب هي من جوهر الدين وصُلبه وقلبه وروحه كالزامية الشورى، وموبقات الشرك السياسي -فرعونيا ونمروديا وقارونيا-، وعلاقات السيد والعبد القائمة اليوم بين الشمال والجنوب أو الغرب والعالم الاسلامي، والكيفيةُ العملية لتوظيف مال النفط -القاروني- في بناء إعلام راشد وتعليم قاصد وجيش قائد وحكم شوري رائد… أم أن هذه المطالب العلية والمقاصد السنية لا تدخل فيما يريدونه من جمع للجيوش الغثائية على تكفير وتبديع وتفسيق وغزو الموتى من الجهمية والكيسانية والحرورية، بينما لا نسمع لهم ركزا في غزو أكبر فرقة ضالة مضلة هي الصهيونية التي يستشرف بمقاومتها -فيمن يتشرفون بذلك- أبناء حزب الله (الشيعي) من تلاميذ راغب حرب ومحمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله.
إذا كان غارودي مخالفا للاسلام واليهودية والنصرانية فما هو القول السديد والحكم الرشيد في الذين باعوا المسجد الأقصى والقدس وحيفا ويافا وعكا وتل أبيب وهي التي حررها سادتنا وموالينا أبو عبيدة عامر بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد في جمع غفير كان يُحكم ترتيب الأولويات والمقاصد.
—————-
*- غارودي اليوم متهم في فرنسا بمحاربة السامية Antisémitisme وقد رفع اللوبي اليهودي دعوى قضائية ضده لتأليفه كتاباً حول ادعاء اليهود موت 6 ملايين منهم خلال الحرب العالمية الثانية واعتمادهم على هذه الأسطورة mythe في تأسيس دولة اسرائيل وإلزام الغرب بعقدة الذنب Culpabilté وضرورة التكفير عنها بالركوع والسجود الدائمين المتواصلين لإسرائيل… ويدافع عن غارودي في هذه القضية التي يجهلها اصحاب المعارك الهامشية المحامي الدولي المشهور جاك فيرجيز، نسأل الله تعالى أن يُخرج غارودي من هذه المحاكمة الظالمة الظلامية سالما غانما مهديا.